قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في الزاد النبوي :-

فصل

ولما دعا صلى الله عليه وسلم إلى الله عزَّ وجَلَّ، استجاب له عِبادُ الله مِن كل قبيلة،

فَكَانَ حائِزَ قصبِ سَبْقِهِم، صِدَّيقُ الأُمة، وأسبقُها إلى الإسلام، أبو بكر رضى الله عنه، فآزره فى دين الله، ودعا معه إلى الله على بصيرة، فاستجابَ لأبى بكر: عثمانُ بن عفان، وطلحةُ بن عُبيد الله، وسعدُ بنُ أبى وقاص.
وبادر إلى الاستجابة له صلى الله عليه وسلم صِدَّيقَةُ النِّساءِ: خديجةُ بنت خُويلد، وقامت بأعباء الصِّدِّيقيَّةِ، وقال لها: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسى". فَقَالَتْ لَهُ: "أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ الله أبَداً"، ثم استَدَلَّت بما فيه من الصفات الفاضلة، والأخلاق والشيم، على أن مَنْ كان كذلك لا يُخزَى أبَدَاً، فعلمت بكمال عقلها وفِطرتها، أن الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، والشِّيم الشريفة، تُناسِبُ أشكالها من كرامة الله، وتأييده، وإحسانه، ولا تُناسِبُ الخزىَ والخِذلان، وإنما يُناسبه أضدادُها، فمَن ركَّبه الله على أحسنِ الصفات وأحسن الأخلاق والأعمال إنما يليقُ به كرامتهُ وإتمامُ نعمته عليه، ومَنْ ركَّبه على أقبح الصفاتِ وأَسْوَإِ الأخلاق والأعمال إنما يليق به ما يناسبُها، وبهذا العقل والصدِّيقية استحقَّت أن يُرْسِلَ إِلَيْهَا رَبُّها بالسَّلاَمِ مِنْهُ مَعَ رَسُولَيْهِ جِبْرِيل وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.


فصل


وبادر إلى الإسلام علىُّ بنُ أبى طالب رضى الله عنه وكان ابنَ ثمان سنين، وقيل: أكثرَ من ذلك، وكان فى كفالةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذه من عمهِ أبى طالب إعانةً له فى سَنَةِ مَحْلٍ.


وبادر زيدُ بنُ حارثة حِبُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكان غُلاماً لخديجة، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوَّجَها، وقَدِمَ أبوه وعمُّه فى فِدائه، فسألا عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو فى المسجد، فدخلا عليه، فقال: يا ابنَ عبد المطلب، يا ابنَ هاشم، يا ابنَ سيِّدِ قومه، أنتُم أهلُ حَرَم الله وجيرانه، تفكُّون العانى وتُطعِمُونَ الأسير، جئناكَ فى ابننا عِندك، فامنُن علينا، وأَحْسِنْ إلينا فى فِدائِه، قال: "ومَن هو" ؟ قالوا: زيدُ بنُ حارثة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَلاَّ غَيْرَ ذلِك" ؟ قالوا: ما هو ؟ قال: "أَدْعُوهُ فأُخيِّرُه، فَإن اخْتارَكُم، فَهُوَ لَكُم، وَإِن اخْتَارَنى، فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بالَّذِى أَخْتَارُ عَلَى مَن اخْتَارَنى أحَدَاً" قالا: قد رددتنا على النَّصَفِ، وأحسنتَ، فدعاه فقال: "هل تعرِفُ هؤلاء" ؟ قال: نعم، قال: "مَن هذَا" ؟ قال: هذا أبى، وهذا عمى، قال: "فأنا مَن قد علمتَ ورأيتَ، وعرفتَ صحبتى لك، فاخترنى أو اخترهما" قال: ما أنا بالذى أختارُ عليك أحداً أبداً، أنتَ منى مكان الأب والعم، فقالا: ويحكَ يا زيد، أتختارُ العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وعلى أهل بيتك ؟، قال: نعم، قد رأيتُ من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذى أختارُ عليه أحداً أبداً، فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أخرجه إلى الحِجرْ، فقال: "أُشْهِدُكُم أنَّ زَيْدَاً ابنى، يَرِثُنى وأرِثُه" فلما رأى ذلك أبوه وعمُّه، طابت نفوسُهما، فانصرفا،


ودعى زيدَ بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام، فنزلت: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، فَدُعِىَ من يَومئذ: زيدَ بن حارثة. قال معمر فى "جامعه" عن الزهرى: "ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة، وهو الذى أخبر الله عنه فى كتابه أنه أنعم عليه، وأنعم عليه رسوله، وسماه باسمه". وأسلم القسُّ ورقةُ بنُ نوفل، وتمنَّى أَنْ يَكُونَ جَذَعَاً إذ يُخرِجُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قومُه، وفى "جامع الترمذى" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه فى المنام فى هيئة حسنة، وفى حديث آخر: "أنه رآه فى ثياب بياض".

ودخل الناسُ فى الدين واحداً بعد واحد، وقريشٌ لا تُنكِرُ ذلك، حتى بادأهم بعيب دِينهم، وسبِّ آلهتهم، وأنها لا تَضُرُّ ولا تنفعُ، فحينئذ


شمَّروا له ولأصحابه عن سَاقِ العداوة، فحمى الله رسولَهُ بعمِّه أبى طالب، لأنه كان شريفاً معظَّمًا فى قريش، مُطاعاً فى أهله، وأهل مكة لا يتجاسَرونَ على مُكاشفته بشىءٍ من الأذى.

وكان مِن حكمةِ أحكم الحاكمين بقاؤُه على دين قومه، لما فى ذلك من المصالح التى تبدو لمن تأمَّلها.
وأما أصحابُه، فمَن كان له عشيرةٌ تحميه، امتنع بعشيرته، وسائرهُم تَصَدَّوْا له بالأذى والعذاب، منهم عمَّار بن ياسر، وأمُّه سُمَيَّة، وأهلُ بيته، عُذِّبوا فى الله، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ بهم وهم يُعذَّبون يقول:
"صَبْراً يا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ".

ومنهم بلالُ بنُ رباح، فإنه عُذِّبَ فى الله أشدَّ العذاب، فهانَ على قومه، وهانت عليه نَفْسُهُ فى الله، وكان كلما اشتدَّ عليه العذابُ يقول: "أحدٌ أحدٌ. فيمرُّ به ورقةُ بن نوفل. فيقول: إى واللهِ يا بلال أحدٌ أحدٌ، أما واللهِ لَئِن قتلُتُموهُ، لأتَّخِذَنَّه حَنَاناً".
رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيلَ إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذي أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.


وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك فى قوله:
{وَلا تَهِنُواْ وَلا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ ولِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139-141]، فجمع لهم فى هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهِممهم، وبينَ حُسنِ التسلية، وذكر الحِكمِ الباهِرَة التى اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، فقد استويتُم فى القرح والألَمِ، وتباينتم فى الرجاء والثواب، كما قال: {إِن تَكُونُواْ تَأَلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]، فما بالكم تَهِنُونَ وتضعُفُون عند القرحِ والألم، فقد أصابهم ذلك فى سبيلِ الشيطان، وأنتم أُصِبتم فى سبيلى وابتغاء مرضاتى.

ثم أخبرَ أنه يُدَاوِلُ أيامَ هذه الحياة الدنيا بين الناسِ، وأنها عَرَضٌ حاضِر، يقسمها دُوَلاً بين أوليائه وأعدائِهِ بخلاف الآخِرةِ، فإن عزَّها ونصرَها ورجاءَها خالصٌ للذين آمنُوا.



فصل: فى هجرة المسلمين إلى الحبشة حين اشتد الأذى عليهم


ولما اشتدَّ أذى المشركين على مَن أسلم، وفُتِنَ منهم مَن فُتِنَ، حتى يقولوا لأحدهم: اللاتُ والعُزَّى إلهُكَ مِن دون الله ؟ فيقول: نعم، وحتى إن الجُعَلَ ليمُرُّ بهم، فيقولونَ: وهذا إلهُكَ مِن دون الله، فيقول: نعم. ومرَّ عدوُّ الله أبو جهل بسُمَيَّة أم عمار بن ياسر، وهى تُعذَّبُ، وزوجُهَا وابنها، فطعنها بَحَرْبَةٍ فى فَرْجها حتى قتلها.
كان الصِّدَّيقُ إذا مَّر بأحدٍ من العبيد يُعذَّب، اشتراهُ منهم، وأعتقه، منهم بلالُ، وعامِرُ بن فُهَيْرَةَ، وأم عُبيس، وزِنِّيرَة، والنهدية وابنتها، وجارية لبنى عدى كان عمر يُعذِّبها على الإسلام قبل إسلامه، وقال له أبوه: يا بنىَّ أراك تَعْتِقُ رِقابًا ضِعافاً، فلو أنك إذ فعلتَ ما فعلتَ أعتقتَ قوماً جُلْدَاً يمنعونك، فقال له أبو بكر: إنى أُرِيدُ ما أُرِيدُ.
فلما اشتد البلاءُ، أذِنَ الله سبحانه لهم بالهِجرة الأولى إلى أرض الحبشة، وكان أوَّلَ مَن هاجر إليها عثمانُ بن عفان، ومعه زوجتهُ رُقيَّةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أهلُ هذه الهجرة الأولى اثنى عشَرَ رجلاً، وأربع نسوة: عثمانُ، وامرأته، وأبو حذيفة، وامرأتهُ سهلة بنت سهيل، وأبو سلمة، وامرأتُهُ أم سلمة هند بنت أبى أمية، والزبير بن العّوام، ومصعب بن عمير، وعبدُ الرحمن بن عوف، وعثمانُ بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وامرأتُهُ ليلى بنت أبى حَثمة، وأبو سَبْرَةَ بن أبى رُهْم، وحاطب بن عمرو،، وسهيل بن وهب، وعبد الله بن مسعود. وخرجوا متسللين سراً، فوفَّق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار، فحملُوهم فيهما إلى أرضِ الحبشة، وكان مخرجُهم فى رجب فى السنة الخامسة من المبعث،


وخرجت قريشٌ فى آثارهم حتى جاؤوا البحرَ، فلم يُدرِكُوا منهم أحداً، ثم بلغهم أن قريشاً قد كفُّوا عن النبى صلى الله عليه وسلم، فرجعوا، فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار، بلغهم أن قريشاً أشدُّ ما كانُوا عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلَ مَنْ دخل بجوار، وفى تلك المرة دخل ابن مسعود، فسلَّم على النبى صلى الله عليه وسلم وهو فى الصَّلاةِ، فلم يَرُدَّ عليه، فتعاظَمَ ذلك على ابن مسعود، حتى قال له النبىُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أن لاَ تَكَلَّمُوا فى الصَّلاةِ" هذا هو الصوابُ، وزعم ابنُ سعد وجماعةُ أن ابن مسعود لم يدخُلْ، وأنه رجع إلى الحبشةِ حتى قَدِمَ فى المرة الثانية إلى المدينةِ معَ مَنْ قَدِمَ، ورُدَّ هذَا بأن ابن مسعود شهد بدراً، وأجهز على أبى جهل، وأصحابُ هذهِ الهِجْرة إنما قَدِمُوا المدينة مع جعفر بن أبى طالب وأصحَابِهِ بعد بدر بأربع سنين أو خمس.

قالوا: فإن قيل: بل هَذَا الذى ذكره ابنُ سعد يُوافق قولَ زيدِ ابن أرقم: كنَّا نتكلَّم فى الصَّلاة، يُكلِّم الرَّجُلُ صاحبه، وهو إلى جنبه فى الصلاة حَتَّى نَزَلَتْ:
{وَقُومُواْ للهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأُمِرْنَا بالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الكَلاَمِ"، وزيدُ بن أرقم من الأنصار، والسُّورة مدنية،

وحينئذ فابن مسعود سلَّم عليه لما قدمَ وهو فى الصلاة، فلم يَرُدَّ عليه حتى سلَّم، وأعلمه بتحريمِ الكلام، فاتفق حديثه وحديث ابن أرقم.
قيل: يُبطِلُ هذا شهود ابن مسعود بدراً، وأهلُ الهِجرة الثانية إنما قَدِمُوا عامَ خيبر مع جعفر وأصحابه، ولو كان ابنُ مسعود ممن قَدِمَ قبل بدر، لكان لِقدومه ذِكر، ولم يذكر أحد قدومَ مهاجرى الحبشة إلا فى القَدْمَةِ الأولى بمكة، والثانية عامَ خيبر مع جعفر، فمتى قدم ابن مسعود فى غير هاتين المرتين ومع من ؟ وبنحو الذى قلنا فى ذلك قال ابن إسحاق، قال: وبلغ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى الحبشة إسلامُ أهل مكة، فأقبلُوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دَنَوْا من مكة، بلغهم أن إسلامَ أهلِ مكة كان باطلاً، فلم يدخل مِنهم أحدٌ إلا بجوار، أو مستخفياً. فكان ممن قدم منهم، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد بدراً وأُحُداً فذكر منهم عبد الله بن مسعود.


فإن قيل: فما تصنعون بحديثِ زيد بن أرقم ؟ قيل: قد أُجيب عنه بجوابين، أحدهما: أن يكون النهىُ عنه قد ثبت بمكة، ثم أُذِنَ فيه بالمدينة، ثم نُهِىَ عنه. والثانى: أن زيدَ بنْ أرقم كان مِن صغار الصحابة، وكان هو وجماعةٌ يتكلَّمون فى الصلاة على عادتهم، ولم يبلغهم النهىُ، فلما بلغهم انتَهَوْا، وزيد لم يُخبر عن جماعة المسلمين كُلِّهم بأنهم كانوا يتكلَّمون فى الصلاة إلى حين نزول هذه الآية، ولو قُدِّرَ أنه أخبر بذلك لكان وهماً منه.


ثم اشتد البلاءُ مِن قريش على مَن قَدِمَ من مهاجرى الحبشة وغيرِهم، وسطت بهم عشائِرُهم، ولَقُوا منهم أذىً شديداً، فأَذِنَ لهم رسولُ الله


صلى الله عليه وسلم فى الخروج إلى أرضِ الحبشة مرَّة ثانية، وكان خروجهم الثانى أشقَّ عليهم وأصعبَ، ولَقُوا من قريش تعنيفاً شديداً، ونالوهم بالأذى، وصَعُب عليهم ما بلغهم عن النجاشى مِن حسن جواره لهم، وكان عِدَّةُ مَن خرج فى هذه المرة ثلاثةً وثمانين رجلاً، إن كان فيهم عمَّارُ بن ياسر، فإنه يُشك فيه، قاله ابن إسحاق، ومِن النساء تِسعَ عشرة امرأة.
قلتُ: قد ذُكرَ فى هذه الهجرة الثانية عثمانُ بن عفان وجماعةٌ ممن شهد بدراً، فإما أن يكونَ هذا وهماً، وإما أن يكونَ لهم قدمةٌ أخرى قبل بدر، فيكون لهم ثلاثُ قدمات: قَدمة قبل الهِجرة، وقدمة قبل بدر، وقدمة عامَ خيبر، ولذلك قال ابنُ سعد وغيرُه: إنهم لما سَمِعُوا مُهَاجَرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، رجع منهم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً، ومن النساء ثمانُ نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحُبِسَ بمكة سبعة، وشَهِدَ بدراً منهم أربعةٌ وعشرون رجلاً.


فلما كان شهرُ ربيع الأول سنة سبعٍ من هِجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كتبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى النَّجاشىِّ يدعوه إلى الإسلامِ، وبعث به مع عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى، فلما قُرِىء عليه الكتابُ، أسلمَ، وقال:
"لَئِنْ قَدَرْتُ أَنْ آتِيَه لآتِيَنَّهُ".
وكتب إليه أن يُزَوِّجَه أمِّ حبيبة بنتَ أبى سُفيان، وكانت فيمن هاجَرَ إلى أرضِ الحبَشَةِ مع زوجها عُبيدِ الله بنِ جحش، فَتنصَّر هُنَاك وماتَ، فزوَّجَهُ النجاشىُّ إياها، وأصدقها عنه أَربعَمائِة دِينارٍ، وكان الذى وَلى

تزويجَها خالد بنُ سعيد بن العاص.

وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَبْعَثَ إليهِ مَنْ بقى عِندَه من أصحابه، ويحمِلَهم، ففعل، وحملهم فى سفينتين مع عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى، فَقَدِمُوا على رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بخَيْبَر، فوجدُوه قد فَتَحَهَا، فكلَّم رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُسْلِمينَ أن يُدخِلُوهم فى سِهَامِهم، فَفَعَلُوا.


وعلى هذا فيزول الإشكال الذى بينَ حديثِ ابنِ مسعود وزيدِ بن أرقم، ويكون ابنُ مسعود قَدِمَ فى المرة الوسطى بعد الهِجرة قبل بدرٍ إلى المدينة، وسلَّمَ عليه حينئذ، فلم يردَّ عليه، وكان العهدُ حديثاً بتحريم الكلام، كما قال زيدُ بن أرقم، ويكون تحريمُ الكلامِ بالمدينةِ، لا بمكة، وهذا أنسبُ بالنسخ الذى وقع فى الصلاة والتغيير بعد الهجرة، كجعلها أربعاً بعد أن كانت ركعتين، ووجوب الاجتماع لها.
فإن قيل: ما أحسنه مِن جمع وأثبته لولا أن محمد بن إسحاق قد قال: ما حكيتُم عنه أن ابن مسعود أقام بمكة بعد رجوعه مِن الحبشة حتى هاجر إلى المدينة، وشهد بدراً، وهذا يدفع ما ذكر.


قيل: إن كان محمد بن إسحاق قد قال هذا، فقد قال محمد بن سعد فى "طبقاته": إن ابنَ مسعود مكث يسيراً بعد مقدمه، ثم رجع إلى أرض الحبشة، وهذا هو الأظهر، لأن ابن مسعود لم يكن له بمكة مَن يَحميه، وما حكاه ابنُ سعد قد تضمَّن زيادة أمر خفى على ابن إسحاق، وابنُ إسحاق لم يذكر مَن حدَّثه، ومحمد بن سعد أسند ما حكاه إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب، فاتفقت الأحاديثُ، وصدَّق بعضها بعضاً، وزالَ عنها الإشكال، ولله الحمد والمنة.

وقد ذكر ابنُ إسحاق فى هذه الهجرة إلى الحبشة أبا موسى الأشعرى عبد الله بن قيس، وقد أَنْكَرَ عليه ذلك أهل السِّيَر، منهم محمد بن عمر الواقدى وغيرُه، وقالوا: كيف يخفى ذلك على ابن إسحاق أو على مَن دونه ؟
قلتُ: وليس ذلك مما يخفى على مَنْ دون محمد بن إسحاق فضلاً عنه، وإنما نشأ الوهمُ أن أبا موسى هاجر من اليمن إلى أرض الحبشة إلى عند جعفر وأصحابه لما سمع بهم، ثم قَدِمَ معهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، كما جاء مصرَّحاً به فى "الصحيح" فعد ذلك ابن إسحاق لأبى موسى هِجرة، ولم يقل: إنه هاجر من مكة إلي أرض الحبشة لينكر عليه.

فصل

فانحاز المهاجرون إلى مملكة أصحمة النجاشى آمِنِين، فلما عَلِمَتْ قريشٌ بذلك، بعثت فى أثرهم عبدَ الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص، بهدايَا وتُحَفٍ مِن بلدهم إلى النجاشى ليردَّهم عليهم، فأبى ذلك عليهم، وشَفَعُوا إليه بعظماء بطارقته، فلم يجبهم إلى ما طلبوا، فَوَشَوْا إليه: أن


هؤلاء يقولون فى عيسى قولاً عظيماً، يقولون: إنه عبد الله، فاستدعى المهاجرين إلى مجلسه، ومُقَدَّمُهم جعفر بن أبى طالب، فلما أرادوا الدخولَ عليه، قال جعفر: يستأذِنُ عليك حِزْبُ الله، فقال للآذِنِ: قل له يُعيد استئذانه، فأعاده عليه، فلما دخلوا عليه قال: ما تقولون فى عيسى ؟ فتلا عليه جعفر صدراً من سورة "كهيعص" فأخذ النجاشى عُوداً من الأرض فقال: ما زاد عيسى عَلَى هذا ولا هذَا العود، فتناخرت بطارقتهُ عنده، فقال: وإن نخرتم، قال: اذهبوا فأنتم سَيوم بأرضى، من سبَّكم غُرِّم والسيوم: الآمنون فى لسانهم، ثم قال للرسولين: لو أعطيتمونى دَبْرَاً من ذهب يقول: جبلاً من ذهب ما أسلمتهم إليكما، ثم أمَر فَرُدَّت عليهما هداياهما، ورجعا مقبوحين.

فصل
ثم أسلم حمزة عمُّه وجماعة كثيرون، وفشا الإسلام، فلما رأت قريشٌ أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يعلو، والأمور تتزايد، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، وبنى عبد مناف، أن لا يُبايعوهم، ولا

يُناكِحوهم، ولا يُكلِّموهم، ولا يُجالِسُوهُم، حتى يُسلِّموا إليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلَّقوها فى سقفِ الكعبةِ، يقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: النَّضرُ بن الحارث، والصحيح: أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَشَلَّتْ يَدُهُ، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنُهم وكافرهم، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنى هاشم، وبنى المطلب، وحُبِسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه فى الشِّعب شِعْب أبى طالب لَيْلَةَ هِلال المحرَّم، سنةَ سبع مِنَ البِعثة، وعُلِّقَتِ الصحيفةُ فى جوف الكعبة، وبقُوا محبوسينَ ومحصورينَ، مضيَّقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم المِيرةُ والمادةُ، نحوَ ثلاثِ سنين، حتى بلغهم الجَهْدُ، وسُمِعَ أصواتُ صِبيانِهم بالبُكاء مِن وراء الشِّعب، وهناك عَمِلَ أبو طالب قصيدته اللاميةَ المشهورة أولها:
جَزَى الله عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجلا غَيْرَ آجِلِ
وكانت قريش فى ذلك بين راضٍ وكاره، فسعى فى نقضِ الصحيفةِ مَنْ كان كارِهاً لها، وكان القائمُ بذلك هشامَ بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك، مشى فى ذلك إلى المُطعِم بن عدى وجماعة من قريش، فأجابوه إلى ذلك، ثم أطلعَ اللهُ رسولَه على أمر صحيفتهم، وأنه أرسل عليها الأرَضَةَ فأكلت جميع ما فيها من جَوْرِ وقطيعةٍ وظُلمٍ، إلا ذكر الله عَزَّ وجَلَّ، فأخبر بذلك عمَّه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابنَ أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كانَ كاذباً خلَّينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً، رجعتُم عن قطيعتنا وظُلمِنا، قالوا: قد أنصفت، فأنزلُوا الصَّحِيفةَ، فلما رأوا الأمرَ كما أخبر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ازدادوا كُفراً إلى كُفرهم،

وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ مَعَهُ مِنَ الشِّعب. قال ابن عبد البر: بعد عشرة أعوام من المبعث، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجةُ بعده بثلاثة أيام، وقيل: غير ذلك.

فصل
فلما نُقِضَتِ الصحيفةُ، وافق موتُ أبى طالب وموت خديجة، وبينهما يسير، فاشتد البلاءُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه، وتجرؤوا عليه، فكاشفُوه بالأذى، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائفِ رجاءَ أن يُؤووه ويَنصروه على قومه، ويمنعوه منهم، ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ فلم يَرَ مَن يُؤوى، ولم ير ناصِراً، وآذَوه مع ذلك أشدَّ الأذى، ونالُوا منه ما لم ينله قومُه، وكان معه زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلَّمه، فقالوا: اخُرج مِن بلدنا، وأغرَوْا به سُفهاءهم، فوقفوا له سمَاطَيْن، وجعلوا يرمُونه بالحِجَارَةِ حتى دمِيَتْ قَدَماه، وزيدُ بن حارثة يَقيهِ بنفسه حتى أصابه شِجاج فى رأسه، فانصرفَ راجعاً من الطائفِ إلى مكة محزوناً، وفى مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهورِ دُعاء الطَّائِفِ:
"اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِى، وَقِلَّةَ حِيلَتِى، وهَوَانى عَلَى النَّاس، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأَنْتَ رَبَّى، إلَى مَنْ تَكِلَنِى، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِى ؟ أوْ إلى عَدوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِى، إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَىَّ فَلاَ أُبَالِى، غَيْرَ أَنَّ عَافِيتَكَ هِى أَوْسَعُ لى، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِى أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنيا وَالآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَىَّ غَضَبُكَ، أوْ أَنْ يَنْزِلَ بى سَخَطُك، لك العُتبى حَتَّى تَرْضَى، وَلاَ حَوْلَ وَلاَقُوَّةَ إِلا بِكَ".

فأرسل ربُّه تبارك وتعالى إليه مَلَكَ الجِبَالِ، يستأمِرُهُ أن يُطْبِقَ الأَخْشَبَيْنِ عَلَى أهْل مَكَّةَ، وهُمَا جبلاها اللذانِ هِىَ بينهما، فقَالَ: "لاَ، بَلْ أَسْتَأْنى بِهمْ لَعَلَّ اللهَ يُخرِجُ مِنْ أَصْلاَبِهمْ مَنْ يَعْبُدُهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً".


فلما نزل بنخلة مَرْجِعَهُ، قام يُصَلِّى مِن الليل، فَصُرِفَ إليهِ نَفَرٌ مِنَ الجن، فاستمَعُوا قراءته، ولم يَشْعُرْ بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى نَزَلَ عَلَيْهِ:
{وَإذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنَّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنْصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ قَالُواْ يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيُبواْ دَاعِىَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمِ وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأَرْضِ وَلَيْسَلَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ، أُوْلَئِكَ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف: 29-32].

وأقام بنخلة أياماً، فقال له زيدُ بنُ حارثة: كيف تدخلُ عليهم، وقد أخرجوك ؟ يعنى قريشاً فقال: "يا زيدُ ؛ إن الله جاعِلٌ لما ترى فَرَجاً ومخرجاً، وإن الله ناصرٌ دِينَه ومظهر نبيه".
ثم انتهى إلى مكة فأرسل رجلاً مِن خُزاعة إلى مُطعم بن عدى: أَدْخُلُ فى جِوَارِكَ ؟ فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه، فقال: البِسُوا السِّلاَح، وكونوا عِنْدَ أركانِ البيت، فإنى قد أجرتُ محمداً، فدخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة، حتى انتهى إلى المسجد الحَرامَ، فقام المطعمُ بن عدى على راحلته، فنادى: يا معشرَ قريش ؛ إنى قد أجرتُ محمداً، فَلا يَهِجْهُ أَحَدٌ مِنْكم، فانتهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الرُّكنِ، فاسْتَلَمَه، وصلَّى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعمُ بن عدى وولده محدِقون به بالسِّلاح حتى دخل بيته
.

زاد المعاد ج3 ص من 19 - 30