وإطلاق لفظ الرخصة على هـذا المدلول ، هـو منهـج الأصوليين ويعبرون عنه بقولهم : (استباحة المحظور مع قيام الحاظر)
والمعنى الثاني : يتعلق بالمسائل التي تعارضت فيها الأدلة منعا وإباحة ، فهو يطلق لفظ الرخصة على أدلة الإباحة في هذه
المسائل ، ومن أمثلة ذلك : قوله : (باب الرخصة بفضل وضوء المرأة) سنن ابن ماجه ص 132كتاب الطهارة باب رقم 33 ،
ومن أمثلة ذلك أيضا : أنه لما عقد بابا بعنوان : (الوضوء من مس الذكر) سنن ابن ماجه ص 161 كتاب الطهارة باب رقم
63 ، قال بعده : (باب الرخصة في ذلك) سنن ابن ماجه ص 163 كتاب الطهارة باب رقم 64 ، وأورد فيه الأحاديث التي
تدل على عدم إيجاب الوضوء من مس الذكر ، وبعد هذا الباب مباشرة (باب الوضوء مما غيرت النار) سنن ابن ماجه ص
163 كتاب الطهارة باب رقم 65 ، أورد فيه أحاديث توجب ذلك ، وبعده (باب الرخصة في ذلك) سنن ابن ماجه ص164
كتاب الطهارة باب رقم 66 ، أورد فيه ابن ماجه أحاديث تدل على عدم وجوبه .
المعنى الثالث : ما فيه توسعة على المكلفين وإن لم يوجد فيه علة التحريم ، وهذا المعنى استعمله المؤلف مرة واحدة ، حيث
قال : (باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة فيه) سنن ابن ماجه ص131 كتاب الطهارة باب رقم 32 .
ومثل هذا لا يجعله الأصوليون من باب ما يسمى رخصة في الاصطلاح الأصولي ، وإن صـح إطلاق هذا اللفظ عليه من
باب التجوز المغني للخبازي 89، المستصفى 1 \ 330 ، روضة الناظر 1 \ 260 .
وقد يكون مراد الإمام ابن ماجه بهذا ، المعنى الأول ، وذلك أن سؤر الهرة فيه شيء من المعنى الذي في سؤر الكلب ، ومع
ذلك جاء الدليل بالوضوء من سؤر الهرة بخلاف الكلب؛ لأن ابن ماجه عقد الباب المتعلق بسؤر الهرة بعد الباب المتعلق
بسؤر الكلب سنن ابن ماجه ص130 كتاب الطهارة باب غسل الإناء من ولوغ الكلب . .
المبحث الثالث: حجية القياس :
قد يفهم من كلام الإمام ابن ماجه القول بعدم حجية القياس ، ويبدو ذلك جليا فيما يأتي:
أولا: أنه أورد في أحد تراجمه عبارة يفهم منها ذم الرأي والقياس ، فقال: (باب اجتناب الرأي والقياس) السنن 1 \ 20 .
ثانيا: أنه أورد في الباب السابق قول النبي صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673)
، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (239
). إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ، ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس
رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا . فكأنه يرى أن القياس والرأي ليسا من العلم في شيء .
أما جمهور الأصوليين فإنهم يرون حجية القياس .
ويسوقون على ذلك أدلة عديدة انظر: التفريق بين الأصول والفروع 2 \ 159. .
وأجاب الجمهور على ما ذكره ابن ماجه من أدلة بأجوبة عديدة ، ملخصها أن ما ورد في منع قول الإنسان بما رآه يعني فيما
لا يرجع إلى أصل يقاس عليه ، توفيقا بين ذلك وبين النصوص الورادة بحجية القياس فتح الباري 13 \ 291. .
والذي يظهر لي أن الإمام ابن ماجه لا يخالف الجمهور في ذلك ، بل هو موافق لهم ويدل على ذلك أمور:
أولا: أن مما أورده الإمام من ذم الرأي إنما يراد به المقابل للنص ، أو الرأي المجرد الصادر من غير المجتهد ، كما في
حديث: صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة
(52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/203) ، سنن الدارمي المقدمة (239). اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم .
قال ابن حجر : " قوله: (باب ما يذكر من ذم الرأي) أي الفتوى بما يؤدي إليه النظر ، وهو يصدق على ما يوافق النص
وعلى ما يخالفه ، والمذموم منه ما يوجد النص بخلافه ، وأشار بقوله: (من) إلى أن بعض الفتوى بالرأي لا تذم ، وهو إذا لم
يوجد النص من كتاب أو سنة أو إجماع " فتح الباري 13 \ 282 .
ثانيا: أن الإمام ابن ماجه من علماء الأمة الذين لهم مكانة ومنزلة فيها ، ولو كان لا يرى الاحتجاج بالقياس ، أو يفهم ذلك من
كلامه لاشتهرت النسبة إليه بذلك .
ثالثا: سنن ابن ماجه موضع عناية الأمة ، من خلال روايته وشرحه والتعليق عليه ، والاعتراض على مواطن منه ، ونحو
ذلك ، فلو كان القول بعدم صحة استنباط الأحكام الشرعية بواسطة القياس يفهم من كلام ابن ماجه ، لكان موضع عناية من
هؤلاء العلماء الذين اهتموا بسننه .
الفصل الثاني: آراء الإمام ابن ماجه في دلالات الألفاظ:
وفيه ست مباحث:
المبحث الأول: تخصيص العام بعلة الحكم المستنبطة .
المبحث الثاني: مفاد صيغة الأمر .
المبحث الثالث: مفاد صيغة النهي .
المبحث الرابع: دلالة صيغة لا تفعل على النهي .
المبحث الخامس: استفادة النهي من ترتيب العقوبة على الفعل .
المبحث السادس: استفادة النهي في الفعل بوصف ظرف بنقيضه .
المبحث الأول: تخصيص العام بعلة الحكم المستنبطة:
قرر الإمام ابن ماجه كراهة البول في مكان الاغتسال فقال: (باب كراهة البول في المغتسل) سنن ابن ماجه ص111 كتاب
الطهارة باب رقم 12 ، واستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: سنن الترمذي الطهارة (21) ، سنن النسائي
الطهارة (36) ، سنن أبو داود الطهارة (27) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (304). لا يبولن أحدكم في مستحمه فإن عامة
الوسواس منه .
ثم نقل عن الطنافسي قوله: "إنما هذا في الحضيره؛ فأما اليوم فلا ، فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير ، فإذا بال فأرسل
عليه الماء فلا بأس " سنن ابن ماجه ص 111. .
فكأنه فهم من الحديث أن النهي عن البول في المغتسل للابتعاد عن النجاسة عند الاغتسال ، ولما كان الاغتسال في التراب
سابقا نهي عن البول في مكان الاغتسال لئلا يكون ذلك سببا في النجاسة ، لكن إذا كان المغتسل مبنيا بحيث إذا أرسل عليه
الماء غسل البول فلا مانع من البول فيه ، وهذا تخصيص لعموم الحديث بالنهي عن البول في المستحم من خلال قصر
الحكم العام على مكان علته المستنبطة .
وتخصيص الحكم بعلته المنصوصة لا إشكال في صحته وجوازه ، ولكن الكلام في مسألة: هل يصح أن تعود العلة
المستنبطة على أصلها بالتخصيص؟ للعلماء في ذلك قولان:
الأول: جواز تخصيص النص بعلته المستنبطة ، واستدلوا عليه بأنه كتخصيص العلة بحكم آخر وهو جائز فكذا هنا نهاية
الوصول 8 \ 3553. .
الثاني: عدم جواز ذلك ، وبالتالي فإن من شروط صلاحية الوصف للتعليل أن لا يعود على أصله بالتخصيص؛ لأنه تعارض
عموم النص مع العلة المستنبطة ، والعموم منسوب للشارع ، والعلة المستنبطة منسوبـة للمجتهد ، فقدم العموم المنسوب
للشارع البحر المحيط 5 \ 152. .
والذي يظهر لي ترجح القول الثاني لوجاهة تعليلهم ، وأما قياسه على تخصيص حكم آخر بالعلة فهذا قياس لا يصح لوجود
الفرق بينهما من وجهين:
أولهما: أن التخصيص بالعلة لحكم آخر إنما ثبت بعد التسليم بصلاحية هذا الوصف للتعليل ، وفي مسألتنا وقع النزاع
في صلاحية الوصف للتعليل .
ثانيهما: أن العلة في الأصل المقيس عليه إنما خصصت حكما آخر غير الدليل الذي استنبط منه كون الوصف علة ، وفي
مسألتنا خصص نفس الدليل المستنبط منه التعليل . كما قد يجاب بمنع حكـم الأصل .
المبحث الثاني: مفاد صيغة الأمر :
من صيغ الأمر: الفعل المضارع المسبوق بلام الأمر البحر المحيط 2 \ 356، تفسير النصوص 2 \ 234، الأمر والنهي
لرمضان ص 12. ، كما هو معروف عند الأصوليين . والإمام ابن ماجه أورد فعلا مضارعا مسبوقا بلام الأمر وجعله على
الاستحباب فما منهجه في ذلك؟
قال ابن ماجه : (باب من يستحب أن يلي الإمام) سنن ابن ماجه ص 312، كتاب إقامة الصلاة باب رقم 45. فذكر الحكم
بالاستحباب ، واستدل عليه بحديث: صحيح مسلم الصلاة (432) ، سنن الترمذي الصلاة (228) ، سنن أبو داود الصلاة (
674) ، مسند أحمد بن حنبل (1/457) ، سنن الدارمي الصلاة (1267). ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ، وهذا قد يؤخذ
منه حكمان:
أولهما: أن المستحب عنده مأمور به حقيقة ، وهذا هو رأي جمهور الأصوليين .
ثانيهما: أن الأمر عنده يفيد الاستحباب عند تجرده ، وهذا يخالف رأي الجماهير الذين يرونه مفيدا للوجوب روضة الناظر 2
\ 604، قواطع الأدلة 2 \ 476، الإبهاج 2 \ 42، أصول السرخسي 1 \ 132، ميزان الأصول 96. ، وإن كان استنباط هذا
الرأي لابن ماجه فيه ما فيه؛ لأنه يحتمل أن ابن ماجه صرف هذا الأمر بخصوصه عن الوجوب لقرينة ، فهو يرى أن الأمر
المجرد يفيد الوجوب ، لكن هذا الأمر صرف لقرينة خاصة .
المبحث الثالث: مفاد صيغة النهي :
أورد ابن ماجه صيغة النهي وبوب لها بالكراهة في عدد من المواطن في سننه ، فاستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: لا
يبولن أحدكم في مستحمه . كراهة البول في المغتسل انظر: سنن ابن ماجه ص 111 كتاب الطهارة باب رقم 12. ، ومن
قوله: إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه : كراهة مس الذكر باليمين والاستنجاء باليمين ، ومن قوله
صلى الله عليه وسلم: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه استفاد كراهة النخامة في المسجد سنن ابن ماجه
ص 251 كتاب المساجد باب رقم 10. .
فقد يظن بأن ابن ماجه يرى أن النهي لا يفيد إلا الكراهة ، ولا أرى ذلك صحيحا ، بل ابن ماجه يوافق الجمهور في أن النهي
يفيد التحريم . بدليل ما يأتي:
أولا: أن ابن ماجه يعبر بلفظ الكراهة وهو يريد التحريم كما سبق بيانه ، والكراهة قد تطلق ويراد بها التحريم .
ثانيا: أن ابن ماجه عبر بلفظ النهي فيما ورد تأثيم فاعله مما يدل على أنه يرى أن النهي للتحريم ، لأن الإثم إنما يلحق فاعل
الحرام فهو يقول: (باب النهي أن يستلج الرجل في يمينه ولا يكفر) سنن ابن ماجه ص 683 كتاب الكفارات باب رقم 11. ،
ويستدل عليه بحديث: صحيح مسلم الأيمان (1655) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2114) ، مسند أحمد بن حنبل (2/317). إذا
استلج أحدكم في اليمين فإنه آثم له عند الله من الكفارة التي أمر بها . فعبر بالنهي فيما فيه إثم مما يدل على أنه يرى أن
الموضوع : آراء الإمام ابن ماجه الأصولية من خلال تراجم أبواب سننه للشيخ سعد الشتري - حفظه الله المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya