إن الحمد لله..
أما بعد: قال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [(45-46) سورة الأحزاب].
إن
الحديث يحلو عن الرجال العظماء من الناس، ولكن الحديث عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- لا يجاريه أي حديث في روعته وحلاوته والطرب به والشوق إليه؛ رجل
ملأ حبه القلوب، واصطفاه الله على الناس، فجعله أكرمهم وأحبهم إليه، إنه
رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي تشتاق إليه النفوس، وبذكره ترق وتلين
القلوب، وعند الحديث عنه تطمع النفوس المؤمنة إلى رؤيته والالتقاء به في
الجنان، والموعد حوضه الشريف حيث ينتظر المؤمنون، يأتون إليه غراً محجلين
عن باقي الأمم كي يشربوا من حوضه الشريف شربه هنيئة لا يظمؤون بعدها أبدا.
إنه
النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- من بني هاشم من قريش، أعزُّ الناس نسباً،
وأشرفهم مكانة، ولد في بطاح مكة، فرأت أمه نوراً أضاءت له قصور الشام، نشأ
حين نشأ يتيماً، فكفله جدّه ثم عمّه، واسترضع في ديار بني سعد، أرضعته
حليمة السعدية، فكانت أسعد الناس به، نزلت الملائكة من السماء فشقت صدره
وغسلت قلبه، فنشأ نشأة طهر وعفاف في مجتمع جاهلي يعج بالشرك والظلم
والمنكرات، لم يتجه يوماً بقلبه إلى صنم، ولم يعاقر خمراً، ولم يتسابق
كغيره إلى النساء، صادق اللسان، لم يجرب عليه قومه كذبةً واحدة، أمين وأي
أمين.
تزوج في شبابه وقبل مبعثه بأكرم النساء وأحصنهم وأعفهم وأرجحهم
عقلاً، أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها-، فأنجب منها جل أبنائه وبناته.
حبب
الله إليه الخلوة والتعبد لربه بعدما كره بفطرته السليمة ما كان عليه قومه
من عبادة الأصنام، فكان يصعد إلى غار حراء، فيمكث به الليالي ذوات العدد
ناظراً للكعبة الشريفة والسماء.
بشّر بقدومه الأنبياء من قبله، وهتفت
الجن ببعثته، وامتلأت السماء حرساً شديداً وشهباً، بعثه الله للناس على رأس
أربعين سنة، فلما اقتربت طلوع شمسه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سمع من
يقول له: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت فلا يرى إلا الحجر والشجر، فلما
كان ذات ليلة على عادته في الغار وإذا بجبريل -عليه السلام- يأتيه رسولاً
مرسلاً من ربه بـ{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [(1-2) سورة العلق]، فرجع بها إلى بيته خائفاً يرجف منها فؤاده قائلاً: ((زمِّلوني زملوني))،
فسكبت عليه خديجة -رضي الله عنها- أعذب الكلام وأروعه حتى هدأت نفسه: "كلا
والله، لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصِل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب
المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحقّ".
ثم تتابع الوحي عليه من
ربّه آمراً له بالدعوة إلى الله، فخرج يدعو سرّاً من كان يرجو قبول الحق،
فلما تكاثر المؤمنون من حوله أتاه الأمر: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [(94) سورة الحجر]،
فلقي منذ ذلك الوقت صنوف الأذى والسخرية والاستهزاء، وتحمّل هو ومن معه من
المؤمنين الذين كانوا يزدادون يوماً بعد يوم الشدائد؛ لتمسكهم بالإسلام
والمحافظة على هذا الدين العظيم، فلما رأى من قومه الصدود والإعراض بدأ
بإخراج دعوته خارج مكة، فوصل الطائف ولاقى من أهلها أكثر مما لاقاه من قومه
في مكة، فأخذ يعرض دعوته على القبائل، حتى هيأ الله له نفراً من أهل
المدينة قدموا مكة في الموسم فعرض دعوته عليهم، فأوقع الله في قلوبهم
الإيمان، فاتفق معهم على الهجرة للمدينة وأن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون
أبناءهم وأهليهم، فكانت تلك الهجرة العظيمة، وذلك الحدث التاريخي الذي قلب
الأمور على الأرض رأساً على عقب، وانطلقت دولة الإسلام من المدينة، وبدأ
الجهاد لما توافرت أسبابه، فجاهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هو
وأصحابه بأموالهم وأنفسهم حتى فتح الله له القرى وأمّها، ودانت له جزيرة
العرب، وهابته الأعاجم في ديارها، فكان من آخر أمره حجه بالناس، فنصح وبلّغ
رسالة ربه حتى حانت ساعة وفاته صلوات ربي وسلامه عليه.
إنه النبي محمد
-صلى الله عليه وسلم-: إن سألت عن خِلقته كيف كان؟ فإنك تسأل عن القمر ليلة
تمامه، كان أجمل الناس وأبهاهم منظراً، أبيض مشرباً بحمرة، ربعة من الناس،
ليس بالطويل ولا بالقصير، عظيم الهامة، واسع الجبين مقوس الحواجب في غير
اقتران، طويل الأنف مع صغر أرنبته، له نور يعلوه، كث اللحية واسع الفم،
مفلوج الأسنان، ليس بالنحيف ولا بالسمين، عريض الصدر، بعيد ما بين
المنكبين، أشعر الذراعين والمنكبين والصدر، لين الملمس كأن يده الحرير.
يمشي
وكأن مشيته في منحدر، إذا التفت التفت بكل جسمه، نظره إلى الأرض أطول من
نظره إلى السماء، يمشي وأصحابه أمامه، طويل السكوت، دائم الفكرة، لا يتكلم
في غير حاجة، يفتتح كلامه ويختمه باسم الله تعالى، يتكلم بجوامع الكلم، ولا
يضحك إلا تبسماً، لا يتكلم فيما لا يعنيه، يؤلّف الناس ولا ينفرهم، يتفقد
أصحابه ويسأل عنهم، يحلم على الجاهل والسفيه ويصبر على من يحادثه حتى يكون
محدّثه هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور جميل من
القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً.
مجلسه مجلس علم وحياء
وأدب، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تذاع فلتاته، سهل الخُلق، لين الجانب، ليس
بصخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب، يبيع ويشتري، يضحك مما يضحك له الناس، ويتعجب
مما يتعجبون.
بين كتفيه خاتم النبوة، كان شعره إلى أنصاف أذنيه وعُدت شعيراته البيضاء فبلغت عشرين شعرة، وقال عنها: ((شيبتني هود وأخواتها))، يحسبه الرائي له أنه يخضب بالحناء شعره، ولكنه كان وبيص الطيب الذي يضعه.
عاش
عيشة الزهد، فلم يشبع من خبز الشعير قط، يمر على بيوته الهلال ثم الهلال
ثم الهلال ولا يوقد في بيوت آل محمدٍ نار، ربما وضع حجرين على بطنه؛ ليسكت
جوع بطنه، كان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها إذا انتهى بأدب، أحب من الطعام
الدباء والحلوى والعسل، وكان لا يذم طعاماً قط، قسم وقته داخل بيته ثلاثة،
فقسم لله، وقسم لأهله، وقسم لنفسه، والقسم الذي لنفسه كان بينه وبين الناس،
كان يمازح أصحابه ولا يقول إلا حقاً، كان يسمر مع نسائه ويحدثهنّ
ويحدثونه.
كان راجح العقل، صادق الفراسة، ثابتاً في الشدائد، صابراً في
البأساء والضراء وحين البأس، حليماً وقوراً وفياً للعهد والناس، يصفح ويعفو
عمن أساء له، فعفا عمن سحره، وعفا عمن دس له السم، وصفح عن أهل مكة، كان
وسطاً يحب الاعتدال، كريماً سخياً كالريح المرسلة.
لقد انفرد عن إخوانه
من الرسل والأنبياء والناس أجمعين بخصائص في الدنيا والآخرة لم تكن لغيره
كرامة وتشريفاً له -صلى الله عليه وسلم- منها أن الله أخذ العهد والميثاق
على الأنبياء من قبله على الإيمان به ونصرته والبشارة به، ومنها أن رسالته
كانت للناس كافة وكانت رسالة من قبله من الأنبياء لأقوامهم خاصة. ومنها أنه
خاتم الأنبياء والمرسلين وكانت رسالته رحمة للعالمين، ومنها أنه النبي
الوحيد الذي خاطبه الله بوصف النبوة والرسالة، فكان القرآن ينـزل بـ{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [(64) سورة الأنفال]، و{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [(41) سورة المائدة]، ونادى بقية الأنبياء بأسمائهم.
وجعل الله له ولأمته الأرض مسجداً وطهوراً، ونُصر على أعدائه بالرعب، وغَفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
كانت
معجزات الأنبياء من قبله وقتيةً تنتهي بموتهم، وكانت معجزته خالدة إلى يوم
الدين، تفرد عن بقية الأنبياء بالإسراء والمعراج حتى أدناه الله منه وبلغ
سدرة المنتهى، خصّه الله يوم القيامة فأعطاه الله الوسيلة والفضيلة والمقام
المحمود، وهو مقام الشفاعة العظمى للخلائق عند ربهم حتى يفصل فيهم، ويشفع
لأمته حتى يبلغوا ثلثي أهل الجنة، وهو أول من يعبر على الصراط يوم القيامة،
وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها.
أظهر الله على يديه من المعجزات ما
يبهر العقول، ففلق له القمر فلقتين، وتكلمت الحيوانات بحضرته، وسبح الطعام
بين يديه، وسلم عليه الحجر والشجر، وتكاثر له الطعام والشراب كرامة، وأخبر
بالمغيبات، فما زالت تتحقق في حياته وبعد وفاته.
أي عبارة تحيط ببعض
نواحي تلك العظمة النبوية، وأي كلمة تتسع لأقطار هذه العظمة التي شملت كل
قطر، وأحاطت بكل عصر، وكُتب لها الخلود أبد الدهر، وأي خطبة أو محاضرة تكشف
لك عن أسرارها وإن كُتبت بحروف من النور، وكان مداده أشعة الشمس؟
إنها
العظمة الماثلة في كل قلب، المستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد،
ويعترف بها العدو والصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتز لها ذوائب
المنائر.
ألم تر أن الله خلَّد ذكره *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشقّ له من اسمه ليجلّه *** فذو العرش محمود وهذا محمد
إنه
النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث الكمال الخُلقي بالذروة التي لا
تُنال، والسمو الذي لا يُسامى، أوفر الناس عقلاً وأسددهم رأياً، وأصحهم
فكرةً، أسخى القوم يداً، وأنداهم راحة، وأجودهم نفساً، أجود بالخير من
الريح المرسلة، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يبيت على الطوى وقد وُهب
المئين، وجاد بالآلاف، لا يحبس شيئاً وينادي صاحبه: ((أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)).
أرحب
الناس صدراً، وأوسعهم حلماً، يحلم على من جهل عليه ولا يزيده جهل الجاهلين
إلا أخذاً بالعفو، وأمراً بالمعروف، يمسك بغرة النصر، وينادي أسراه في كرم
وإباء: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
أعظم
الناس تواضعاً، يُخالط الفقير والمسكين، ويُجالس الشيخ والأرملة وتذهب به
الجارية إلى أقصى سكك المدينة فيذهب معها ويقضي حاجتها، ولا يتميز عن
أصحابه بمظهر من مظاهر العظمة ولا برسم من رسوم الظهور.
ألين الناس
عريكةً وأسهلهم طبعاً، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن
مُحرماً، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب، وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه،
فإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وكأنما يُفقأ في وجهه حب
الرمان من شدة الغضب.
أشجع الناس قلباً وأقواهم إرادةً، يتلقى الناس بثبات وصبر، يخوض الغمار ويُنادي بأعلى صوته: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)).
وهو
من شجاعة القلب بالمنـزلة التي تجعل أصحابه إذا اشتد البأس يتقون به، ومن
قوة الإرادة بالمنـزلة التي لا ينثني معها عن واجب، ولا يلين في حق، ولا
يتردد ولا يضعف أمام شدة.
أعف الناس لساناً وأوضحهم بياناً، يسوق الألفاظ مُفصّلة كالدر، مشرقة كالنور، طاهر كالفضيلة في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة.
أعدلهم في الحكومة، وأعظمهم إنصافاً في الخصومة، يَقِيدُ من نفسه ويقضي لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس، ويقسم بالذي نفسه بيده: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
أسمى
الخليقة روحاً، وأعلاها نفساً، وأزكاها وأعرفها بالله، وأشدها صلابة
وقياماً بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء
الواجبات، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يُؤتي كل ذي حق حقه، فلربه حقه،
ولصاحبه حقه، ولزوجه حقها، ولدعوته حقها.
أزهد الناس في المادة، وأبعدهم
عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يأكل ما يقدّم إليه، فلا يرد موجوداً، ولا
يتكلف مفقوداً، وينام على الحصير.
قضى زهرة شبابه مع امرأة من قريش
تكبره بخمس عشرة سنة، قد تزوجت من قبله، وقضت زهرة شبابها مع غيره، ولم
يتزوج معها أحداً وما تزوج بعدها لمتعة، وما كان في أزواجه الطاهرات بكراً
غير عائشة -رضي الله عنها-.
أرفق الناس بالضعفاء، وأعظمهم رحمة بالمساكين والبائسين، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان، ويحذّر أصحابه فيقول لهم: ((إن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)).
لو
لم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هداية
السماء إلى الأرض، وإيصال هذا القرآن الكريم إلى العالم، لكان فضلاً لا
يستقل العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بكفائه، ولا يُوفي الناس حامله بعض
جزائه.
ذلك قبس من نور النبوة، وشعاع من مشكاة الخلق المحمدي الطاهر،
وإن في القول بعد لسَعَة، وفي المقام تفصيلاً، وسل التاريخ ينبئك هل مر به
عظيم أعظم من النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد عُصم من النقائص، وعلا
عن الهفوات، وجلّ مقامه عن أن تلصق به هفوة.
خُلقتَ مُبرءاً من كل عيب *** كأنك قد خُلقت كما تشاء
كم
ترتقي الروح للمعالي حين يخطر على القلب ولو لبرهة صورة محمد بن عبد الله،
رسول رب الأرض والسماء، من هو؟ هو من كان يحلب شاته! هو من كان يخيط ثوبه!
خير من خلق الله، هو من كان يقول: ((أنا سيد ولد آدم))،
وهو أيضاً من كان يجمع الحطب لأصحابه، وهو نفسه من كان يرتجف ألماً وحرقةً
حين يرى دابة ضعيفة قد حُمِّلَت من الزاد والراحلة ما لا تحتمل!
هو السيد وهو الرحيم وهو الإنسان -صلى الله عليه وسلم-.
هو
من كان يخاطب الملوك ويراسل قياصرة الدنيا، وهو نفسه من كان يُنهِي صلاته
على عجل؛ لأنه سمع بكاء طفل رضيع كان قد أتى مع أمه للمسجد.
دخل عليه رجل وهو يرتجف خوفاً وفرقاً من عظيم هيبته -صلى الله عليه وسلم- قال له: ((هون عليك فإني لست بملِك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة)).
ويسأله
أعرابي يوماً في بداوة جافة: يا محمد، هل هذا المال مال الله، أم مال
أبيك؟ ويبتدره عمر، يريد أن يؤنبه، فيقول -عليه الصلاة والسلام-: ((دعه يا عمر؛ إنّ لصاحب الحق مقالاً)).
قدم
رجل كان قد سمع أن محمداً يسب آلهة قريش، ويدعو إلى هجر عبادة الأصنام،
فحمل سيفه وأقسم أن يسوي حسابه مع محمد، فأقبل عليه ووقف أمامه وبدأ يزمجر
ويرفع صوته ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقابل كل ذلك بابتسامة هادئة
ساحرة جميلة، وكلما زاد الرجل عنفاً وصخباً، زاد تبسماً ولطفاً، وما هي إلا
لحظات حتى انقلب الكره إلى حب، والبغض إلى ولع وتعلق، لقد ذهب ما كان يجده
هذا الرجل وذاب في جمال وسحر خلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، وانكفأ على
يديه يقبلهما ثم قال: "يا محمد والله لقد سعيت إليك، وما على وجه الأرض
أبغض إليّ منك، وإني لذاهب عنك، وما على وجه الأرض أحب إليّ منك".
لقد
قدِم هذا الرجل وما عرف أنه سيقابل قلباً عظيماً قادراً على أن يستمع للعدو
قبل الصديق، أنه سيقابل رحمة وهداية تمشي على الأرض، سيقابل إنساناً لن
ترى الإنسانية مثيلاً له في حيائه ورحمته ولطفه وكريم خلقه.
عن عائشة
-رضي الله عنها- قالت: "ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده خادماً
له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئاً إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا
خُيّر بين شيئين إلا كان أحبهما إليه أيسرهما".
وعن أنس بن مالك -رضي
الله عنه- قال: "خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لي
لشيء صنعته لِمَ صنعته، ولا لشيء تركته لِمَ تركته، وكان رسول الله من أحسن
الناس خُلقاً".
وعن أنس -رضي الله عنه- أيضاً أن امرأة جاءت إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالت له: "إن لي إليك حاجة، فقال: ((اجلسي في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك)).
وفي
غزوة تبوك ينام الجيش وعدده أكثر من عشرة آلاف، وفي وسط الليل، يستيقظ ابن
مسعود -رضي الله عنه- فيرى ناراً تضيء في آخر المعسكر، فيلتمس الرسول -صلى
الله عليه وسلم-، فلا يجده في مكانه، ويبحث عن أبي بكر فلا يجده، ويبحث عن
عمر فلا يجده، فيذهب إلى مكان النار، فإذا الرسول -صلى الله عليه وسلم-
حفر قبراً ونزل في القبر وسط الليل، وإذا أبو بكر وعمر يحملان جنازة
يدليانها في القبر، فقال ابن مسعود: من هذا يا رسول الله، قال: هذا أخوك
عبد الله ذو البجادين، توفي هذه الليلة، ويجعل -عليه الصلاة والسلام- ساعده
تحت خد عبد الله ودموعه تتقاطر على خد عبد الله في ظلام الليل، فلما أنزله
قبره، رفع كفيه واستقبل القبلة وقال: ((اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض، اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض))، فبكى ابن مسعود وقال: يا ليتني كنت صاحب تلك الحفرة.
إن
الحديث عن الجانب الإنساني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر يطول به
المقام، فكم نحن بحاجة ماسة إلى عودة صادقة لقراءة سيرته -عليه الصلاة
والسلام-، قراءة نتأمل فيها الجانب الإنساني المذهل واللافت الذي كان عليه
رسول الله، كيف كان تعامله مع أهله وأزواجه وأولاده وأصحابه وأعدائه
وخصومه؟ والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [(21) سورة الأحزاب].
ومع
كل هذا فقد نال في حياته -صلى الله عليه وسلم- من التعب قدراً عظيماً,
وللثقل على نفسه موقع من سيرته -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لاقى في حياته ما
لاقى، وما ناله ذلك النصب إلا بعد مبعثه لا قبل, بعد أن بلغ من العمر أشده
وبلغ أربعين سنة, إذ كانت شدة في الله -عز وجل- ودعوته.
كان رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يعالج شدة من نزول الوحي ويجد لذلك ثقلاً, تقول أم
المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "ولقد رأيته ينـزل عليه الوحي في اليوم
الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً".
وأما بعد البعثة فقد
عانى -عليه الصلاة والسلام- ما عانى حتى أُلقي سلا الجذور على ظهره وهو
ساجد بين يدي الله في البيت الحرام, ونالت قريش منه ما نالت، إذ طلع عليهم
يوماً فوثبوا وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا،
ورجل منهم أخذ بمجمع ردائه, فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون
رجلا أن يقول ربي الله!.
وحُوصِر -صلى الله عليه وسلم- في شعب أبي طالب
مع بني هاشم وبني المطلب حتى سُمع صوت صبيانهم ونسائهم يتضاغون جوعاً
وطعامهم الأوراق والجلود.
ويعرض نفسه -صلى الله عليه وسلم- على القبائل
ويخرج إلى الطائف يطلب النصرة، فيقول له من يقول: أما وجد الله أحداً
غيرك؟! ثم يجتمع عليه العبيد والصبيان يرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه.
سبحان
الله يُقدّر الله -عز وجل- ذلك لخير رسول من أنبيائه. فما تردد -صلى الله
عليه وسلم- في تبليغ دعوة رب العالمين، وما كُتب عليه فيها من الشدة, بل
كان الأسوة الحسنة لأمته، فكان -صلى الله عليه وسلم- يقوم من الليل حتى
تفطرت قدماه وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, ثم هو يوعك كما
يوعك الرجلان من أمته، ويوم أُحُد شُجَّ وجههُ, وكُسِرت رباعيته, وكُلِمَت
شفته السفلي ووَقعتَ لشِقه.
ضُرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة كان يشكو
لأجلها أكثر من شهر، وقد دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وَجْنَتِه، وقد
سال الدم من وجهه الشريف.
كان يربط حجرين على بطنه من الجوع, وكان لا
تجد من الدقل ما يملأ بطنه, وما شبع وأهلُه من خبزِ شعير يومين متتابعين،
ويبيت الليالي طاوياً لا يجد عشاءً، وينام على الحصير، وقد أثر في جنبه
ويقول: ((ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قَالَ في ظلِّ شجرة ثم راح وتركها))، يقول ذلك وقد أُعْطِي مفاتيح خزائن الأرض.
إنه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، عاش حياته الزوجية كسائر الناس، لكنها كانت عجب وأي عجب في التعامل والخلق والتربية.
إن
أول ما يلفت النظر في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الزوجية أنه كان
حريصاً على إظهار حبه لزوجاته -رضي الله عنه-نّ، كان يصرّح بهذا الحب ويجهر
به، وكان يعلّمه أصحابه -رضي الله عنهم- وأرضاهم. كان يقول -عليه الصلاة
والسلام- عن خديجة: "إني قد رُزقت حبها" رواه مسلم. وكان يقف المواقف التي
يُعلَم منها حبُّه لأزواجه صلى الله عليه وسلم-، ودونك هذا الخبر الطريف:
عن أنس -رضي الله عنه- أن جاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم- فارسياً
كان طيّب المَرَق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم جاء يدعوه، فقال
صلى الله عليه وسلم-: ((وهذه؟)) -يعني
عائشة- فقال الفارسي: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "وهذه؟"
فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "لا"، ثم عاد الفارسي
يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "وهذه؟" فقال: نعم في الثالثة،
فقاما يتدافعان حتى أتيا منـزله. [رواه مسلم].
وكان
-عليه الصلاة والسلام- إلى ذلك لا يأنف من أن يقوم ببعض عمل البيت ويساعد
أهله، سُئلت عائشة -رضي الله عنها-: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم- يصنع
في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله -أي: في خدمتهم- فإذا حضرت الصلاة
خرج إلى الصلاة. [رواه البخاري]،
وفي رواية عند أحمد: "كان بَشراً من البشر، يَفْلي ثوبه ويحلب شاته، ويخدم
نفسه". وفي رواية أخرى: "كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال
في بيوتهم".
إنه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، لقد أدرك الصحابة
مدى الشقاء الذي كان سيلازمهم لولا بعثة هذا الرسول، فلقد أخرجهم من دركات
الظلمات إلى النور التام، فدلهم على طريق الجنة، وحذرهم من النار وسبلها،
أخرجهم من عبودية أهوائهم إلى عبودية رب العالمين، أعاد النفوس والفطر إلى
وضعها الصحيح الذي خلقت له ومن أجله.
لنسرح بخيالنا قليلاً مع الرعيل
الأول، وكيف كانوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكيف عرف أولئك أن
يأخذوا الإيمان والخلق والعبادة من نبيهم ومن هديه، فارتقوا في درجات سلم
العبودية، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه.
لما أدرك الصحابة نعمة بعثة الرسول
-صلى الله عليه وسلم- بينهم، قام في قلوبهم من حبه الشيء العظيم، فعَمَرَ
ذكره والثناء عليه قلوبهم ومجالسهم، ما أن يسمعوا بلالاً -رضي الله عنه-
يؤذن، فيرددون من خلفه بصدق: "أشهد أن محمداً رسول الله"، فتخرج حارّة من
قلوبهم وتترجم حية في واقع حياتهم، فهذا مهتم بأمر سواكه، وهذا مهتم بنعله،
وهذا مهتم بوضوئه وطهوره، وهذا يصلح له دابته، وهذا يحفظ له ماله وقوته،
وهذا يبادر إليه فيستضيفه، وهذا وهذا، وتجاوز بهم الحب إلى أن يقتسموا شعره
إذا حلقه ويتوضؤون بفضلة وضوئه، بل وما يتنخم ولا يتفل إلا ومدوا أيديهم
في الهواء يتلقون أثراً من النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال عروة بن مسعود:
"يا قوم، والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك فما رأيت ملكاً يعظمه
أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-، والله ما يحدون
النظر إليه تعظيماً له، وما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فيُدلك بها
وجهه وصدره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه".
نعم، لقد شهد أولئك
النفر والصحب الكرام حق الشهادة أن محمداً رسول الله، فأحبوه صدق المحبة،
كان الرجل منهم ما أن يخلو بأهله، فيذكر أنه قد يفترق عن حبيبه ورسوله في
الآخرة حتى يُرى أثر ذلك في وجهه فتصيبه الهموم والأحزان.
قالت عائشة
-رضي الله عنها- جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا
رسول الله، إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إليّ من أهلي وأحب إليّ من ولدي،
وإني لأكون في البيت فأذكُركَ فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت
موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة
خشيت ألا أراك"، فلم يَرُدّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل قول
الله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَئِكَ رَفِيقًا* ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ
عَلِيمًا} [(69-70) سورة النساء].
وما
فرح الصحابة فرحاً مثل فرحهم عندما جاء ذلك الأعرابي فقال: يا رسول الله،
الرجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((المرء مع من أحب))، قال أنس: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر.
نعم،
بمثل هذا كان يحدّث الرجل منهم نفسه، وذلك لتمام المحبة لهذا النبي -صلى
الله عليه وسلم-، كان الواحد منهم يحدث نفسه: هذه مجالسنا معه في الدنيا،
فهل يا ترى نكون معه في الجنة؟ هذا السؤال كان يشغل جانباً كبيراً من مشاعر
وأحاسيس ووجدان أولئك المؤمنين الصادقين.
لقد شهدوا حق الشهادة أن
محمداً رسول الله، فأحبوه صدق المحبة، محبة أخرجتهم من ملذاتهم ومراداتهم
إلى مراده هو، وما يأمر به وما ينهى عنه، فلم يبق في قلوبهم تعظيم لأحد، أو
توقير فوق تعظيم وتقدير رسول رب العالمين -صلى الله عليه وسلم- جادوا
بأموالهم في سبيل دينه ودعوته، جادوا بأنفسهم في سبيل الذب عنه.
تجود بالنفس إذا ضن البخيل بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
كان
الشيخ الهرم الكهل الذي فني وذهبت قوته وأقبل ضعفه، وذهبت صحته وأقبل
مرضه، كان يتمنى أن لو كان شاباً يقاتل ويناضل عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-.
لا توجد منةٌ لإنسان مهما بلغ مثل منّة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- على هذه الأمة، فما من بيت إلا ونالته من بركة هذا النبي الكريم
أشياء وأشياء.
رُئي الإمام أحمد -رحمه الله- في المنام بعد موته فسُئل
عن حاله؟ فقال: "لولا هذا النبي الكريم لكنا مجوساً". قال ابن رجب -رحمه
الله-: "وهو كما قال، فإن أهل العراق لولا رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-
لكانوا مجوساً، وأهل الشام ومصر لولا رسالته لكانوا نصارى، وأهل جزيرة
العرب لولا رسالته لكانوا مشركين عباد أوثان".
وكان أيوب السختياني وهو
من كبار التابعين يبكي كثيراً ويقول: "لولا هذا النبي لكنا كفاراً"، وهذا
عبيدة بن عمرو المرادي يقول له محمد بن سيرين: إن عندنا من شعر رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- شيئاً من قِبل أنس بن مالك، فقال: "لأن يكون عندي منه
شعرة أحبُّ إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض"، قال الذهبي -رحمه
الله-: "وهذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية
على كل ذهب وفضة بأيدي الناس"، ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد وفاة النبي
-صلى الله عليه وسلم- بخمسين سنة.
وقد كان ثابت البُناني إذا رأى أنساً
أخذ يده فقبلها، ويقول، يدٌ مسّت يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. لقد
كان حب النبي -صلى الله عليه وسلم- في قلوب الأمة حباً عظيماً، لقد كان
حباً لأمره ونهيه، لقد كان حباً شرعياً، وصل بهم إلى أعلى درجات الإيمان،
ليس الصحابة والتابعون فحسب هم الذين أحبوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل
أحبه كل شيء بالمدينة، الجذع الذي كان يخطب النبي -صلى الله عليه وسلم-
عليه، يحنّ إلى حديثه شوقاً، ويظل يُسمع له حنين في المسجد وبكاء، فينـزل
إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويُسكته كما يُسكت الإنسان طفله، ثم هذا
جبل أحد، يصعده النبي -عليه الصلاة والسلام- ومعه ثلة من أصحابه، فيرجف بهم
فيقول، أثبت أحد، ثم يقول: هذا جبل يحبنا ونحبه.
أنا وأنت بعيدون عن
مثل هذه المشاعر والأحاسيس، إنه والله الحرمان، إن هذا الذي أدركه الصحابة
وأدركه التابعون تجاه النبي -صلى الله عليه وسلم- جهله مع كل أسف عوام
الناس وخواصهم في هذه الأيام، فأصبحوا لا يعرفون قدر عظيم المنّة عليهم
بمبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفضله على آحادهم وأفرادهم، وأنهم به قد
أُخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى
السعادة، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن النار إلى الجنة، {فَاتَّقُوا
اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ
مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [(10-11) سورة الطلاق].
لقد
كانت محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والثناء عليه وشكره، كان ذلك كله
شعاراً خالط باطن الأمة، وكان دثاراً ترتديه الأمة والمؤمنون طيلة حياتهم.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) [رواه البخاري].
وجاء
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-:
"لأنت يا رسول الله أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي"، فقال: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فيقول عمر مباشرة: "فإنك الآن والله أحب إليّ من نفسي"، فقال: ((الآن يا عمر)) [رواه البخاري].
إنه
النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-: إن الجانب الأعظم من حياة الرسول -صلى
الله عليه وسلم- هو جانب التعليم, إذ إنه الجانب الذي ينبع عنه كل خير, ولا
يستقيم أي جانب من جوانب الحياة سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو
عسكرياً أو خلقياً إلا به، فأمة بلا علم يوضح لها جوانب سلوكها، وبلا تربية
يعرف بها كل فرد من أفرادها واجبه، تصبح أمة فوضوية, تصرفاتها غير متوقعة
وغير منضبطة.
وإذا نظرنا إلى آثار تربيته -صلى الله عليه وسلم- في
صحابته نرى البرهان على ذلك كله، فلو أجرينا مقارنة بين حياة هؤلاء قبل
تلمذتهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين حياتهم بعده، بين واقعهم
قبل ذلك وبين واقعهم بعده، بين أهدافهم الأولى وأهدافهم الثانية، إذا أجريت
هذه المقارنة فإنك ستخرج بالنقلة البعيدة الكبيرة الواسعة التي نقل إليها
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء من طور إلى طور، من حضيض إلى سمو لا
يدانيه سمو آخر.
خذ مثلاً: شخصية عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في
الجاهلية، تجده كان رجلاً قبليَّ الفكر والطبيعة والعاطفة والتصور، كان
محدود الإدراك، همّه في الحياة اللهو والسُّكر، ولولا أن بعث الله رسوله
-صلى الله عليه وسلم- لعاش عمر ومات عمر وما أحس به أحد، ولكنه ما أن شرب
كأس الإسلام من يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أصبح عمر العبقري
الفذّ، ورجل الدولة العظيم الكبير، ورمز العدل مع الحزم والرحمة، وسعة
الأفق وصدق الإدراك وقوة الفراسة.
عمر الذي أصبح ملء سمع الدنيا وبصرها،
ما كان ليكون شيئاً لولا أنه تربى على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فأخذ منه العلم والحكمة والتربية.
خذ مثالاً آخر: عبد الله بن مسعود
-رضي الله عنه- راعي الإبل المحتقر المهان في قريش، الذي ما كان يعرفه إلاّ
سيده ومن يستخدمه, هذا الرجل النحيل القصير الحَمْشُ الساقين، ماذا أصبح
بعد أن ربته يد النبوة؟. أصبح الرجل الذي يعتبر مؤسس أكبر مدرسة في الفقه
الإسلامي.
إن هذا التحول الكبير والنجاح العظيم الذي حققه -صلى الله
عليه وسلم- في صناعة الأمم والأجيال حتى ارتفعت الأمة من السفوح إلى قمم
الجبال، كان نتيجة منهج تربوي تعليمي دعوي رصين، له معالمهُ وسماتهُ، وهو
بلسم ودواء أصيل، لما نزل بالأمة من انحدار وانكسار وذلةٍ وهوان.
إن
الأمم والشعوب والدول تفتخر بعظمائها، وتبني بهم أمجادها وتؤسس التاريخ
لمنقذيها، وما علمنا ولا عرفنا ولا رأينا رجلاً أسدى لبني جنسه ولأمته من
المجد والعطاء والتاريخ، أعظم ولا أجلّ من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
أمَا
تَرى ما يفعل الإنجليز والألمان والفرنسيون والأمريكان بعظمائهم؟ وعظماؤهم
سفكة للدماء، ملاحدة وخونة، بنوا مجدهم على الجماجم والأشلاء، وسقوا زروع
تاريخهم بدماء الضحايا والأبرياء، قتلوا الأطفال والنساء، وحاربوا الفضيلة
والشرف، ونشروا العهر والرذيلة بين الشعوب. فحرام حرام، أن يذكر الرسول
-صلى الله عليه وسلم- مع هؤلاء، أو أن يجعل في مصافّهم، أو يقارن بهم، إنه
-صلى الله عليه وسلم- من نوع آخر، إنه نبي وكفى، إنه رسول فحسب.
الرسول
-صلى الله عليه وسلم- هو أعظم الناس، وإذا سمعت عن عظيم فاعلم أنك إذا
رأيته كان أقل مما سمعت، إلا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنه أعظم وأعظم
مما تسمع عنه.
إن المسلمين اليوم مع كل أسف يعرفون عن سيرته -صلى الله
عليه وسلم- قشوراً لا تحرك القلوب، ولا تثير الهمم، وهم يعظّمون النبي صلى
الله عليه وسلم- عن تقليد موروث ومعرفة قليلة، ويكتفون من هذا التعظيم
بإجلال اللسان، أو ما قلّت مؤونته من عمل، ومعرفة على هذا النحو تساوي
الجهل بها، إن حياة محمد صلى الله عليه وسلم- بالنسبة للمسلم مصدر الأسوة
التي يقتدى بها، ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها، والله -عز وجل-
يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [(21) سورة الأحزاب]، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)).
هَلَّ الهلالُ فكيفَ ضلَّ السَّاري *** وعلامَ تبقى حَيْرةُ المحتار
وتنفسَ الصبحُ الوضيءُ فلا تسل *** عن فرحة الأغصان والأشجار
غَنَّت فمكة وجهها متألقٌ *** أملاً ووجهُ طغاتها متوارِ
أوما ترى البطحاء تفتح قلبها *** فرحاً بمقدم سيد الأبرار
ماذا يقول حراء في الزمن الذي *** غلبت عليه شطارة الشُطَّار
طِبْ يا حراءُ فلليتيم حكاية *** نسجت ومنكَ بدايةُ المشوار
طِبْ يا حِراءُ فأنت أولُ بقعةٍ *** في الأرض سوف تفيض بالأسرار
وتساءل الكفار حين بدت لهم *** في ظلمةِ الأهواءِ شمعةُ ساري
من ذلك الآتي يمد لليلنا قبساً *** سيكشفُ عن خبايا الدار
من ذلك الآتي يزلزل ملكنا *** ويرى عبيد القوم كالأحرار
هذا محمد يا قريشُ كأنَّكم *** لم تعرفوه بعفةٍ ووقار
هذا الأمين أتجهلون نقاءه *** وصفاءه ووفاءه للجار
يا سيد الأبرار حبك لوحةٌ *** في خاطري صداحةُ الأطيار
يا سيد الأبرار أمتك التي *** حررتها من قبضة الأشرار
يا سيد الأبرار أمتك التوت في *** عصرنا ومضت مع التيار
شربت كؤوس الذُل حين تعلقت *** بثقافةٍ مسمومةُ الأفكار
إني أراها وهي تسحبُ ثوبها *** مخدوعة في قبضة السمسار
إني أراها تستطيبُ خضوعها *** وتلينُ للرهبان والأحبار
سَلْ أيها المخدوع طيبة عندما *** بلغت مداها ناقة المختار
سل عن حنين الجذع في محرابه *** وعن الحصى في لحظة استغفار
سل صُحبة الصديق وهو أنيسه *** في دربه ورفيقه في الغار
سل حمزة الأسد الهصورَ فعنده *** خبرٌ عن الجنات والأنهار
سل وجه حنظلةَ الغسيل فربما *** أفضى إليك الوجه بالأسرار
سل مصعباً لما تقاصرَ ثوبه *** عن جسمه ومضى بنصفِ إزار
سل في رياض الجنة ابن رواحة *** واسأل جناحي جعفر الطيار
سل كل من رفعوا شعارَ عقيدةٍ *** وبها اغتنوا عن رفع كل شعار
سلهم عن الحب الصحيح ووصفه *** فلسوف تسمع صَادِقَ الأخبار
حُبُّ الرسولِ تمسك بشريعة *** غراء في الإعلان والإسرار
حب الرسول تعلق بصفاته *** وتخلق بخلائق الأطهار
إحياء سنته إقامة شرعه في *** الأرض دفع الشك بالإقرار
إحياء سنته حقيقة حبه في *** القلب في الكلمات في الأفكار
فرجاؤنا ودعاؤنا ويقيننا *** وولاؤنا للواحد القهار
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت...
ناصر الأحمد
الموضوع : أم لم يعرفوا رسولهم ؟ المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya