وأما العدل مع الناس فتحته صور:
أ) العدل بين الأولاد.
في صحيحي البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أن أباه أتى به
رسول الله فقال: «إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسول الله :
«أفعلت هذا بولدك كلهم»؟ قال: لا. قال عليه الصلاة والسلام: «اتقوا الله
واعدلوا في أولادكم». قال: فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة». وفي رواية: «أشهد
غيري فإني لا أشهد على جَور». وفي أخرى لمسلم: «أيسرك أن يكونوا إليك في
البر سواء»؟ قال: بلى. قال: «فلا إذن». ولابن حبان: «سووا بين أولادكم في
العطية كما تحبون أن يسووا بينكم في البر».
يقول إبراهيم التيمي رحمه الله: "إني لو قبلت أحدَ الصغار من أولادي لرأيتُ
لازمًا عليّ أن أقبل الصغيرَ مثله؛ خوفًا من أن يقعَ في نفس هذا عليّ أذى".
وهنا ست مسائل تتعلق بالعدل بين الأولاد..
الأولى:
أنَّ هناك فرقاً بين النفقة والتبرع المحض.
ففي النفقة نعطي كل ولد ما يسد حاجته، فالذي في الجامعة يحتاج من المال
أكثر مما يحتاجه الذي في المدرسة، والمريض ينفق عليه أكثر من الصحيح. وأما
التبرع المحض فلا بد من المساواة فيه.
الثانية:
هل يساوي بين الذكر والأنثى من ولده؟
هذه فيها قولان لأهل العلم. فالحنابلة يرون أنَّ القسمة الشرعية في عطية
الوالد لأولاده أن تكون حسب قسمة الميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنه لا
أعدل من قسمة الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويجب
التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم، وهو مذهب أحمد" [الاختيارات، ص
184].
وقال شريح القاضي لرجل قسم ماله بين أولاده : "قِسْمَةُ اللَّهِ أَعْدَلُ
مِنْ قِسْمَتِك، فَارْدُدْهُمْ إلَى قِسْمَةِ اللَّهِ وَفَرَائِضِهِ" رواه
عبد الرزاق في مصنفه.
وقال عطاء: "مَا كَانُوا يُقَسِّمُونَ إلا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى". وانظر المغني (8/261).
وقال غيرهم من العلماء بوجوب التسوية بينهم، والخلاف في المسألة سائغ.
ولقائل أن يقول: مسألة الإرث لا يتصور معها حصول الشحناء، فإن الوالد مات،
والنص فيها واضح، والخلاف فيها غير واقع، أما مسألتنا هذه فمحل خلاف،
والوالد موجود بينهم، فهل يأمن الوالد إذا فاضل بينهما أن يتسرب إليها حقد
عليه أو على أخيها؛ إذ لا نص قاطع في المسألة؟! ولذا فمن الخير أن نساوي
بينهما في عطايانا، والله أعلم.
الثالثة:
لو جار والد فكيف سبيل التوبة؟
بواحد من ثلاثة أمور:
إما أن يرد ما فاضل به بين ولده.
وإما أن يعطي الثاني مثلما أعطى الأول.
وأما أن يسترضي المحرومين الراشدين، ولابد من التيقن من حصول الرضا وطيب
النفس، ولا يكون رضا حياء ومهابة ومجاملة، ولا أفضل من العدل؛ فإن الصدور
قد تصفو يوماً ثم تكون على خلاف هذا أياماً.
الرابعة:
الولد الذي يعمل مع والده؟
هذا يعطى راتبه ولا إشكال. ولو كان أحد الأولاد يقوم على خدمة والديه بخلاف
غيره فإنه لا بأس أن يُخصَّ بما يكافئ أجرة مثله.
الخامسة:
هل الأم مخاطبة بالعدل بين ولدها؟
قال ابن قدامة رحمه الله: "والأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب؛
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم»، ولأنها
أحد الوالدين فمنعت التفضيل كالأب، ولأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من
الحسد والعداوة يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها، فثبت لها مثل حكمه في
ذلك" [المغني 8/261].
السادسة:
هل للوالد أن يفرِّق بين ولديه لأن أحدهما بار والآخر عاق؟
الجواب: لا؛ فهذا مما يتفاحش به المنكر، فبدلاً من تلبُّس العاق بمعصيةِ
العقوق، يكون منه العقوق الزائد، والحقد على أخيه، والخطأ لا يدافع بمثله.
ولربما ورَّث المحروم حقده لولده فكانت قطيعة الرحم بذلك.
ب)العدل بين الزوجات
قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء/3]. أي: وإن خفتم
ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت أيديكم بأن لا تعطوهن مهورهن
كغيرهن، فاتركوهن وانكحوا ما طاب لكم من النساء من غيرهن: اثنتين أو ثلاثًا
أو أربعًا، فإن خشيتم ألا تعدلوا بينهن فاكتفوا بواحدة، أو بما عندكم من
الإماء.
وفي سنن أبي داود، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ
امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَشِقُّهُ مَائِلٌ».
وأما العدل المنفي في الآية: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ
النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ
فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء/129]، فالمراد به أمران لا يؤاخذ
الإنسان بهما: الحب والجماع.
تقول عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا
قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ»
رواه أبو داود، وقال: يعني القلب.
ولما سأل عمروٌ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من
أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة» متفق عليه.
ج) العدل مع الأعداء
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب من الأمثلة ما يحير العقول.
فعن أمِّ المؤمنين عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ
مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا:
السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمْ السَّامُ، والذام،
وَاللَّعْنَةُ، والغضب. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ
كُلِّهِ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَقَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ»
متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوْ انْتَقَصَهُ،
أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ
طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أبو داود.
د) العدل مع المخالف
لقد ابتُلي الناس في هذا الزمان بفئة ظالمة، لا همَّ لها سوى تتبع الزلات،
وتصيُّد العثرات، فمن خالف في مسألة يسوغ الخلاف فيها صار مبتدعاً، فاسقاً،
حزبياً، بغيضاً، ضالاً، سرورياً، قطبياً، بغيضاً، والله يقول: {سَتُكْتَبُ
شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف/19]، فهل أعددنا للسؤال جواباً؟ ولا
ريب أن رافع هذا اللواء سينال الحُِظوة عند مشايخه الذين سلك دربهم ورمى
بقوسهم، ولكني أذكره بآية في كتاب الله، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ
أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم/93-95]. وعندها يكلمنا الله بدون حجاب ولا
ترجمان، والله المستعان.
قال ابن رجب رحمه الله: "ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من
اغتفر قليل خطأ المرء في كثير من صوابه" [القواعد، ص 3].
وقال ابن عبد البر رحمه الله: "عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: ليس من
عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب
نقصه لفضله، كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله. وقال غيرُه: لا يسلم
العالم من الخطأ، فمن أخطأ قليلاً وأصاب كثيراً فهو عالم، ومن أصاب قليلاً
وأخطأ كثيرا فهو جاهل" [جامع بيان العلم وفضله: 2/48].
وإني أنصح بقراءة ما رقمه العلامة/ عبد المحسن العباد حفظه الله، في (رفقاً
أهلَ السنة بأهلِ السنة).
ومما يحمل على العدل مع الغير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن أحب أن
يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأت منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر،
وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» رواه مسلم.
الأمر به
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل/90].
ويقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا
بَصِيرًا} [النساء/58].
وقال: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ
وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى/15].
وقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ
بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص/26].
ويقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا
مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد/25].
أي: وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، وأنزلنا الميزان؛ ليتعامل
الناس بينهم بالعدل.
ومن نصوص السنة قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا حكمتم فاعدلوا» رواه
الطبراني في الأوسط.
وقد قال ربعي بن عامر رضي الله عنه -لرستم قائد الفرس لما سأله
ما جاء بكم؟- "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله،
ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" [البداية
والنهاية: 7/46].
الترغيب في العدل
1/ بالعدل تحفظ البلاد
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم
وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: الله ينصر الدولة العادلة، وإن
كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، ولو كانت مؤمنة" [الحسبة، ص 16].
وفي حلية الأولياء: كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: أما بعد، فإن
مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لها مالا يرُمُّها به فعل.
فكتب إليه عمر: "أما بعد، فقد فَهِمتُ كتابك وما ذكرت أن مدينتكم قد
خُرِّبت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل، ونقِّ طُرُقَها من الظلم،
فإنه مرمَّتُها، والسلام".
الموضوع : العـــــــدل المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya