بسم الله الرحمن الرحيم
فكـوا العـاني
الحمد لله رب العالمين
المحمود على كل حال، والصلاة والسلام على خير الأنام، وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعد:
فإن أعظم ما يُبتلى به العبد كتم حريته،
وحبس إرادته، والسجن والحبس له أشكال وأنواع، ومن أعظمه أثراً على النفس،
وأشدها بلاءً على البدن الحبس بالسجن، والوضع في مكان خال لا أخ فيه يؤانس، ولا
شريك فيه يواسي.
بل يكون السجن عذاباً أليماً،
وقهراً مبيناً إذا اجتمع معه الظلم والقهر، والتسلط والأذى.
هذا نبي الله يوسف
u
لما أخذ يعدد نعم الله عليه،
أثنى على الله بأعظم ما امتن به عليه من النعم، ومن تلك النعم قوله:]
وَقَدْ
أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
[
[يوسف:100]، فمع أن يوسف
u
قد مر بحبس أخطر من السجن ألا وهو الجب الذي ألقاه فيه إخوته ظلماً وزوراً، على
صغر سن، ومخافة، وجوع، لكنه هنا ذكر السجن، وذلك لحكم منها عِظَمُ أمر الحبس
بالسجن، وألمه على النفس.
والنبي صلى
الله عليه وسلم
قد أدرك هذا الأمر،
وعلم شدة ألمه، وعظيم أثره، فقد جاء عنه
صلى الله عليه
وسلم أنه
قال:«
وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي »،
أي أجاب داعي الملك لما أرسله إلى يوسف
u
ليخرج لمقابلة الملك، فلم يجب الداعي حتى يتبين الجميع من براءته، ويَظْهر
للناس نزاهته وعفته
u،
فنبينا صلى
الله عليه وسلم
يبين لو أنه لبث ما لبث يوسف
u
لأجاب الداعي، ولعجَّل بالخروج من السجن، كل ذلك لعظم أمر السجن، وشدة قهره،
وبلائه.
إن المبادرة بفكاك الأسير هو طاعة لله تعالى وقربة، واستجابة لأمر رسوله
صلى الله عليه
وسلم ،
يقول الله تعالى:]
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[
[الأنبياء:92]، وقال
U:]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
[
[الحجرات:10]، قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: في تفسير هذه الآية:( إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ: أي في الدين والحرمة، لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة
الدين أثبت من أخوة النسب؛ فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وإخوة الدين لا
تنقطع بمخالفة النسب) الجامع لأحكام القرآن(16/322).
وقال صلى
الله عليه وسلم
:« الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ
يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ » أخرجه مسلم(2564) عن أبي هريرة
رضي الله عنه
.
ويقول صلى
الله عليه وسلم في
هذا الشأن:«
فُكُّوا الْعَانِيَ - يَعْنِي الأَسِيرَ -
وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ » أخرجه البخاري(2881)، عن أبي
موسى رضي
الله عنه
.
وعن أبي جُحَيْفة
رضي الله عنه
قال: قلت لعلي
رضي
الله عنه
هل عندكم شيءٌ من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي
فلق الحبة، وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فِهما يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في
هذه الصحيفة؟ قلت: وما في الصحيفة؟ قال:( العقل،
وفكاك الأسير،
وأن
لا يقتل مسلم بكافر) أخرجه البخاري(111).
ففكاك الأسير، والمسارعة في نجدته،
والحرص على الوقوف معه، وبذل كل مجهود لتخليصه من الأسر، مما أمر به الشارع
الحكيم، فنصرته والسعي إلى فكاكه واجب شرعي على الكفاية.
والأسير المسلم لا يخلو حاله إما أن يكون أسيراً عند الكفار، وإما أن يكون أسره
عند المسلمين،
فإن كان عند الكفار - كما في معتقل الظلم والطغيان "معتقل جوانتانامو" وغيره -
فيجب مفاوضة الكفار على إخراجه، والجد في نصرته، فإن أبوا إخراجه بالمفاوضة
فإنهم يُقاتلون، فإن عجز المسلمون عن القتال، وجب عليهم الفداء بالمال، ولا
يدخروا حيلة في نصرته، ولقد شرع النبي
صلى الله عليه
وسلم للأمة
فداء الأسرى، فعن عمران بن حصين
رضي الله عنه
أنَّ
النبي صلى
الله عليه وسلم
فادى رجلاً برجلين. أخرجه الدارمي(2/295)، والشافعي في
مسنده(ص:323).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:(
فكاك
الأسارى من أعظ الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات)
مجموع الفتاوى(28/642).
وإن كان الأسير في بلاد المسلمين فإنه على حالين:
الحال الأولى:
من كان على مظلمة اقترفتها يداه، وجرم جناه فإن السعي في فكاكه ظلم وبهتان، فلا
يجوز فكاكه إلا بعد إقامة حكم الله فيه، مع مراعاة المصالح الشرعية، والمقاصد
المرعية، ويكون فكاكه بعد إسداء النصح له واستصلاحه، فإذا أقيم حكم الله فيه،
وتم استصلاحه فلا يجوز بعد ذلك بحال قهره بالحبس، وإهانته وإذلاله به، وإن كان
ذلك فهو نوع من الظلم الذي لا يجوز فعله، ولا السكوت عليه.
الحال الثانية:
من سجن بغير حق، ولا مظلمة اقترفها، بل لشبهة بان خلافها، أو مظلمة اتضح سلامته
منها، فإن إبقاءه في حبسه ظلم وأي ظلم، وجرم وأي جرم، بل يجب على جميع المسلمين
السعي في فكاكه، والحرص على إخراجه.
وفي هذا المقام أوجه رسائل أربع:
الأولى:
لكل من ولَّاه الله ولاية دينية أو دنيوية، وأجرى على يديه حفظاً للحقوق، أو
دفعاً للمظالم، فعليه أن يتق الله ويشارك في فكاك الأسير، ونصرة العاني، ويتقرب
بذلك إلى الباري، فإن تنفيس الكروب عن المسلم من أعظم ما يتقرب به العبد إلى
الله، وكذلك جمعه بأهله وولده من القربات العظام، ورد عنه
صلى الله عليه
وسلم أنه
قال:« مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى
أَنْ يَنْصُرَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ
U
عَلَى رُؤوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » أخرجه أحمد(3/487)، وعنه
الطبراني في الكبير(6/73) عن سهل بن سعد
رضي الله عنه
.
وهنا أذكر مثالين لمن ولَّاه الله ولاية دينية، وأخرى دنيوية استعملاها في نصرة
المظلوم، والتخفيف عن المكروب، وفك العاني، وإعانة الأسير المظلوم:
فالأول،
لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - فقد أرسل لحاكم قبرص برسالة طويلة
يستعطفه في أسرى المسلمين الذين في بلاده،
ويستحثه على إخراجهم من أسرهم، وإعادتهم إلى بلادهم، وهنا أنقل مقطع يسير من
تلك الرسالة الصادقة من عالم ناصح صادق، قال - رحمه الله تعالى - فيها:(
ومن العجب
كل العجب أن يأسر النصارى قوماً غدراً أو غير غدرٍ ولم يقاتلوهم، والمسيح
يقول:" من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن أخذ رداءك، فأعطه
قميصك"؟! وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله تعالى، وغضب عباده
المسلمين، فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص؟! سيما وعامة هؤلاء
الأسرى قوم فقراء وضعفاء، ليس لهم من يسعى فيهم...)
(الفتاوى28/625).
الثاني،
لأبي جعفر المنصور فعندما عاد من بعض غزواته،
لقيته امرأة، وقالت له: يا منصور، استمع ندائي، أنت في طيب عيش وأنا في بكائي.
فسألها عن مصيبتها التي عمتها وغمتها، فذكرت له
أن لها ابناً أسيراً في
بلاد سمتها،
وأنها لا يهنأ عيشها لفقده، ولا يخبو ضرام قلقها من فقده، وأنشد لسان حالها ذلك
الملك المعلى:( أيا ويح الشجيّ من الخليّ ) فرحب المنصور بها، وأظهر الرقة
بسببها، وخرج من القابلة إلى تلك المدينة التي فيها ابنها، وجاس أقطارها
وتخلَّلها حتى دوخها، إذ أناخ عليه بكلكله وذلَّلها، وأعراها من حماتها، وببنود
الإسلام المنصورة ظلَّلها، وخلص جميع ما فيه من الأسرى، وجلبت عوامله إلى قلوب
الكفرة كسراً، وانقلبت عيون الأعداء حسرى). (نفح الطيب1/597: نقلاً عن كتاب
صلاح الأمة في علو الهمة6/214).
الرسالة الثانية:
لكل من تسلط على عباد الله بالظلم والقهر، وسلب حرياتهم
وحقوقهم، فليعلم أن الله له بالمرصاد، وإن نجا من عقوبة الله له في الدنيا،
فعند الله تجتمع الخصوم، وعندها يؤخذ للضعيف ممن سلبه إرادته وحقه، يقول الحق
العليم:]
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ
[
[إبراهيم:42].
وهنا أُذكر كل ظالم متجبر، ومتسلط معاند، وأقول له:
لقد جعل الله لكم في كلا من: حبيب العادلي، وأحمد عز عبرة وعظة، فالأول ضيق على
الناس في دينهم وحرياتهم، والآخر سلب أموالهم، وضيق عليهم في معاشهم، فأذلهما
اللهُ بعد عز، وأهانهما بعد رفعة،
]
وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يَشَاءُ
[
[الحج:18].
واعلموا
- أيها الظلمة - أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، فاتقوا دعوة
المظلوم، فكم من ظالم صُرع لا يَعْلَم ما سبب مصرعه، لكنها دعوات تُرفع، ورب
يسمع، يقول
صلى الله عليه وسلم
لمعاذ بن جبل
لما بعثه إلى اليمن:«
اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ
حِجَابٌ »
أخرجه البخاري(1425)، ومسلم(19) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الرسالة الثالثة:
للمقهورين، والصابرين المبتلين، إلى المحبوسين المعتقلين، أقول لهم: اصبروا
واحتسبوا الأجر من الله، واعلموا
]
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
[
[الشرح:6]، وأن الليل إن تشتد ظلمته فبعده فجر صادق، وحق ظاهر،
واعلموا أن رحمة الله
بعباده عظيمة، فإن الله ينزل من المعونة على قدر البلاء
كما قال صلى
الله عليه وسلم
:«
إِنَّ
المَعُوْنَة تَأْتِيْ مِنَ اللهِ عَلى قَدْرِ المؤُوْنَة، وإِنَّ الْصَّبْرَ
يَأْتِيْ مِنَ اللهِ عَلى قَدْرِ الْبَلَاءِ
»
رواه البزار(ص:156) عن أبي هريرة
رضي الله عنه
،
وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة(1664)،
وهذه من رحمة الله
بكل مبتلى.
واعلموا أن الله قد يبتلي العبد بالمصائب والبلايا كل ذلك ليكفر عنه من سيئاته،
ويرفع من درجاته فيكون
له عند الله بهذا البلاء فضل عظيم، ودرجة رفيعة.
وعليكم أن تدركوا أن هذه الشدائد التي تعتري المسلم هي - بلا شك - خير له في
الحقيقة يقول
صلى الله عليه وسلم
:«
عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ
لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا
لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ».
أخرجه
مسلم(2999) عن صهيب
رضي الله عنه
.
الموضوع : فكـوا العـاني المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya