باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
سبق
أن ذكر المؤلف كتاب التوحيد؛ أي: وجوب التوحيد، وأنه لا بد منه، وأن
معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ
لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]: أن العبادة لا تصح إلا
بالتوحيد.
وهنا ذكر المؤلف فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره.
ومن
ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (صلاة
الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) . متفق عليه
[البخاري: كتاب الجماعة والإمامة/ باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم: كتاب
المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة.
].
ولا يلزم من ثبوت
الفضل فيها أن تكون غير واجبة؛ إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل
الأعمال إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك؛ ففيه فضل.
قوله:
(وما يكفر من الذنوب). معطوف على "فضل"؛ فيكون المعنى: باب
فضل التوحيد، وباب ما يكفر من الذنوب، وعلى هذا؛ فالعائد محذوف والتقدير ما
يكفره من الذنوب، وعقد هذا الباب لأمرين:
الأول: بيان فضل التوحيد.
الثاني: بيان ما يكفره من الذنوب، لأن من آثار فضل التوحيد تكفير الذنوب.
فمن فوائد التوحيد:
1-
أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله - سبحانه وتعالى - ؛
وعليه، فهو يعمل سرًا وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلًا، فإنه
يتصدق ويصلى، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف:
"إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو".
2- أن
الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ
وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم
مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
* * *
وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82].
قوله: {لم يلبسوا}، أي: يخلطوا.
قوله:
{بظلمٍ}، الظلم هنا ما يقابل الإيمان، وهو الشرك، ولما نزلت هذه الآية
شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ: (ليس الأمر كما تظنون، إنما المراد به الشرك، ألم
تسمعوا إلى قول الرجل الصالح - يعني لقمان - : {إن الشرك لظلمٌ
عظيم}" [(1) البخاري: كتاب الإيمان/ باب ظلم دون ظلم، مسلم:
كتاب الإيمان/ باب صدق الإيمان وإخلاصه.
].
* والظلم أنواع:
1- أظلم الظلم، وهو الشرك في حق الله.
2- ظلم الإنسان نفسه؛ فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام.
3- ظلم الإنسان غيره، مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل، أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك.
وإذا انتفى الظلم، حصل الأمن، لكن هل هو أمنٌ كامل؟
الجواب:
أنه إن كان الإيمان كاملًا لم يخالطه معصيةٌ؛ فالأمن أمنٌ مطلق، أي كامل،
وإذا كان الإيمان مطلق إيمانٍ - غير كامل ـ؛ فله مطلق الأمن؛ أي: أمن
ناقص.
مثال ذلك: مرتكب الكبيرة، أمنٌ من الخلود في النار، وغير
آمن من العذاب، بل هو تحت المشيئة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}
[النساء: 116].
وهذه الآية قالها الله تعالى حكمًا بين
إبراهيم وقومه حين قال لهم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ...} إلى قوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
[الأنعام: 81،82]؛ فقال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ
يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ...} الآية [الأنعام: 82]،
على أنه قد يقول قائلٌ: إنها من كلام إبراهيم ليبين لقومه، ولهذا قال
بعدها: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى
قَوْمِهِ} [ الأنعام 83].
قوله: {الأمن}، أل فيها للجنس، ولهذا فسرنا الأمن بأنه إما أمن مطلق، وإما مطلق أمن حسب الظلم الذي تلبس به.
قوله:
{وَهُم مُّهْتَدُونَ}، أي: في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل؛
فالاهتداء بالعلم هداية الإرشاد كما قال الله تعالى في أصحاب الجحيم:
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا
يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}
[الصافات: 22: 23].
والاهتداء بالعمل: هداية توفيق، وهم مهتدون في الآخرة إلى الجنة.
فهذه هداية الآخرة، وهي للذين ظلموا إلى صراط الجحيم؛ فيكون مقابلها أن الذين آمنوا ولم يظلموا يهدون إلى صراط النعيم.
وقال
كثير من المفسرين في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ}:
إن الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا، والصواب أنها عامةٌ بالنسبة للأمن
والهداية في الدنيا والآخرة.
مناسبة الآية للترجمة:
أن الله أثبت الأمن لمن لم يشرك، والذي لم يشرك يكون موحدا ؛ فدل على أن من فضائل التوحيد استقرار الأمن.
* * *
عن
عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم
ـ: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده
ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة
حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أخرجاه
[البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء/ باب قوله تعالى: (يا أهل الكتاب
لا تغلوا في دينكم(، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على أن من مات
على التوحيد دخل الجنة.].
قوله: (من شهد أن لا اله إلا
الله)، الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق، قال تعالى: {إِلاَّ مَن
شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وهذا العلم
قد يكون مكتسبًا وقد يكون غريزيًا.
فالعلم بأنه لا إله إلا الله
غريزيٌ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كل مولودٍ يولد على الفطرة)
[) البخاري: كتاب الجنائز/ باب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم:
كتاب القدر/ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.]. وقد يكون مكتسبًا،
وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها.
ولابد أن يوجد العلم بلا إله إلا الله ثم الشهادة بها.
قوله: {أنْ}، مخففة من الثقيلة، والنطق بأن مشددة خطأٌ، لأن المشددة لا يمكن حذف اسمها، والمخفّفة يمكن حذفه.
قوله:
{لا إله}، أي: لا مألوه، وليس بمعنى لا آله، والمألوه: هو المعبود
محبةً وتعظيماُ، تحبه وتعظمه لما تعلم من صفاته العظيمة وأفعاله
الجليلة.
قوله: {إلا الله}، أي: لا مألوه إلا الله، ولهذا
حكي عن قريش قولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا
لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
أما قوله تعالى: {فَمَا
أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن
شَيْءٍ} [هود: 101]، فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفيٌ
شرعًا، وإذا انتفى شرعًا؛ فهو كالمنتفي وقوعًا؛ فلا قرار له، {وَمَثلُ
كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ
مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 26].
وبهذا يحصل الجمع
بين قوله تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} [هود:
101]، وقوله تعالى حكايةً عن قريش: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا
وَاحِدًا} [ص: 5]، وبين قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ
اللَّهُ} [آل عمران: 62]؛ فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها
ولا حقيقة؛ إذ هي باطلة شرعًا، لا تستحق أن تسمى آلهة؛ لأنها لا تنفع ولا
تضر، ولا تخلق ولا ترزق؛ كما قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ
إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ
بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [يوسف: 40].
(الشيخ محمد بن صالح العثيمين)
الموضوع : فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ((1)) (( الشيخ محمد بن صالح العثيمين)) المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya