د. أسامة عثمان
إذا كانت العبثية تعني افتراق النشاط الإنساني عن هدفه؛ فإن الجدية لا تكاد تفارق العاقل, أو لا ينبغي لها.
ربما يسارع البعض إلى الظن أنها دعوة إلى التقطيب الدائم, والبراءة من مُسَبِّبات الترفيه, وأشكال التسلية, وذلك مما لا تقبله الجِدية, ولو قلنا إنها في المُبهجات, والمسليات, مطلوبة, كما في الأخريات, لما كنا مبالغين؛ فكيف يتسع هذا المعنى, وتلك الصفة, حتى تشمل أمور الحياة كلها؟
إذا فهمنا الجدية في إطار السعي إلى تحقيق الأهداف؛ فإنها تتوزع لتشمل القيم التي تستغرق الإنسان, أينما وجد, ومتى كان, من قيم مادية ربحية, وقيم إنسانية, وأخرى روحية, وحين ذاك فإن الحياة بمناشطها كافة تندرج تحت هذه القيمة العليا, وهي الجدية.
وإنها تعني للمسلم, أن يحمل أمر دينه ودنياه على محمل الجِد, وأن يقدر كل شيء حق قدره, وقد وصف الله سبحانه الكفار بقوله:(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه...). [الأنعام:91]. فهي تعني أن يَزِن المرءُ كل شيء بميزانه السوي المناسب له.
ولعل أولى ما يستحق أن يُعامل بجدية مصير المرء نفسه, هل ينتهي إلى جنة, اللهم إنا نسألكها! أو يهوي به المصير إلى النار, أعاذنا الله منها!
وبين المسلمين اليوم فئات كثيرة, ممن يعرفون للدين مكانةً, ولكنهم, لا يحلُّونه من قلوبهم, ومن جوراحهم المحل الذي يليق به؛ وهؤلاء, أول ما يعيبهم, أنهم لم يقتطعوا من أوقاتهم شيئاً لدراسة الإسلام الذي يدينون به, وترى منهم متعلماً, وغير متعلم, ومثقفاً, وعامِّياً, يطوون الأيام, والليالي, في فهم معطيات الدنيا, وشؤون تخصصاتهم, ومنهم من يفني كثيراً من عمره في قراءة كتب الثقافة والأدب؛ فتعمل في عقله, ووجدانه عملها الخفي, العميق, ولا يَسبق ذلك كله بتكوين فهم صحيح لدينه الذي هو القاعدة الفكرية, التي يبني عليها, ويقيس بها؛ ثم إذا طرحت قضايا الدين, سارع إلى رفض ما لا يقبله عقلُه المثقف بثقافة مختلطة, وشعوره الذي تكفلت به روافد شتى من الغث والسمين!
لكن هذا المسلم الجافي عن دينه, إيماناً, وعلماً, وثقافة, لا يقبل أن يتعامل أحدٌ مع شؤون تخصصه, أو مجال حرفته, بأي قدر من الاستخفاف, أو التخليط, وربما رماه بأقذع الأوصاف, ونعته, بأقسى أوصاف التجهيل, والاستغباء. إنها, إذن, انتقاص في جدية التعامل مع الدين! وفي مقدار ما يستحق من التوقف عند أحكامه, وحلوله؛ فإذا ما عُرضت مسألة للنقاش, وطُرح فيها رأي الإسلام, بادر على عجل، برأي يزعمه إسلامياً؛ ثم لا يلوي على برهان, أو يصبر, على عرض الأدلة، بحسب ما تتطلبه المسألة, وصعيدها الشرعي.
والجدية, بعد ذلك يحتاجها المرء في هذه الدنيا, محل الابتلاء, وموطن العمل؛ إذ كثيراً ما يتسبب الفهم الخاطئ لمعاني العقيدة إلى الاستهتار بما جعله الله أسباباً للغايات والمُسَبَّبات, كما هو معروف عن مفهوم التواكل, وربط العمل بالقَدَر الذي لم ينكشف للعبد, فـ" لن يحدث إلاّ ما كتبه الله"؛ تحل, بفهمها المغلوط, محل العمل المطلوب, والواجب, المأمور به, شرعاً, كالأخذ بأسباب النجاح العلمي, أو المهني!
والمشكلة هنا لها بعدان: عميق, يتصل بتصويب الفهم, وسطحي, يتعلق باكتساب صفة الجدية, بالتدريب, والتمرين, ولا بد أن مرارة الإخفاق, ستكون واحدة من الحوافز نحو تلك الجدية المتعلقة بشؤون الدنيا, ولا يخفى أن إحساس المسلم, بترابط الدنيا بالآخرة, على نحو تبادلي تفاعلي, سيدعوه إلى ذلك, وسيذكر حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كلٍّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعْجَز.. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله، وما شاء فعل، فإنّ لَوْ تفتح عمل الشيطان". رواه مسلم.
ومن مستلزمات الجدية أن يقدر العاقلُ الغاية التي يستهدفها؛ من حيث مستواها, في الخطورة, والوسائل والأسباب التي تتطلبها, ما دام الإنسان قادراً على بذل المزيد من الطاقة والجهد.
وَلَمْ أَرَ فِي عُيوبِ النَّاسِ شيئاً كَنَقْصِ القَادرينَ عَلى التَّمَامِ
وليس من الجدية مثلاً, أن تجد الطالب يُمضي أعواماً دراسية متتابعة في المدرسة، وأحياناً في الجامعة يروح ويغدو إليهما, وتقتطع "الدراسة" من عمره, وهو لا يفيد من ذلك الفائدة المتوقعة.
فلا بد من إيلاء كل عمل ما يتطلبه من الاهتمام, وبذل ما يحتاجه من جهود, وليس مجرد السعي دالاً على تحقق الجدية؛ فالله- سبحانه- قال: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً). [الإسراء:19] فلا يكفي أن تتوجه الإرادة نحو الآخرة؛ لينالها المريد، بل, لا بد أن يسعى لها, بل, لا بد أن يسعى لها سعيَها الذي جعله الله سبباً لاستحقاقها برحمته, وكرمه, سبحانه. وفي هذا المعنى يَرِد قولُه تعالى عن المنافقين:(وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ). [التوبة:46]. قال القرطبي: "أَيْ لَوْ أَرَادُوا الْجِهَاد لَتَأَهَّبُوا أُهْبَة السَّفَر. فَتَرْكهمْ الِاسْتِعْدَاد دَلِيل عَلَى إِرَادَتهمْ التَّخَلُّف".
وأخيراً: كم نَفيد مما أوتينا من طاقات متعددة على مستوى الفرد, وعلى مستوى الشعوب والجماعات والدول؟
وماذا لو تقدمنا نحو مزيد من الجدية التي تتضمن الاجتهاد, بما يعنيه ذلك من تفعيل جهود كامنة, وطاقات معطلة؟
كم من شاب محروم من أن يلذ بطعم النجاح, والسبب افتقاده إلى الجدية المطلوبة في تحقيق ما يصبو إليه! وكم من عاصٍ يتعذب في إسار المعصية, ويتمنى لو استطاع أن ينعم بسكينة الإيمان, ثم تخذله نفسُه, وتُعْوِزه الجدية! فهل نبدأ؟!
الموضوع : الجدية والتلاعب المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: الجداوية
