من أروع ما يقرأ هذه الأيام كتاب "منهجيات في الإصلاح والتغيير من خلال سورة الكهف" للأستاذ الدكتور صلاح الدين سلطان المستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مملكة البحرين.
والكتاب
لا يتعلق بتفسير أو تحليل سورة الكهف التي سن لنا أن نتلوها أسبوعيا، ولم
يتوقف عند معانيها ودروسها.. اللهم ما ورد في فضلها:عن أبي الدرداء رضي
الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة
الكهف،عُصم من الدجال" صحيح مسلم.
يذكر
الكاتب أن أول ما لفت نظره ما ورد في فضل السورة عن البراء بن عازب رضي
الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلي جانبه حصان مربوط بشطنين،
فتغشاه سحابةٌ، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر.. فلما أصبح أتي النبي
صلي الله عليه وسلم فذكر ذلك له‘ فقال: "تلك السكينة ُ تنزلت بالقرآن"
رواه البخاري.
فحرص
الكاتب أن بتتبع المنهجية في قصص السورة، مشيراً إلى قاعدة هامة انه من
اجل الانطلاق للحلول المناسبة لابد من التخلية ثم التحلية للارتقاء من
الممارسة للتذوق، ومن الاختلاف للائتلاف.
(*) مدخل تمهيدي:
تتبع الكاتب عددا من منهجيات التغيير والإصلاح التي حوتها السورة، مبيناً أن هناك فرق بين الشرعة والمنهاج }لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً{ [المائدة: 48]
فالشرعة: هي الأحكام التفصيلية كوجوب الصلاة, أما المنهجية: كيف وصلنا إلي أن الصلاة فريضة؟ والجواب: من النصوص القطعية من الكتاب والسنة.
(1) منهجية الإصلاح مع التدرج:
من الاستضعاف: }وليتلطف ولا يُشعرن بكم أحدا{ [الكهف:19] حيث يكون الحق ضعيفا مطارداً, والباطل قويا مهددا.
ثم إلي الحوار: }وهو يحاوره{ [الكهف: 37،34]، إذا تساوي أهل الحق مع أهل الباطل فلا يجوز الاعتزال أو استعمال القوة، بل اللجوء إلى منهج الحوار.
ومنهما إلي التمكين: }فأعينوني بقوة{ [الكهف: 95], فيكون بجانب الحوار القوة والتمكين.. وهذه القصص تعني الأمل الكبير لدي أصحاب الدعوات أن ينهي الله علي أيديهم أمرين:
§ الاستبداد السياسي مثل ملك أصحاب الكهف.
§ الفساد المالي مثل الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا.
(2) منهجية بعث الأمل مهما كان الألم:
فالسورة تبدأ بأعظم رسالة أمل }ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسناً{ [الكهف:2]
جميع
القصص التي ضمت صراعا بين الحق والباطل بدأ الحق ضعيفا وانتهي قويا مسددا،
وهو أمل سريع المفعول نكتسبه كل أسبوع لأنها انتهت كلها بالفلاح لأصحاب
الحق والبوار للكافرين.
(3) منهجية الوصف الدقيق والتحليل العميق:
فالحلول
المناسبة لكل أزمة ولكل حالة، وذكر لها ثلاث قصص التي فيها صراع بين الحق
والباطل، أذكر منها: قصة أصحاب الكهف, ثم قصة الصاحبين, وأخيرا قصة ذو
القرنين وأكتفي بمثال قصة أصحاب الكهف:
§ الوصف الدقيق:
}إنهم فتية آمنوا بربهم{ [الكهف:13]، }إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا أبدا{ [الكهف:20]
§ التحليل العميق:
}لولا يأتون عليهم بسلطان بين{، }فمن أظلم ممن افتري علي الله كذبا{ [الكهف:15]
§ الحلول المناسبة:
}وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا{ [الكهف:19]
(4) منهجية البحث فيما ينبني عليه عمل فقط:
}فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا{ [الكهف:22], إذن النهي الصريح عن المراء وعدم الاستفتاء فيما ليس تحت عمل.
(5) منهجية الارتقاء إلي الأحسن وليس للحسن فقط:
فقد جاءت صيغة " أفعل التفضيل" عشرين مرة بداية من قوله تعالى: }إنا جعلنا ما علي الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا{ [الكهف:7] ، لتشير إلي منهجية السعي للوصول للأحسن وليس للحسن فقط.
(6) منهجية ربط الأسباب بالنتائج:
فمن أهم وسائل التربية ودفع الإنسان لتغيير مواقفه, أن تقدم له نتائج أفعاله إن خيرا أو شرا }ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرطا{
[الكهف:28]، فهذه دركات يسلم بعضها بعضا فأول دركة في البعد عن الله هي
الغفلة عن ذكره، مما يؤدي إلي أن يحكم الإنسان هواه، والنتيجة هي انفراط
عقد حياته.
(7) منهجية الإدارة الربانية:
التي
تتنزل علي أصحاب الإيمان إذا قاموا بواجبهم التربوي لإصلاح أنفسهم,
وواجبهم الدعوي لإصلاح مجتمعهم وأمتهم وعالمهم، وتتلخص في ثمانية نقاط:
1- مبدأ الحوار: كحوار أهل الكهف }فابعثوا أحدكم بورقكم..{ [الكهف:19]
2- مبدأ التفويض في الإدارة: }فلينظر أيها أزكى طعاما{ [الكهف: 19]
3- مبدأ فرق العمل: }فأعينوني بقوة{ [الكهف:95]
4- مبدأ الوضوح: }سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا{ [الكهف:78]
5- مبدأ التذكير فالعتاب فالحسم:
§ التذكير: عندما نسي موسي فسأل عن سبب خرق السفينة }قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا{ [الكهف:72]
§ العتاب: عندما نسي وسأل عن سبب قتل الغلام: }ألم أقل لك{ [الكهف:75]، كلمة (لك) تدل علي رفع مستوي التذكير إلي العتاب الشخصي.
§ الحسم:عندما تكرر السؤال عن سبب إقامة الجدار}قال هذا فراق بيني وبينك{[الكهف:78]
6- مبدأ التدرج: مبدأ إداري وشرعي, فمثلا }وليتلطف{ يناسب مرحلة ضعف أهل الحق، }وهو يحاوره{ تساوي أهل الحق والباطل.. وهكذا.
7- مبدأ الوقاية قبل العلاج: يبدو جليا من قصة موسي والخضر، فالله تعالي ألهم الخضر أن يخرق السفينة، ويقتل الغلام ويبني الجدار.
8- مبدأ الإرادة فالإدارة فالانطلاقة:
§ الإرادة: }لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين{ [الكهف:60]
§ الإدارة السوية: اصطحاب الغلام واتخاذ السبيل العملي في البحر سربا.
§ الانطلاقة الفتية: }فانطلقا{ [الكهف:71،74،77]
(8) منهجية مجمع البحرين
التي تشير إلي الآتي:
§ لابد من التقاء كل جماعات الدعوة ومؤسسات الإصلاح والتغيير والدخول في حوار يُمثل مجمع البحرين.
§ لايفترض في هذا الالتقاء أن تذوب كل الجماعات والمؤسسات الإسلامية في بوتقة واحدة وقيادة واحدة لأن هذا عكس الناموس الرباني }ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم{ [هود:118-119]، وعكس التكوين الإنساني }ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين{ [الروم:22]
§ حدث الافتراق بعد وضوح الرؤية }سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا{ [الكهف: 78]
§ الخطوة الحقيقية نحو العزة والتمكين لن تحدث إلا بعد التقاء مجمع البحرين.
§ إذا
حدث هذا الالتقاء فإن العناية الربانية سوف تتكفل بإحداث أمور لا يفهمها
إلا النادر من العباد, ووفق الله الكاتب إلي قاعدة ثمينة: "علينا أن نشغل
أنفسنا بما كلفنا الله به،وندع لله ما ضمنه لنا".
(9) منهجية إدارة الفتن:
فالفتن بأنواعها لا يخلو منها إنسان علي وجه الأرض }كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا تُرجعون{ [الأنبياء:35]
وعرض الفتن المتنوعة في سورة الكهف عرضا عميقا للفتن في جانبها السلبي, منها: فتنة زينة الحياة الدنيا: المال والولد }المال والبنون زينة الحياة الدنيا{ [الكهف:46], وأمامها القيمة الباقية }والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا{ [الكهف:46]، وهكذا كل ألم أمامه أمل وعمل.
(10) منهجية الارتقاء في العبادة من الممارسة إلي التذوق:
إذا
حاولنا تعميق هذه المنهجية, فإن الإنسان يحتاج إلي مجاهدة النفس والهوى كي
ينتقل من غفلة القلب وجفاف الروح وسوء الخلق إلي استحضار القلب وصفاء
القلب والروح معا، فنجد هذا التذوق يرتفع إلى أعلي مستوي حيث يقول الصاحب
المؤمن لصديقه المشرك: }لكنا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحد{ [الكهف:38]
(11) منهجية كلمات ربي تدلُّني علي ربي:
جاء
الحديث عن الله بشكل مباشر, وبطريق مستتر جوازا أو وجوبا، ويتضح هنا الفرق
بين النظرة السريعة ونظرة التأمل في الوصول إلي الله تعالي من خلال
السورة, مثال: }الحمد لله الذي أنزل علي عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا{
[الكهف:1], فالنظرة السريعة تقتضي أن الحديث عن الله في الآية جاء مرة
واحدة.. في حين أن الله ذكر في الضمير (عبده) أي عبد الله, وهكذا
أما
بنظرة التأمل (الحمد) ترتبط في وجدان المسلم بتدبر نعم الله، وكلمة(أنزل)
تعنى أن الله هو الذي أمر بإنزال الكتاب، وهكذا في عدة آيات.. وهذه
الأمثلة توحي بعمق التدبر والتأمل الطويل في كل كلمة وليس كل آية؟
(12) منهجية مناسبة الخطاب الدعوي:
لغة الخطاب تختلف في السورة وفقا للمقام وللمُخاطب، ومثال علي ذلك نجد لغة ذي القرنين ينصهر فيها الحق بالقوة }فأعينوني بقوة{
[الكهف:95]، فيتوعد من ظلم بالعقوبات، ويعد من أحسن بالخيرات، ويوقف بغي
يأجوج ومأجوج بالسدود المانعات، وكذلك لو نظرنا لقصة موسي عليه السلام مع
أن الله تعالي اصطفاه برسالاته وكلامه، لكن عندما تعامل مع الخضر تعامل
كتلميذ وعامله الخضر كأستاذ؟ وموقع التلميذ اتسم بالرجاء }هل اتبعك علي أن تعلمن مما علمت رشدا{ [الكهف:66].. فهل يتصرف المسلم الداعية بأسلوب الدعوة بهذه المنهجية الدقيقة فيختار لكل شخص المفاتيح من الأقوال والأفعال؟
(13) منهجية الاختيار بين التقابلات والأضداد:
تقول العرب "بالضد تتميز الأشياء" يبقي علي كل إنسان أن يختار ما اختاره الله وهذا قمة اليقين، أمثلة للأضداد في السورة الكريمة:
§ الإنذار والتبشير: }قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا{ [الكهف:2]
§ الهداية والضلال: }من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا{ [الكهف:17]
§ الذكر والنسيان: }واذكر ربك إذا نسيت وقل عسي أن يهدين ربي{ [الكهف:24]
هذه
المتقابلات والأضداد ليست للتحسين البلاغي فقط لكن للانتفاع العملي في
الاختيار بين الإنذار والبشرى، وبين الهداية والضلال، وبين نسيان ذكر الله
وتذكره في اليوم والليلة.
(14) منهجية العناية الربانية:
وهي
العناية الخاصة التي تتنزل علي أصحاب الإيمان إذا قاموا بواجبهم التربوي
لإصلاح أنفسهم، وواجبهم الدعوي لإصلاح مجتمعهم وأمتهم وعالمهم, فلا بد من
وجود أولوا بقية أصحاب طاعة وعقل ودين وبصيرة يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر، ليسوا صالحين فقط فالحصن من الهلاك أن يكون القوم مصلحين مع
صلاحهم }وما كان ربك ليُهلك القرى بظلم وأهلها مُصلحون{ [هود:117]
فلا
بد من السعي لتغيير النفس ثم المجتمع ولا نكتفي بأيهما حتى ننال العناية
الربانية في النصر والتمكين والانتقال من الاستضعاف إلي الاستخلاف ومن
الذلة إلي العزة بفضل الله تعالي.
ومن أمثلة الخصائص الربانية في السورة: أول ما وصل الفتية للكهف بدأوا بالدعاء: }ربنا آتنا من لدنك رحمة...}(الكهف:10)، وصفهم الله تعالي {فتية آمنوا بربهم{ [الكهف:13]، تفويض العلم إلي ربهم: }قالوا ربكم أعلم بما لبثتم{ [الكهف:19]، الانصراف عن الجدل }فابعثوا أحدكم بورقكم{ [الكهف:19]
الخلاصة:
§ هناك فرق بين الشرعة والمنهاج.
§ منهجية الإصلاح مع التدرج.
§ بطش الأنظمة هو المسوغ لوجود الجماعات السرية.
§ بذل الجهد لفتح الحوار مع المجتمع.
§ لابد للدعاة أن يجيدوا ربط الأسباب بالنتائج.
§ لابد من الالتقاء علي الثوابت بين مؤسسات العمل الخيري الإسلامي وأعمال البر وأن يوجد مبدأ الحوار بينهم.
§ الفتن قدر الله علي العباد الصالح والطالح.
§ وجوب
السعي لتغيير النفس أولا، والمجتمع ثانيا دون الاكتفاء بأحدهما حتى ننتقل
من الاستضعاف إلي الاستخلاف ومن الاستهلاك إلي الإنتاج, ومن الذلة إلي
العزة.