مجالات استثمار الوقت
لا يوجد دين يقدر قيمة الوقت مثل الإسلام، حيث أعطى القرآن الكريم أهمية
بالغة للزمن، وارتبطت معظم العبادات في التشريع الإسلامي بمواعيد زمنية
محددة وثابتة كالصلاة والصيام والحج، وحث المسلمين على استثمار الوقت فيما
يفيدهم وينهض بمجتمعهم الإسلامي، فمجال الأعمال واستغلال وقت رمضان فيها
متعددة ومتنوعة اهمها:
أولاً : الصوم
قال صلى الله عليه وسلم : ( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى
سبعمائة ضعف . يقول الله عز وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، ترك
شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ، للصائم فرحتان ؛ فرحة عند فطره ، وفرحة عند
لقاء ربه، و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) [أخرجه
البخاري ومسلم] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) [أخرجه البخاري ومسلم] .
لا شك أن هذا الثواب الجزيل لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط ،
وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل
به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) [أخرجه البخاري] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( الصوم جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا
يرفث ولا يفسق ولا يجهل ، فإن سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم ) [أخرجه
البخاري ومسلم] .
ثانياً : القيام
قال صلى الله عليه وسلم : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدم من ذنبه ) [أخرجه البخاري ومسلم] .
وقال تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم
الجاهلون قالوا سلاماً . والذين يبيتون لربهم سجداً وقياما ) [الفرقان 63 ـ
64] .
وقد كان قيام الليل دأب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قالت عائشة :
رضي الله عنها : ( لا تدع قيام الليل ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان لا يدعه ، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً .
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يصلي من الليل ما شاء حتى إذا كان
نصف الليل أيقظ أهله للصلاة ثم يقول لهم : الصلاة ، الصلاة .. ويتلو هذه
الآية : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك
والعاقبة للتقوى ) [طه الآية 132] .
وكان ابن عمر يقرأ هذه الآية : ( أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [الزمر الآية 9]
قال : ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال ابن حاتم : وإنما قال ابن
عمر ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته حتى أنه ربما قرأ
القرآن في ركعة .
وعن علقمة بن قيس قال : بت مع عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ليلة
فقام أول الليل ثم قام يصلي فكان يقرأ قراءة الإمام في المسجد يرتل ولا
يرجع يسمع من حوله ولا يرجع صوته ، حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين
المغرب إلى الانصراف منها ثم أوتر .
وفي حديث السائب بن زيد قال : كان القارئ يقرأ بالمئين ـ يعني بمئات
الآيات ـ حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام قال : وما كانوا ينصرفون
إلا عند الفجر.
تنبيه : ينبغي لك أخي المسلم أن تكمل التراويح مع الإمام حتى تكتب في
القائمين ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب
له قيام ليلة ) [رواه أهل السنن] .
ثالثاً : الصدقة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في
رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة .. وقد قال صلى الله عليه وسلم :
" أفضل الصدقة صدقة في رمضان "[أخرجه الترمذي عن أنس] .
قال الله تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً .
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا
يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرةً وسروراً
وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً ) [الإنسان 8 ـ 12] .
فقد كان السلف الصالح يحرصون على إطعام الطعام ويقدمونه على كثير من
العبادات. سواءً كان ذلك بإشباع جائع أو إطعام أخ صالح ، فلا يشترط في
المطعم الفقر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما مؤمن أطعم
مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه
الله من الرحيق المختوم " رواه الترمذي بسند حسن .
وقد قال بعض السلف : لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل !!
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم ، منهم عبد الله بن عمر ـ رضي
الله عنهما ـ وداود الطائي ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل ، وكان ابن عمر
لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين .
وكان من السلف من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس يخدمهم ويروحهم .. منهم الحسن وابن المبارك .
قال أبو السوار العدوي : كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد ما
أفطر أحد منهم على طعام قط وحده ، إن وجد من يأكل معه أكل وإلا أخرج طعامه
إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه .
وعبادة إطعام الطعام ، ينشأ عنها عبادات كثيرة منها التودد والتحبب إلى
إخوانك الذين أطعمتهم فيكون ذلك سبباً في دخول الجنة : ( لن تدخلوا الجنة
حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ) كما ينشأ عنها مجالسة الصالحين
واحتساب الأجر في معونتهم على الطاعات التي تقووا عليها بطعامك .
وقال صلى الله عليه وسلم : " من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا
ينقص من أجر الصائم شيء " أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني . وفي حديث
سلمان : " ومن فطر فيه صائماً كان مغفرةً لذنوبه وعتق رقبته من النار ،
وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قالوا : يا رسول الله ليس
كلنا يجد ما يفطر به الصائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعطي
الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء ومن سقى
صائماً سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأ بعدها ، حتى يدخل الجنة " .
رابعاً : قراءة القرآن
شهر رمضان هو شهر القرآن فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءته ، وقد
كان حال السلف العناية بكتاب الله ، فكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه
وسلم القرآن في رمضان ، وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يختم القرآن
كل يوم مرة ، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال ،
وبعضهم في كل سبع ، وبعضهم في كل عشر ، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة
وفي غيرها ، فكان للشافعي في رمضان ستون ختمه ، يقرؤها في غير الصلاة ،
وكان الأسود يقرأ القرآن كل ليلتين في رمضان ، وكان الزهري إذا دخل رمضان
يفر من الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف ، وكان
سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن .
قال ابن رجب : إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على
المداومة على ذلك ، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصاً الليالي
التي يطلب فيها ليلة القدر ، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير
أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً لفضيلة الزمان
والمكان .
إلا أنه لم يكن هدي السلف هذ القرآن هذ الشعر دون تدبر وفهم ، وإنما كانوا يتأثرون بكلام الله عز وجل ويحركون به القلوب .
ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " اقرأ علي . فقلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال
إني أحب أن أسمعه من غيري قال : فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت ( فكيف
إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) قال : حسبك ،
فالتفت فإذا عيناه تذرفان".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت (أفمن هذا الحديث تعجبون .
وتضحكون ولا تبكون ) بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حسهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " لا يلج النار من بكى من خشية الله " .
خامساً : المكث في المسجد
كان النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إذا صلى الغداة ـ أي الفجر ـ جلس في
مصلاه حتى تطلع الشمس ... قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من صلى الفجر
في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة
وعمرة تامة تامة تامة ). هذا في كل الأيام فكيف بأيام رمضان ؟
سادساً: العمل التطوعي المتنوع
يعد التطوع من السلوكيات والقيم الإيجابية التي حث عليها الشرع الحنيف
وندب إليها خصوصا في شهر البركة والخير ،قال تعالى :(فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ )[البقرة/184] ؛ ذلك لما يترتب على العمل
التطوعي من نفع الخلق وقضاء حوائجهم , ومع ذلك فإننا نجد نوعا من التقصير
في هذا الباب من أبواب الخير على الرغم من أن التطوع يعد قيمة أصيلة في
مجتمعاتنا الإسلامية وله من الآثار و الثمار الايجابية ما لا يحصى ليس على
المستوى الفردي فحسب بل على المجتمع بأسره , في المقابل نجد أن العمل
التطوعي في المجتمعات الغربية يعد جزءا من الممارسات اليومية للأفراد
فللعمل التطوعي فوائد عديدة تعود على المتطوع نفسه وعلى المجتمع بأسره ،
كما أن العمل التطوعي يساهم في استغلال طاقات أفراده في مجالات مثمرة
وهادفة لمصلحة المجتمع ويعينهم على قضاء أوقاتهم بالمفيد و خاصة شريحة
الشباب .
فالعمل التطوعي ركيزة أساسية في بناء المجتمع ونشر التماسك الاجتماعي بين
أفراده، و دليلٌ على حياة المجتمع وحيويته . كما أنه وسيلة لشعور المتطوع
بالراحة النفسية و باعتزازه وثقته بنفسه ؛ لشعوره بأهميته ودوره في نفع
المجتمع الذي يعيش فيه ؛ لأن العمل التطوعي ممارسة إنسانية ترتبط بمعاني
الخير والعمل الصالح قال تعالى: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ
لَهُ )[البقرة/184]فهذه الآية فيها إشارة إلى آثار التطوع المتنوعة على
المتطوع ، ذلك أن لفظة (خير) نكرة فتعم كل أنواع الخيرية .
الدعوة في رمضان
ينبغي على الداعية أن يستغل شهر رمضان استغلالاً تاماً يسد جميع أبواب
الفراغ، ويغطي ساحات العمل الدعوي، ويشبع الناس بالدعوة إلى الله بشتى
الوسائل والبرامج؛ فإننا في عصر نتحين فيه الفرص: متى يقبل الناس منا،
ومتى يقبل الناس على الدين، لذا كان الأمر متحتما على الجميع أن يقوموا
بالدعوة إلى الله في رمضان، وأن يجعلوها من مقدمات أعمالهم، وليعرضوا عن
شبهات المثبطين، وأعذار الكسالى، وإن كان كلام بعضهم حقاً فالأصل أن ينظر
إلى الواقع، فمثلاً: قد يقول قائل: أنت تشغل نفسك في رمضان بالبرامج
والأنشطة الدعوية و.. إلخ، ولم يكن هذا من دأب السلف الصالح!! نعم هذا
صحيح، ولكن الحال مختلف جداً؛ ففي زمنهم كان الناس مقبلون على العلم
والعبادة في غير رمضان كإقبالهم في رمضان، وكان الناس أحسن حالاً مما هم
اليوم عليه، فكانوا جميعاً يتفرغون للعبادة في رمضان، أما اليوم فالناس
بحاجة إلى من يلاحقهم بالنصيحة ويراعي لهم ظروفهم ورغباتهم، وإلا فكثير من
الناس إلا من رحم الله بعيدون عن مظانِّ النصيحة، فإذا أقبلوا عليك في
رمضان علَّهم لا يقبلوا في غيره، وانتهاز الفرص سلوك نبوي، والدعوة أيضاً
عبادة متعدية للغير فهي خير من العبادة المقتصرة على النفس من حيث الجملة،
ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، فلا تُقصِّر في
عبادتك، ولا تقتصر على العبادة وتترك الدعوة.
الشباب والوقت
يعاني أغلب الشباب من مشكلة الفراغ، خاصة مع دخول أوقات الإجازات ومواسم
الخيرات كما هي الحال ، مما يسبب لهم الكثير من الحيرة والاضطراب....
وعندما نلقي نظرة سريعة على ما يفعله الشباب في تلك الأوقات لوجدنا العجب
في إضاعتها في غير ما ينفع، بل ربما فيما يعود عليهم بالضرر.
فمن قراءة للمجلات والصحف الهابطة إلى ملاحقة القنوات ببرامجها الهدامة،
أو الحرص على المكالمات التليفونية الطويلة، ناهيك عن التسكع في الشوارع
والأسواق والجلوس في المطاعم والمنتزهات والدوران بالسيارات ليل نهار بحجة
القضاء على الوقت، وكلها طرق خاطئة وأساليب ضارة.
ولا يعني ذلك أن تكون أوقات الشاب كلها جد وعمل، ولا يوجد فيها ترويح،
فإن النفس تمل وتكل وتسأم، فلا بد لها من ترويح، وعندما يشغل الشاب وقته
بشيء من اللعب المباح أو الترويح المعتدل فإن هذا الفعل لا يعتبر إضاعة
للوقت ما دام أنه يعود على النفس والبدن بالفائدة، وما دام أنه لم يخرج عن
القدر المؤدي إلى ذلك، لكن الواقع خلاف ذلك.
إن مشكلة الفراغ تكمن في عدم استطاعة كثير من الشباب التفكير الجاد في قضاء أوقاتهم في شيء ينفعهم أو ينفع مجتمعاتهم.
وقد غفل الكثير عن أنه كان يمكن استغلال الوقت الذي بعثر في غير ما فائدة
في طلب علم نافع أو تعلم مهارة جديدة، أو جعله فرصة لتصحيح مفاهيم خاطئة،
أو انتهازه لنفع عباد الله أو توطيد علاقات حميمة، أو صلة قرابات وأرحام .
كم عند كثير من الشباب من طموح وتطلعات وأماني؟ ألم يكن من الممكن
استغلال تلك الأوقات الضائعة في محاولة تحقيق تلك الأحلام والأماني،
والسعي الجاد للوصول إلى ما يتطلع إليه الشاب.
إن فرص الاستفادة من الوقت كثيرة ومتنوعة، وتلبي جميع الرغبات وكل
الاتجاهات، وما على الشاب إلى أن يحدد الوجهة التي يريدها والنشاط الذي
يميل إليه، فهل من مبادرة جادة؟
الوقت عند السلف
لقد ضرب سلفنا رحمهم الله تعالى أمثلة عجيبة في الاستفادة من أوقاتهم
واهتمامهم بعمارة الوقت وحفظه وكراهتهم إهداره في غير ما ينفع ويفيد سواء
في الدنيا أو الآخرة، ومما يروى في ذلك: كان لكل واحد من أئمة السلف حال
مع الله في رمضان، وكلهم يجمعهم شيء واحد، وهو استغلالهم للقوت في كثرة
العبادة والذكر والإنفاق والطاعات وقراءة القرآن في هذا الشهر الفضيل؛ فقد
حرص السلف على تلاوة القرآن في رمضان آناء الليل وأطراف النهار؛ لأن
القرآن نزل في هذا الشهر، فكان منهم من يختم القرآن في قيام رمضان كل ثلاث
ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرءون القرآن في
الصلاة وفي غيرها.
وشغلوا أوقاتهم في قيام الليل حيث هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين،
وعمل الفائزين؛ ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم
وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله .
ولقد كان السلف رضوان الله عليهم من حرصهم على الوقت في رمضان وغيره
يقلون الكلام لكي لا يزلوا، وكان شعارهم قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"
لقد عرف السلف قيمة الوقت وأن الوقت هو الحياة؛ لذا كان حرصهم على اغتنام
الوقت في دنياهم شديدا، وكان شعارهم: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت
شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد عملي.
ذكر الطبراني في الجامع الكبير: عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال سمعت عمر
بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك ؟ فقال له أبي: أنا شيخ كبير
أموت غدا فقال له عمر: أعزم عليك لتغرسنها, فقال عمارة: فلقد رأيت عمر بن
الخطاب يغرسها بيده مع أبي "
- قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم: - عن نعيم بن حماد قال: قيل لابن
مبارك: إلى متى تتطلب العلم ؟ قال: حتى الممات إن شاء الله "
قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إني لأمقت الرجل أن أراه فارغا ليس في شي من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة "
روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه, وقف ذات يوم أمام الكعبة ثم قال
لأصحابه " أليس إذا أراد أحدكم سفرا يستعد له بزاد ؟ قالوا: نعم, قال:
فسفر الآخرة أبعد مما تسافرون !
فقالوا : دلنا على زاده ؟
فقال: حجوا حجة لعظائم الأمور, وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور, وصوموا يوما شديدا حره لطول يوم نشوره.
يقول عبد الرحمن ابن الأمام أبي حاتم الرازي " ربما كان يأكل وأقرأ عليه
ويمشي وأقرأ عليه ويدخل الخلاء وأقرأ عليه ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ
عليه " فكانت ثمرة هذا المجهود وهذا الحرص على استغلال الوقت كتاب الجرح
والتعديل في تسعة مجلدات وكتاب التفسير في مجلدات عدة وكتاب السند في ألف
جزء.
وتدبر أخي المسلم معي ما قاله هذا الحكيم " من أمضى يوما من عمره في غير
حق قضاه, أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم أقتبسه
فقد عق يومه وظلم نفيه "
لذلك علينا أن نستغل ألأوقات وأن نجعل حياتنا كلها لله فلا نضيع من
أوقاتنا ما نتحسر عليه يوم القيامة فالوقت سريع الانقضاء فهو يمر مر
السحاب وفي ذلك قيل:
مرت سنيـن بالوصـال وبإلهنـا *** فكأنها من قصرها أيـام
ثم انثنـــت أيـام هجـــر بعـدها *** فكأنها من طولها أعوام
ثم أنقضت تلك السنون وأهلها *** فكـأنها وكأنـهم أحـــلام
وهذا أبو نعيم الأصفهاني كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم
نوبة واحد منهم، يقرأ ما يريده إلى قبيل الظهر على الشيخ، فإذا قام إلى
داره ربما يُقرأ عليه في الطريق جزءٌ وهو لا يضجر.
وكان سليم الرازي شافعياً فنزل يوماً إلى داره ورجع فقال: لقد قرأت جزءاً في طريقي.
وقال الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة الخطيب البغدادي كان الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه.
وكان ابن عساكر رحمه الله كما يقول عنه ابنه: لم يشتغل منذ أربعين سنة
إلا بالجمع والتسمية حتى في نزهته وخلواته، يصطحب معه كتب العلم والمصحف
يقرأ ويحفظ.
كانوا يحرصون على استغلال الوقت في عمل أكثر من شيء في نفس الوقت، فقد
كان بعضهم إذا حفي عليه القلم واحتاج إلى بريه يحرك شفتيه بذكر الله وهو
يصلح القلم، أو يردد مسائل يحفظها لئلا يمضي عليه الزمان وهو فارغ ولا
دقيقة.
كان أبو الوفاء علي بن عقيل رحمه الله يقول: إنني لا يحل لي أن أضيع ساعة
من عمري؛ حتى إذا تعطل لساني عن المذاكرة وتعطل بصري عن المطالعة، أعملت
فكري في حال راحتي وأنا منصرف، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره. أي: هو
الآن لا يجد كلاماً ولا شيئاً يقرؤه، فيأخذ راحة وفي أثنائها يشغل فكره.
يقول ابن القيم رحمه الله: وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب
عند رأسه، فإذا وجد إفاقة؛ قرأ فيها، فإذا غلب؛ وضعه، انظر حتى حال المرض،
إذا وجد خفة؛ فتح الكتاب وقرأ، وإذا اشتد عليه أرجع الكتاب عند الوسادة.
نماذج من علماء العصر في استغلال الوقت
لو نظرنا إلى حال علمائنا في هذا العصر؛ لوجدنا من استغلالهم لأوقاتهم أموراً عجيبة.
مثلاً عندما تقرأ عن ابن عثيمين تجد أن السائل عندما يسأله ، فإنه يجد
أنه يجيب على الهاتف من خلال المكبر ولا يرفع السماعة، ووعندما تسأله
تسمع صوت الأوراق وهي تقلب، فهو يتكلم ويقرأ ويجيب ويراجع في هذا الوقت،
وتجد أيضاً أنهم مع محافظتهم على أوقاتهم يحددون أوقاتاً معينة، فهذا
الوقت للقراءة، وهذا الوقت للتدريس، وهذا الوقت للإجابة على الهاتف، وهذا
الوقت للنوم، وهذا الوقت للذهاب إلى العمل... وكان الشيخ بن عثيمين في
مرحلة الطلب يدرس على شيخه عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله كان وقد
يكون الشيخ/ عبد الرحمن مدعو لوليمة أو دعوة فيذهب للدعوة، فيماشيه الشيخ/
ابن عثيمين في الطريق حتى يصل إلى مكان الدعوة ثم قد يدخل معه وقد يرجع،
ولكنه لو رجع فقد استفاد استفادة عظيمة.
وهكذا عندما تتأمل إلى حياة عبد العزيز بن باز رحمه الله، هذا الرجل الذي
فقد بصره وله من العمر تسعة عشر عاماً، لوجدت في استغلاله لوقته أمراً
عجيباً، فإنه يسأل ويناقش حتى على الطعام، بل وحتى عند المغسلة وهو يغسل
يديه وفي المجلس وفي الطريق إلى المسجد وبعد الخروج منه، حتى إنه ربما
أعاد ذكراً فاته لسؤال أجاب عليه.
وكذلك إذا تأملت في حاله مثلاً وهم يسألونه في الحلقة وبعد الحلقة، حتى
إنه لو ركب في سيارته، فإنهم لا يزالون يسألونه والسيارة تتحرك، بل ربما
أنه قد أركب معه السائل في السيارة، فيجيب على سؤاله، ويعرض عليه كاتبه
الأوراق والمسائل وتقرأ عليه المعاملات والفتاوي في السيارة، وربما سمع
شيئاً وهو على الغداء، ويذكر الله حتى بين لقمتين.
وهؤلاء العلماء محافظون على وقتهم جداً، ومنهم علامة العصر في الحديث
الشيخ/ الألباني رحمه الله، فإن بعض الناس قد يقول عن بعض المشايخ وهم
يحددون أوقاتهم، يقول: الشيخ ناشف، الشيخ لا يعطينا وجهاً، وفي الحقيقة أن
الشيخ يحافظ على وقته، وإلا لو استمر يتكلم مع الناس لذهبت عليه أمور
كثيرة.
مجمل القول في الوقت
استغلال الأوقات في الأعمال والبرامج تحتاج إلى إخلاص وعزيمة صادقة، وإرادة قوية في سبيل تحقيق ذلك.
على العبد البدء بوضع برنامج، كل على حسب قدرته وطاقته، والحرص على عدم تفويت أي لحظة لا يستفيد منها.
علينا أن نزيد من اهتمامنا بكل العبادات, ونضاعف من الجهد في الطاعات, ونعيش جميعًا روحانية رمضانية .
وكذلك يجدر بنا الاستشعار للأجر الذي سنناله, والثواب الذي سنفوز به,
عندما نكون من التائبين المنيبين المستغفرين بالليل والنهار، مستثمرين
للأوقات
الجميع عليه أن يخرج كل أفعاله في هذا الشهر المبارك من صوم وقيام وصدقة
وقراءة قرآن من إلف العادة إلى روح العبادة, فلا نريد أن يكون حظنا من
الصوم الجوع والعطش, ومن القيام التعب والسهر, وعلينا أيضا بالجد
والاجتهاد, والعمل والمثابرة في شهر المغفرة والرضوان من الرحيم الرحمن.
على أنني أُهيب في نهاية هذا الرسالة بالدعاة والمصلحين –أفرادًا
ومؤسسات- بأن يعيدوا تقويم برامجهم الدعوية، وأنشطتهم الرمضانية، سواء
أكان ذلك من حيث الكم أم الكيف؛ حتى تساعد بشكل أفضل على معالجة الفراغ
الحاصل واستثماره.
وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا وييسر لنا مفاتيح المعروف، وسبل الهداية، وأن
يبارك لنا في أوقاتنا، ومواسم الطاعات، وأن يُسهل لنا استثمارها، وأن
تكون هذه الرسالة خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع بها المسلمين، على أن ما
فيها من صواب فهو من توفيق وإنعام رب العالمين، وما كان فيها من خطأ فمن
نفسي والشياطين، والله أعلم وهو أحكم الحاكمين، وصلى الله وسلم على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الموضوع : أوقاتنا في رمضان المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: ام ابراهيم