سياق ورود الإصلاح في القرآن
ورد مفهوم الإصلاح في حقل النزاع الأسري كما في قوله تعالي
)وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ
وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ
إِصْلاَحاً( (البقرة: 228).
فالإصلاح هنا ورد في حقل النزاع الأسري، والطلاق هنا آخر مراحل النزاع الأسري.
- ثم ورد مفهوم الإصلاح في حقل النزاع العشائري، كما ورد في قصة موسى عليه السلام في قوله تعالى:
)فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا
قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً
بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ
وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ( (القصص: 19).
فمفهوم الإصلاح والمصلحين ورد أيضاً في النزاع المستمر بين الإسرائيليين
وبين المصريين، وهذا الصراع يمكن نسميه صراع ديني، أو صراع عشائري, أو
صراع أيديولوجي, أو صراع سياسي.
- ثم ورد الصراع في صنف آخر, في مجال الحرب الأهلية المباشرة… كما في
الآية )وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ( (الحجرات: 9).
هذا أيضاً مفهوم الإصلاح، لكنه ورد في صراع ونزاع بين طائفة أو طائفتين
في مجتمع من المسلمين، ليس مثل الصراع بين موسى والمصريين. فإلى ماذا يشير
هذا؟
يشير إلى أن الإصلاح والحقل الذي يرد فيه مفهوم الإصلاح متصل بصلة ما
بمفهوم النزاع، كأنما مفهوم الإصلاح انفتح بنا على مسألة النزاع، وبهذه
الصورة نحن نقول إنه مفهوم مفتاحي، لأنه لا يقف وحده وإنما يقودك بصورة
مباشرة إلى حقل آخر.. وإلى مفاهيم أخرى, وطبعاً هذا يضطرنا بصورة مباشرة
إلى حقل آخر وإلى مفاهيم أخرى. ويضطرنا بالتالي إلى الحديث عن مفهوم
النزاع .. ما هو النزاع الذي نتحدث عنه والذي يرتبط بالإصلاح؟ ونلاحظ مرة
أخرى أن مفهوم النزاع ولفظ النزاع ورد أيضاً في مواضع كثيرة من القرآن
الكريم, وبعد استقرار لهذه الألفاظ في القرآن الكريم توصلت إلى تقسيم
النزاع إلى مستويين، هناك نزاع سلمي وودي.
اللغويون يقولون إن النزاع والمنازعة قد تكون في الأعيان، وقد تكون في
المعاني، وكلها لا تخرج من معنى المجاذبة – مجاذبة الشيء –. ورد لفظ
النزاع في النزاع السلمي في قوله تعالى: )فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم
بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى( (طه: 62)، هذه منازعة سلمية لأنهم
كانوا مجموعة واحدة من السحرة اختلفوا في بعض الأشياء، ولكن لفظ
)وَأَسَرُّوا النَّجْوَى( تشير إلى أن هذا نزاع سلمي بين فصيل واحد.
ويقول تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ
وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(
(النساء: 59). هذا أيضاً مستوى من المستويات التي فيها احتكاك لكنه لم
يبلغ مستوى التأزم الأخير.
هذا هو المستوى الأول من مستويات النزاع، ولكن هناك مستوىً آخر من
مستويات النزاع الذي يتسم بالعنف، وقد يتحول إلى الاقتتال، وهو نزاع مدمر
وخطير، ولذلك ورد في القرآن في صيغة النهي. ونلاحظ في الألفاظ الأولى لم
يكن هناك نهي ولكن هناك تقرير، كأنما هو شيء يمكن حدوثه.
وصيغة النهي جاءت في قوله تعالى: )وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ
تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ
اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ( الأنفال46ا، وهذا نهي قاطع.
وفي أماكن أخرى أيضاً وردت بصيغة النهي في منازعة الرسول r)لِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي
الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ(
(الحج: 67). أي يوجد مستويان من مستويات النزاع, نزاع يمكن أن يحتمل, ونزاع
يمكن أن يكون عنيفاً مدمراً.
وفي القرآن ينفتح المفهوم الواحد فمثلاً تحدث القرآن أولاً عن الإصلاح،
ثم قادنا الإصلاح إلى مسألة النزاع, ثم فصل النزاع ولكن أدخل للنزاع
الغليظ والعنيف مفهوم آخر هو مفهوم الفتنة. وقد تابعت أيضاً للمرة الثالثة
مفهوم الفتنة، وقد ورد هذا المفهوم – لفظ فتنة - ستين مرة في القرآن
الكريم, صنفت هذه المستويات العديدة الى أربعة مستويات:
* فتنة يقصد بها الابتلاء العام, كما في قوله تعالى )كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً
وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( (الأنبياء: 35)، فالموت والخير والشر والخوف
والفقر والمرض هذه فتن عامة يجريها الله سبحانه وتعالى على العباد، وهي
ابتلاء عام يقدره الله سبحانه وتعالى كيفما شاء.
* فتنة يقصد بها الاعتداء الخارجي الذي يقع على المسلمين كما في قوله
تعالى: )وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن
تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً(
(النساء: 101). ووردت آيات كثيرة في هذا المعنى.
* فتنة يقصد بها النزاع النفسي الذي يجري في النفس الإنسانية
)وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ
اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ( الأنفال28.
والفتنة هنا تعني نزاع نفسي، وهي أن يكون للإنسان القيم الدينية، ولكن
لديه مصالح خاصة تتعلق بالأبناء أو نحو ذلك.. فلا يستطيع أن يستقيم على
هدى الدين فيميل أو تتجاذبه هذه الأهواء, فتسمى هذه فتنة نفسية أو حرب
داخلية..
والمثالين الأخيرين هما الأدخل في موضوعنا, فأنا لا أريد أن أتحدث عن
الفتنة بمعنى الابتلاء العام, ولا بمعنى الاعتداء الخارجي، وإنما أتحدث عن
الفتنة الداخلية التي يكون فيها نزاع بين مجموعتين من مجموعات المسلمين,
والفتنة الأخرى التي تكون فتنة نفسية. مع ملاحظة أن هذه المستويات الأربعة
غير مفصولة فصلاً نهائياً، إذ من الممكن أن الفتنة النفسية – الداخلية -
تتفاقم فتؤدي بصورة من الصور إلى الفتنة الأهلية.. وأيضاً من الممكن أن
تتفاقم الفتنة الأهلية فتؤدي إلى اعتداء خارجي بصورة من الصور. فالمستويات
الأربعة ليست منفصلة، ولكن ليس هنا هو المجال الذي يمكن لنا أن نفصل فيها
جميعاً، ولكن نكتفي بالفتنة بمعنى الصراع أو النزاع الداخلي الذي يسود
ويتفاقم حتى يتحول إلى حرب أهلية أو بينية مدمرة.
يتساءل البعض في قوله تعالى: )وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ( (الأنفال: 25) عن كيف فسرت هنا كلمة فتنة بمعنى حرب أهلية،
للإجابة على ذلك أقول: لكي نفهم المفهوم القرآني نحتاج إلى ثلاثة طرق:
* الاستخدام اللغوي المباشر: إلى الاشتقاقات – مادة فتن يفتن تعني:
امتحن، أو اختبر. امتحن الذهب التمحيص… وهذا مبلغ ما يرمي إليه اللغويون،
وهذا ليس كافياً.. فنعود إلى طريقة أخرى.
* السياق: ندرس ذلك من السياق الذي فيه لفظ فتنة من القرآن الكريم، فنقيس
المفهوم بالسياق القرآني أو السياق التاريخي فنجد أن الآية وردت في سورة
الأنفال )وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(
(الأنفال: 25). ونلاحظ أن سورة الأنفال هذه سورة خاصة كلها مترابطة ترابطا
شديداً.
وكلها نزلت بمناسبة النزاع الذي وقع بين المسلمين بسبب الغنائم التي
عثروا عليها بعد موقعة بدر, والسورة نزلت لمعالجة هذا النزاع )فَاتَّقُواْ
اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( (الأنفال: 1) فبداية السورة تنبيه إلي النزاع
بين جماعة من المسلمين الذي كان سلمياً ولطيفا ً واستطاع الرسول صلى الله
عليه وسلم حل ذلك النزاع ولكن في الآية (25) من سورة الأنفال جاء تنبيه
شديد للصحابة بأن هذا النزاع في الغنائم إذا لم تتداركوه سيتحول إلى نزاع
مدمر لقواعد المجتمع نفسه.
روي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: كنا نقرأ هذه الآية زماناً
فما كنا نحسب أنها نزلت فينا حتى إذا كانت موقعة الجمل أدركنا ذلك، لأنه
حضر موقعة بدر ومن الذين شاركوا مشاركة فاعلة في موقعة الجمل.
والسياق القرآني التاريخي يبين أن ورود كلمة فتنة في )وَاتَّقُواْ
فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( (الأنفال: 25) هي إشارة
إلى الاقتتال والنزاع الذي وقع بين الصحابة منذ مقتل الخليفة عثمان رضي
الله عنه، أي الاقتتال الذي وقع بين علي من جهة وطلحة والزبير وعائشة من
جهة أخرى.
اذا اعتمدنا على رواية الزبير وعلى تأويله لهذه الآية، وإذا رجعنا إلى
سورة الأنفال نجدها تتحدث عن النزاع )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ
الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ
بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(
(الأنفال: 1-4).
الموضوع : الاصلاح بين الناس في رمضان المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: ام ابراهيم