عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنزلوا الناس منازلهم رواه أبو داود
يا
له من حديث حكيم ، فيه الحث لأمته على مراعاة الحكمة . فإن الحكمة وضع
الأشياء مواضعها ، وتنزيلها منازلها ، والله تعالى حكيم في خلقه وتقديره ،
وحكيم في شرعه وأمره ونهيه وقد أمر عباده بالحكمة ومراعاتها في كل شيء ،
وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاداته كلها تدور على الحكمة .
فمنها : هذا الحديث الجامع ، إذ أمر أن ننزل الناس منازلهم . وذلك في جميع المعاملات ، وجميع المخاطبات ، والتعلم والتعليم .
فمن
ذلك : أن الناس قسمان : قسم لهم حق خاص ، كالوالدين والأولاد والأقارب ،
والجيران والأصحاب والعلماء ، والمحسنين بحسب إحسانهم العام والخاص . فهذا
القسم تنزيلهم منازلهم : القيام بحقوقهم المعروفة شرعا وعرفا ، من البر
والصلة والإحسان والتوقير والوفاء والمواساة ، وجميع ما لهم من الحقوق ،
فهؤلاء يميزون عن غيرهم بهذه الحقوق الخاصة .
وقسم
ليس لهم مزية اختصاص بحق خاص ، وإنما لهم حق الإسلام وحق الإنسانية ،
فهؤلاء حقهم المشترك : أن تمنع عنهم الأذى والضرر بقول أو فعل ، وأن تحب
للمسلمين ما تحب لنفسك من الخير وتكره لهم ما تكره لها من الشر ، بل يجب
منع الأذى عن جميع نوع الإنسان وإيصال ما تقدر عليه لهم من الإحسان .
ومما
يدخل في هذا : أن يعاشر الخلق بحسب منازلهم ، فالكبير له التوقير
والاحترام ، والصغير يعامله بالرحمة والرقة المناسبة لحاله ، والنظير
يعامله بما يجب أن يعامله به ، وللأم حق خاص بها ، وللزوجة حق آخر ، ويعامل
من يدل عليه ويثق به ، ويتوسع معه ، ما لا يعامل به من لا يثق به ولا يدل
عليه . ويتكلم مع الملوك وأرباب الرئاسات بالكلام اللين المناسب لمراتبهم ،
ولهذا قال تعالى لموسى وهارون : اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى
ويعامل
العلماء بالتوقير والإجلال والتعلم ، والتواضع لهم ، وإظهار الافتقار
والحاجة إلى علمهم النافع ، وكثرة الدعاء لهم ، خصوصا وقت تعليمهم وفتواهم
الخاصة والعامة .
ومن
ذلك : أمر الصغار بالخير ، ونهيهم عن الشر بالرفق والترغيب ، وبذل ما
يناسب من الدنيا لتنشيطهم وتوجيههم إلى الخير ، واجتناب العنف القولي
والفعلي ، ولهذا قال : مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها لعشر وكذلك سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤلفة قلوبهم - من العطاء
الدنيوي الكثير - ما يحصل به التأليف ، ويترتب عليه من المصالح ، ولم يفعل
ذلك مع من هو معروف بالإيمان الصادق تنزيلا للناس منازلهم .
وكذلك مخاطبة الزوجة والأولاد الصغار بالخطاب اللائق بهم الذي فيه بسطهم ، وإدخال السرور عليهم .
وكذلك
من تنزيل الناس منازلهم : أن تجعل الوظائف الدينية والدنيوية والممتزجة
منهما للأكفاء المتميزين ، الذين يفضلون غيرهم في ولاية تلك الوظيفة ،
فمعلوم أن ولاية الملك : أن الواجب فيها خصوصا - وفي غيرها عموما - مشاورة
أهل الحل والعقد في تولية من يصلح لها ممن جمع بين القوة والشجاعة والحلم ،
ومعرفة السياسة الداخلية والخارجية ، ومن له القوة الكافية لتنفيذ العدل ،
وإيصال الحقوق إلى أهلها ، وردع الظلمة والمجرمين ، وغير ذلك مما يدخل في
الولاية .
وكذلك ولاية القضاء : يختار لها الأعلم بالشرع وبالواقع ، الأفضل في دينه وعقله وصفاته الحميدة .
وكذلك
ولاية الإمامة في المساجد في الجمعة والجماعة : يختار لها الأعلم بأحكام
العبادات الأتقى ، ثم الأمثل فالأمثل - وكذلك ولاية قيادة الجيوش : يختار
لها أهل القوة والشجاعة والرأي والنصح ، والمعرفة لفنون الحرب وأدواتها ،
وما يتبع ذلك مما تتوقف عليه هذه الوظيفة المهمة التي هي من أهم الوظائف
وأخطرها ، إلى غير ذلك من الولايات الكبار والصغار . فإنها داخلة في قوله
تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
وهذه الولايات من أعظم الأمانات . فيتعين أن تؤدى إلى أهلها ، وأن يوظف
فيها أهل الكفاءة بها ، وكل وظيفة لها أكفاء مختصون ، وهو داخل في هذا
الحديث الشريف .
وكذلك
يدخل في ذلك معاملة العصاة والمجرمين ، فمن رتب الشارع على جرمه عقوبة من
حد ونحوه تعين ما عينه الشارع ، لأنه هو عين المصلحة العامة الشاملة ، ومن
لم يعين له عقوبة ، عزر بحسب حاله ومقامه ، فمنهم من يكفيه التوبيخ والكلام
المناسب لفعلته ، ومنهم من لا يردعه إلا العقوبة البليغة .
وكذلك
في الصدقة والهدية ، ليس عطية الطواف الذي يدور على الناس فتكفيه التمرة
والتمرتان واللقمة واللقمتان كعطية الفقير المتعفف الذي أصابته العيلة بعد
الغنى . وفي الأثر ( ارحموا عزيز قوم ذل ) .
وكذلك يميز من له آثار وسوابق وغناء ونفع للمسلمين على من ليس كذلك .
فهذه الأمور وما أشبهها داخلة في هذا الكلام الجامع الذي تواطأ عليه الشرع والعقل . وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن .