السلام عليكــم ورحمـة الله
وبركاتــة ،،
كيف يبتلى الصالحون في الدنيا والله يقول
في القرآن: (فلَنَحيينهم حياة طيبة)؟
السؤال: هناك بعض الأمور التي يظهر لي أن فيها تعارضاً, وأحتاج منكم
أن تنوروني بعلمكم جزاكم الله خيراً . نجد أن الصالحين يبتلون في الدنيا ، وعلى قدر
قوة الإيمان يزيد البلاء ، والله يقول في القرآن : (فلَنَحيينهم حياة طيبة) .
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
يجب أن يُعلم أن
ما أخبر الله به لا يمكن أن يتعارض مع الواقع أبداً ، لأن أخبار الله تعالى بلغت
الغاية في الصدق ، قال الله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا
وَعَدْلًا) الأنعام/115 ، وقال : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا) النساء/122
، وقال : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا) النساء/87 .
ثانياً :
لا شك أن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء , وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ,
وفي الابتلاء للعبد حكَم وفوائد كثيرة ، في الدنيا ، والآخرة .
وانظر في
ذلك : جوابي السؤالين : ( 35914 ) و ( 21631 ) .
وأما معنى " الحياة
الطيبة " الوارد ذِكرها في قوله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل/ 97 : فالأقوال فيها متنوعة
، وليس منها أن الله يفتح للمؤمن العامل للصالحات الدنيا ، ويقيه الحزن ، والفقر ،
والسوء ، فالواقع يشهد بغير هذا - بل إن أولئك من أكثر الناس ابتلاء بمثل هذا - ،
وجماع معنى الحياة الطيبة في الآية : حياة القلب ، وسعادته ، وانشراحه ، وإذا رُزق
شيئا من متاع الدنيا فيكون حلالاً يقنع به ، وعلى ذلك جاءت أقوال المفسرين
.
1. ذَكر الإمام
الطبري رحمه الله أقوال العلماء في معنى " الحياة الطيبة " ، وهي :
أ.
يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال .
ب. يرزقهم القناعة
.
ج. الحياة الطيبة : الحياة مؤمنًا بالله عاملا بطاعته .
د. الحياة
الطيبة : السعادة .
هـ. الحياة في الجنة .
واختار رحمه الله من هذه
الأقوال - غير المتضادة - : القول الثاني ، فقال :
وأولى الأقوال بالصواب :
قول من قال : تأويل ذلك : فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة ؛ وذلك أن من قنعه الله بما
قسم له من رِزق : لم يَكثر للدنيا تعبُه ، ولم يعظم فيها نَصَبه ، ولم يتكدّر فيها
عيشُه باتباعه نفسه ما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها ...
وأما
القول الذي رُوي عن ابن عباس أنه الرزق الحلال : فهو مُحْتَمَل أن يكون معناه الذي
قلنا في ذلك ، من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال ، وإن قلّ : فلا
تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله ، لا أنه يرزقه الكثير من الحلال ؛ وذلك أن
أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه من الأعمال : لم نرهم رُزِقوا الرزق الكثير من
الحلال في الدنيا ، ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة .
" تفسير الطبري
" ( 17 / 291 ، 292 ) .
ب. وقال ابن القيم رحمه الله :
وأطيب العيش
واللذة على الإطلاق : عيش المشتاقين ، المستأنسين ، فحياتهم : هي الحياة الطيبة في
الحقيقة ، ولا حياة للعبد أطيب ، ولا أنعم ، ولا أهنأ منها ، فهي الحياة الطيبة
المذكورة في قوله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) وليس المراد منها الحياة المشتركة
بين المؤمنين والكفار ، والأبرار والفجار ، من طيب المأكل ، والمشرب ، والملبس ،
والمنكح ، بل ربما زاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافاً مضاعفة ، وقد ضمن
الله سبحانه لكل مَن عمل صالحاً أن يحييه حياة طيبة ، فهو صادق الوعد الذي لا يخلف
وعده ، وأي حياة أطيب من حياة اجتمعت همومه كلها ، وصارت هي واحدة في مرضات الله ،
ولم يستشعب قلبه ، بل أقبل على الله ، واجتمعت إرادته ، وأفكاره التي كانت منقسمة ،
بكل واد منها شعبة على الله ، فصار ذكر محبوبه الأعلى ، وحبه ، والشوق إلى لقائه ،
والأنس بقربه ، وهو المتولى عليه ، وعليه تدور همومه ، وإرادته ، وتصوره ، بل خطرات
قلبه ... .
" الجواب الكافي " ( ص 129 ، 130 ) .
وقال رحمه الله
أيضاً :
وقد فُسرت الحياة الطيبة : بالقناعة ، والرضى ، والرزق الحسن ، وغير
ذلك ، والصواب : أنها حياة القلب ، ونعيمه ، وبهجته ، وسروره بالإيمان ، ومعرفة
الله ، ومحبته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ؛ فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها
، ولا نعيم فوق نعيمه ، إلا نعيم الجنة ، كما كان بعض العارفين يقول : " إنه لتمر
بي أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا : إنهم لفي عيش طيب " ، وقال
غيره : " إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً " .
" مدارج السالكين " (
3 / 259 ) .
والأقوال في هذا المعنى كثيرة ، وكلها تدل على أن الحياة
الطيبة هي حياة معنوية ، يعيشها قلب المؤمن مطمئناً بقضاء الله تعالى ، ومنشرحاً
بما قدره عليه ، وسعيداً بإيمانه بربه تعالى ، وليس المراد من الحياة الطيبة –
قطعاً – النعيم البدني ، وانعدام الأمراض والفقر وضيق العيش .
وننبه
إلى أن القول بأن الحياة الطيبة إنما تكون الجنة : بعيد عن معنى الآية ؛ لأن الله
تعالى ذَكَرَ بعدها نعيم الجنة لمن آمن وعمل صالحاً .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
:
"وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية :
حياته في الدنيا حياة طيبة ، وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة
الطيبة : حياته في الجنة في قوله : ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) : صار
قوله : ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) :
تكراراً معه ؛ لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم ، بخلاف ما لو قدرنا أنها في
الحياة الدنيا ، فإنه يصير المعنى : فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة ، ولنجزينه في
الآخرة بأحسن ما كان يعمل ، وهو واضح ، وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن : تؤيِّده
السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ..." انتهى .
" أضواء البيان " ( 2 /
441 ) .
وعلى هذا ؛ فالحياة الطيبة للمؤمن في الدنيا لا تنافي
الابتلاء ؛ وذلك لأسباب :
1. المسلم يعلم أن رفع الدرجات ، وتكفير السيئات ، وبلوغ
الغايات : لا يمكن أن تنال إلا على جسر من الابتلاءات ، والامتحانات , ولذلك كان
السلف يفرحون بالابتلاء ؛ لما يرجون من الثواب ، والجزاء , كما جاء في الحديث عَنْ
أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : (قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً ؟ قَالَ : الأَنْبِيَاءُ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ثُمَّ الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ
لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلاَّ الْعَبَاءَةَ
يُحَوِّيهَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلاَءِ كَمَا يَفْرَحُ
أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ) رواه ابن ماجه (4024) ، وصححه الألباني في "صحيح ابن
ماجه" .
وهذا الفرح غير مسألة تمني البلاء , فتمني البلاء لا يجوز ، كما جاء
في الحديث عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى رضي الله عنهما عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قَالَ : (أَيُّهَا النَّاسُ ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ) رواه البخاري (6810) ومسلم (1742) .
قال
ابن القيم رحمه الله :
وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده ،
وصفوته بما ساقهم به إلى أجلِّ الغايات ، وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون
إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان ... وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين
الكرامة في حقهم ، فصورته صورة ابتلاء ، وامتحان ، وباطنه فيه الرحمة والنعمة ، فكم
لله مِن نعمة جسيمة ، ومنَّة عظيمة ، تُجنى من قطوف الابتلاء ، والامتحان ، فتأمل
حال أبينا آدم صلى الله عليه وسلم ، وما آلت إليه محنته ، من الاصطفاء ، والاجتباء
، والتوبة ، والهداية ، ورفعة المنزلة ... وتأمل حال أبينا الثاني نوح صلى الله
عليه وسلم ، وما آلت إليه محنته ، وصبره على قومه تلك القرون كلها ، حتى أقر الله
عينه ، وأغرق أهل الأرض بدعوته ، وجعل العالم بعده من ذريته ، وجعله خامس خمسة ،
وهم أولو العزم الذين هم أفضل الرسل , وأمَر رسولَه ونبيه محمَّداً أن يصبر كصبره ،
وأثنى عليه بالشكر ، فقال : ( إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ) فوصفه بكمال الصبر
، والشكر ، ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء ،
وشيخ الأنبياء ، وعمود العالم ، وخليل رب العالمين من بني آدم ، وتأمل ما آلت إليه
محنته ، وصبره ، وبذله نفسه لله ، وتأمل كيف آل به بذله لله نفسه ، ونصره دينه إلى
أن اتخذه الله خليلاً لنفسه ... وضاعف الله له النسل ، وبارك فيه ، وكثر ، حتى
ملؤوا الدنيا ، وجعل النبوة والكتاب في ذريته خاصة ، وأخرج منهم محمَّداً صلى الله
عليه وسلم وأمَره أن يتبع ملة أبيه إبراهيم ... .
فإذا جئت إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ، وتأملت سيرتَه مع قومه ، وصبره في الله ، واحتماله ما لم يحتمله
نبي قبله ، وتلون الأحوال عليه ، مِن سِلْم وخوف ، وغنى وفقر ، وأمن وإقامة ، في
وطنه وظعن عنه ، وتركه لله ، وقتل أحبابه ، وأوليائه بين يديه ، وأذى الكفار له
بسائر أنواع الأذى ، من القول ، والفعل ، والسحر ، والكذب ، والافتراء عليه ،
والبهتان ، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله ، يدعو إلى الله ، فلم يُؤْذَ نبي ما
أوذي ، ولم يحتمل في الله ما احتمله ، ولم يُعْطَ نبي ما أعطيه ، فرفع الله له
ذِكره ، وقرن اسمه باسمه ، وجعله سيد الناس كلهم ، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة ،
وأعظمهم عنده جاهاً ، وأسمعهم عنده شفاعة ، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته ،
وهي مما زاده الله بها شرفاً ، وفضلاً ، وساقه بها إلى أعلى المقامات ، وهذا حال
ورثته من بعده ، الأمثل ، فالأمثل ، كلٌّ له نصيب من المحنة ، يسوقه الله به إلى
كماله بحسب متابعته له .
" مفتاح دار السعادة " ( 1 / 299 – 301 ) .
2. والمسلم جنته في صدره , ولو كان مكبَّلا بأصناف البلاء , قال ابن القيم
- يصف حال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتنقل في أصناف من البلاء
والاختبار - :
قال لي مرة - يعني : شيخ الإسلام - : ما يصنع أعدائي بي ؟!
أنا جنتي وبستاني في صدري ، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني ، إنّ حبْسي خلوة ،
وقتْلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة " . وكان يقول في محبسه في القلعة : " لو
بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة " ، أو قال : " ما جزيتهم
على ما تسببوا لي فيه من الخير " ، ونحو هذا .
وكان يقول في سجوده وهو محبوس
: " اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله ، وقال لي مرة : "
المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى ، والمأسور من أسره هواه " ، ولما دخل إلى
القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال : ( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ
بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) الحديد/13 ،
وعلم الله ما رأيتُ أحداً أطيب عيشاً منه قط ، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش ،
وخلاف الرفاهية والنعيم ، بل ضدها ، ومع ما كان فيه من الحبس ، والتهديد ، والإرهاق
، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً ، وأشرحهم صدراً ، وأقواهم قلباً ، وأسرهم نفساً
، تلوح نضرة النعيم على وجهه ، وكنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت منا الظنون ، وضاقت
بنا الأرض : أتيناه ، فما هو إلا أن نراه ، ونسمع كلامه ، فيذهب ذلك كله ، وينقلب
انشراحاً ، وقوةً ، ويقيناً ، وطمأنينة ، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه ،
وفتح لهم أبوابها في دار العمل ، فأتاهم من روحها ، ونسيمها ، وطيبها ، ما استفرغ
قواهم لطلبها والمسابقة إليها .
" الوابل الصيب " ( ص 110 ) .
فهذه
الجنة التي وجدها شيخ الإسلام ، ويجدها أهل الإيمان والتقوى ، من انشراح الصدر ،
والبال ومن الطمأنينة , والعيش بين الشكر والصبر : لهي والله السعادة التي ينشدها
العقلاء ، ويطلبها الصالحون ، ويسعى إليها الساعون .
وهذه والله هي حقيقة
الحياة الطيبة التي وعدهم الله إياها في الدنيا .
رزقنا الله وإياكم إياها ,
وجعلنا من أهلها .
وانظر في فوائد ابتلاء المؤمن جواب السؤال رقم : ( 12099
) .
والله أعلم
الإسلام سؤال
وجواب
الموضوع : كيف يبتلى الصالحون في الدنيا والله يقول في القرآن: (فلَنَحيينهم حياة طيبة)؟ المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: أبوعلي