بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
قال تعالى: "
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ"، أي: قد لبثت في قومك - يا محمد - ومن قبل أن تأتي بهذا القرآن عُمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب. وهكذا صفته في الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: "
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ"(الأعراف: 157).
فكان، صلوات الله وسلامه عليه دائما أبداً إلى يوم القيامة، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم.
ومن زعم من متأخري الفقهاء، كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام، كتب يوم الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله" فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: "ثم أخذ فكتب": وهذه محمولة على الرواية الأخرى: "ثم أمر فكتب".
وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت، عليه السلام حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له؛ قال الله تعالى: "
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو" أي: تقرأ "مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ" لتأكيد النفي، "
وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ" تأكيد أيضا، وخرج مخرج الغالب، كقوله تعالى: "
وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ"(الأنعام: 38).
وقوله: "
إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" أي: لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول: إنما تعلم هذا من كُتب قبله مأثورة عن الأنبياء، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة: "
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا" (الفرقان: 5). قال الله تعالى: "
قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا" (الفرقان: 6)، وقال هاهنا: "
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ" أي: هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، أمرًا ونهيًا وخبرًا، يحفظه العلماء، يَسَّره الله عليهم حفظًا وتلاوةً وتفسيرًا، كما قال تعالى: "
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" (القمر: 17)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
ما مِنْ نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا".
وفي حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم: "
يقول الله تعالى: إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان". أي: لو غسل الماء المحلَّ المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل. كما جاء في الحديث الآخر: "
لو كان القرآن في إهاب، ما أحرقته النار"، لأنه محفوظ في الصدور، ميسر على الألسنة، مهيمن على القلوب، معجز لفظًا ومعنى.
واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى: "
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ"، بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابًا ولا تخطه بيمينك، آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب. ونقله عن قتادة، وابن جريج. وحكى الأول عن الحسن البصري فقط.
ابن كثير تفسير القرآن العظيم, ج 6, ص ص 285- 287.وكان من كتبة الوحي بين يديه صلى الله عليه وسلم ستة وعشرون كاتبا.
فإن قيل: فقد تهجى النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الدجال فقال: "
مكتوب بين عينيه ك ا ف ر " وقلتم إن المعجزة قائمة في كونه أميا، قال الله تعالى: "
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ" الآية وقال: "
إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " فكيف هذا ؟ فالجواب ما نص عليه صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضا.
ففي حديث حذيفة "
يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب" فقد نص في ذلك على غير الكاتب ممن يكون أميا.
وهذا من أوضح ما يكون جليا.
تفسير القرطبي, ج 13, ص ص 351- 353.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمي..