ذنوبي تنغص معيشتي
وقد تقول: إني ارتكبت من الذنوب الكثير وتبت إلى الله، ولكن ذنوبي تطاردني، وتذكري لما عملته ينغص عليّ حياتي، ويقض مضجعي، ويؤرق ليلي ويقلق راحتي، فما السبيل إلى إراحتي.
فأقول لك أيها الأخ المسلم، إن هذه المشاعر هي دلائل التوبة الصادقة، وهذا هو الندم بعينه، والندم توبة فالتفت إلى ما سبق بعين الرجاء، رجاء أن يغفر الله لك، ولا تيأس من روح الله، ولا تقنط من رحمة الله، والله يقول: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} الحجر /56.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله) رواه عبد الرزاق وصححه الهيثمي وابن كثير.
والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، وقد يُغلِّب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة، فإذا عصى غلَّب جانب الخوف ليتوب، وإذا تاب غلَّب جانب الرجاء يطلب عفو الله.
هل اعترف ؟
وسأل سائل بصوت حزين يقول: أريد أن أتوب ولكن هل يجب عليّ أن أذهب وأعترف بما فعلت من ذنوب ؟
وهل من شروط توبتي أن أقر أمام القاضي في المحكمة بكل ما اقترفت وأطلب إقامة الحد عليّ ؟
وماذا تعني تلك القصة التي قرأتها قبل قليل عن توبة ماعز، والمرأة، والرجل الذي قبّل امرأة في بستان.
فأقول لك أيها الأخ المسلم: اتصال العبد بربه دون وسائط من مزايا هذا التوحيد العظيم، الذي ارتضاه الله (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) البقرة /186. وإذا آمنا أن التوبة لله فإن الاعتراف هو لله أيضاً، وفي دعاء سيد الاستغفار: (أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي) أي أعترف لك يا الله.
ولسنا ولله الحمد مثل النصارى، قسيس وكرسي اعتراف وصك غفران.. إلى آخر أركان المهزلة.
بل إن الله يقول: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } التوبة /104 أي عن عباده دون وسيط.
أما بالنسبة لإقامة الحدود فإن الحد إذا لم يصل إلى الإمام أو الحاكم أو القاضي فإنه لا يلزم الإنسان أن يأتي ويعترف، ومن ستر الله عليه لا بأس أن يستر نفسه، وتكفيه توبته فيما بينه وبين الله، ومن أسمائه سبحانه الستِّير وهو يحب الستر على عباده، أما أولئك الصحابة مثل ماعز والمرأة اللذان زنيا والرجل الذي قبل امرأة في بستان فإنهم رضي الله عنهم فعلوا أمراً لا يجب عليهم وذلك من شدة حرصهم على تطهير أنفسهم بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز أعرض عنه وعن المرأة في البداية وكذلك قول عمر للرجل الذي قبّل امرأة في بستان لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إقراراً.
وعلى هذا فلا يلزم الذهاب للمحكمة لتسجيل الاعترافات رسمياً إذا أصبح العبد وقد ستره ربه، ولا يلزم كذلك الذهاب إلى إمام المسجد وطلب إقامة الحد، ولا الاستعانة بصديق في الجلد داخل البيت، كما يخطر في أذهان البعض.
وعند ذلك تُعلم بشاعة موقف بعض الجهال من بعض التائبين في مثل القصة الآتي ملخصها:
ذهب مذنب إلى إمام مسجد جاهل، واعترف لديه بما ارتكب من ذنوب وطلب منه الحل، فقال هذا الإمام لابد أولاً أن تذهب إلى المحكمة وتصدق اعترافاتك شرعاً، وتقام عليك الحدود، ثم ينظر في أمرك، فلما رأى المسكين أنه لا يطيق تطبيق هذا الكلام، عدل عن التوبة ورجع إلى ما كان فيه.
وأنتهز هذه الفرصة لتعليق مهم فأقول: أيها المسلمون إن معرفة أحكام الدين أمانة، وطلبها من مصادرها الصحيحة أمانة، والله يقول: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} النحل /43 وقال: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} الفرقان /59.
فليس كل واعظ يصلح أن يُفتي، ولا كل إمام مسجد أو مؤذن يصلح أن يُخبر بالأحكام الشرعية في قضايا الناس، ولا كل أديب أو قاصّ يصلح ناقلاً للفتاوى، والمسلم مسئول عمن يأخذ الفتوى، وهذه مسألة تعبدية، وقد خشي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الأئمة المضلين، قال أحد السلف: إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم، فاحذروا عباد الله من هذه المزالق والتمسوا أهل العلم فيما أشكل عليكم. والله المستعان.
فتاوى مهمة للتائبين
وقد تقول: أريد أن أتوب ولكني أجهل أحكام التوبة، وتدور في ذهني أسئلة كثيرة عن صحة التوبة من بعض الذنوب، وكيفية قضاء حقوق الله التي فرطت فيها، وطريقة إرجاع حقوق العباد التي أخذتها، فهل من إجابات على هذه التساؤلات ؟
وإليك أيها العائد إلى الله ما علّه يشفي الغليل.
س1: إنني أقع في الذنب فأتوب منه، ثم تغلبني نفسي الأمارة بالسوء فأعود إليه ! فهل تبطل توبتي الأولى ويبقى عليّ إثم الذنب الأول وما بعده ؟
جـ1: ذكر أكثر العلماء على أنه لا يشترط في صحة التوبة ألا يعود إلى الذنب، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم الجازم على ترك معاودته، فإن عاوده يصبح حينئذ كمن عمل معصية جديدة تلزمه توبة جديدة منها وتوبته الأولى صحيحة.
س2: هل تصح التوبة من ذنب وأنا مصر على ذنب آخر ؟
جـ2: تصح التوبة من ذنب ولو أصر على ذنب آخر، إذا لم يكن من النوع نفسه، ولا يتعلق بالذنب الأول، فمثلاً لو تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر فتوبته من الربا صحيحة، والعكس صحيح، أما إذا تاب من ربا الفضل وأصر على ربا النسيئة فلا تقبل توبته حينئذ، وكذلك من تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو العكس، وكذلك من تاب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها فهؤلاء توبتهم غير صحيحة، وغاية ما فعلوه أنهم عدلوا عن نوع من الذنب إلى نوع آخر منه. راجع المدارج.
س3: تركت حقوقاً لله في الماضي من صلوات لم أؤدها وصيام تركته وزكاة منعتها، فماذا أفعل الآن؟
جـ3: أما تارك الصلاة فالراجح أنه لا يلزمه القضاء لأنه قد فات وقتها، ولا يمكن استدراكه ويعوضه بكثرة التوبة والاستغفار، والإكثار من النوافل لعل الله أن يتجاوز عنه.
وأما تارك الصيام فإن كان مسلماً وقت تركه للصيام، فإنه يجب عليه القضاء مع إطعام مسكين عن كل يوم أخره من رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، من غير عذر وهذه كفارة التأخير، وهي واحدة لا تتضاعف ولو توالت أشهر رمضان.
مثال: رجل ترك 3 أيام من رمضان سنة 1400 هـ و 5 أيام من رمضان سنة 1401 هـ تهاوناً، وبعد سنين تاب إلى الله، فإنه يلزمه قضاء الصيام ثمانية أيام، وإطعام مسكين عن كل يوم من الأيام الثمانية.
مثال آخر: امرأة بلغت عام 1400 هـ وخجلت من إخبار أهلها، فصامت أيام عادتها الثمانية مثلاً ولم تقضها، ثم تابت إلى الله الآن فعليها الحكم السابق نفسه، وينبغي أن يعلم أن هناك فروقاً بين ترك الصلاة وترك الصيام، ذكره أهل العلم على أن هناك في العلماء من يرى عدم القضاء على من ترك الصيام متعمداً دون عذر.
وأما تارك الزكاة فيجب عليه إخراجها وهي حق لله من جهة، وحق للفقير من جهة أخرى. للمزيد راجع مدارج السالكين 1/383.