اعلم تأثر هذه الآية على كل منا سيكون بقدر إيمانه ورقة قلبه فلقد نزلت هذه الآية في الصديق أبي بكر في واقعة الإفك ، فقد كان لأبي بكر ابن خالة فقير يدعى مسطح بن أثاثة ، كان يتيما وينفق عليه أبو بكر وعلى قرابته وقد كان مسطح هذا ممن جاء بالإفك مع حسان بن ثابت وغيرهما ، فلما نزلت آيات تبرئة السيدة عائشة رضي الله عنها طردهم أبو بكر وحلف ألا ينفق عليهم بعد ذلك وقال: قوموا فلستم مني ولست منكم ولا يدخلن على أحد منكم
فاعتذر مسطح متعللا بأنه ما كان لهم أول الأمر من ذنب فرد أبو بكر قائلا: ( إن لم تتكلم فقد ضحكت ) ، فرد مسطح بأن ذلك كان تعجبا من قولهم ، فلم يقبل أبو بكر عذره ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصل إلى قوله تعالى" ألا تحبون أن يغفر الله لكم "
قال أبو بكر رضى الله عنه: (بلى يا رب إني أحب أن يغفر لي) وذهب أبو بكر إلى منزله وأرسل إلى مسطح وأقاربه وقال لهم : ( قبلت ما أنزل الله على الرأس والعين ) وجعل رضي الله عنه لهم مثلي ما كان لهم من قبل.
الله أكبر إن أبا بكر قد قبل اعتذار من قذف ابنته عائشة أم المؤمنين بمجرد أن قرأ قوله تعالى " ألا تحبون أن يغفر الله لكم " وعفا عنه وجعل له مثلي ما كان ينفقه عليه من قبل فماذا لو أساء إلينا أحدهم عزيزا كان أو غير ذلك ثم اعتذر عما اقترفت يداه في حقنا ؟؟؟
تعالوا نحتكم إلى شرع الله ، لنرى أوامر ديننا ونواهيه ، ونقرأ معا بعضا من حكم الحكماء وأقوال البلغاء
قال تعالى" خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" الأعراف:199
تأمل أيها العبد المبارك الأمر بالعفو وجزاء من يفعل ذلك ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اعتذر إليه أخوه المسلم فلم يقبل لم يرد على الحوض " رواه أبو الشيخ وصححه الألباني وفي رواية أخرى للديلمي " من اعتذر قبل الله معذرته " "من لم يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر الله له" رواه أحمد وصححه الألباني " من تُنصل إليه - أي اعتُذر إليه- فلم يقبل فلن يرد على الحوض" رواه الحاكم والطبراني وصححه الألباني "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه " رواه أحمد ومسلم
"ثلاث أقسم عليهن00 ما نقص مال من صدقة فتصدقوا ، ولا عفا رجل عن مظلمة ظلمها إلا زاده الله تعالى بها عزا فاعفوا يزدكم الله عزا ........... الحديث " رواه ابن أبي الدنيا
" ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات ، قالوا نعم يا رسول الله ، قال: تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك........ الحديث " رواه الطبراني
ولقد قال على بن أبي طالب ناصحا الحسن ابنه: " يا بنى ، رأس الدين صحبة المتقين ، وتمام الإخلاص اجتناب المحارم ، وخير المقال ما صدقه الفعال ، اقبل عذر من اعتذر إليك ، واقبل العفو من الناس ، وأطع أخاك وإن عصاك وصله وإن جفاك "
وقال الشافعي
"من استرضى فلم يرضَ فهو جبار " وفي قول آخر : " فهو شيطان "
وقال بعض الحكماء:
" أقل الاعتذار موجب للقبول "
ومن أقوال الشعراء :
اقبل معاذير من يأتيك معتذرا ...... إن بر عندك فيما قال أو فجر
إذا اعتذر المسيء إليك يوما ....... تجاوز عن مساويه الكثيرة
قيل لي: قد أساء إليك فلان ......... ومقام الفتى على الذل عار
فصنه عن جفائك واعف عنه ..........فإن الصفح تشمة كل حر
فيجب علينا أن نقبل اعتذار من أساء إلينا مهما كانت إساءته
مادام قد اعتذر إليك ولا تجعله يريق ماء وجهه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه " رواه أحمد
زن نفسك وإيمانك بميزان الشرع
ماذا لو أساء إليك فلان ثم اعتذر إليك ، ومع ذلك لم تقبل اعتذاره ؟؟
أبعد كل ما علمت من آيات كريمة وأحاديث شريفة؟!
إنك إذن قاسي القلب متبع لهواك
إن إسلامنا وإيماننا ليسا رداء منمنما نرتديه فوق أبدان وعقول وقلوب عادية لم تتأثر به إن الدين ليس شعارات نرفعها ولا أقاويل نرددها ولا مواقف ندعيها ونحن جالسون في مقاعدنا
قل لي بالله عليك .. ما هو مبررك في عدم قبولك لاعتذار من أساء إليك؟؟ أتقول كرامتي؟ أتقول كبريائي؟ أتفاخر بأنك لم تعتذر يوما لمن أخطأتَ في حقه؟ أتسعد لأنك يوما لم تقبل اعتذار معتذر ؟ ولو قبلت اعتذاره ظاهريا فإنك لم ولن تنسى إساءته؟ إذن فثق أنك ممن تبع هواه وقسي قلبه. فالهوى هو الميل والرغبة والإرادة ، ولا بد للهوى أن يكون موافقا لما أمر به شرع الله تعالى ، وتأمل معي قوله سبحانه" فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما ً" النساء:65
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه متبعا لما جئت به" رواه الخطيب
إن تعللتَ بالكرامة والكبرياء فإن ذلك من تلبيس الشيطان عليك ، وما هي حقيقةً إلا تكبرك وغرورك ، ولعلك قرأت قوله سبحانه: " أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ " الزمر:22 وفي الحديث: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قيل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنة قال : إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق و غمط الناس " رواه مسلم
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى : " الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار " رواه أحمد وقال صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة ثلاثة منهم ".... رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم ....... الحديث " رواه مسلم
فلا تستسلم لتلك الخصال الذميمة إن كانت بك
فقد أُمرنا بأن نجاهد أنفسنا وهوانا ، وتأمل معي قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: " أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه و هواه "رواه ابن النجار
" المجاهد من جاهد نفسه في الله " رواه الترمذي " المهاجر من هجر السوء والمجاهد من جاهد هواه " رواه النسائي
سل نفسك بل راقب نفسك عندما يأتيك مسيء يعتذر .. ماذا يكون شعورك حينئذ؟؟
أسألك عن شعورك الداخلي لا ما ستبديه ظاهريا
فإن صفحت وعفوت وقبلت اعتذاره ونسيت إساءته فإيمانك بخير وقلبك رقيق رحيم وإلا ... فراجع نفسك وقوّى إيمانك ورقق قلبك وتذكر دوما هذا الحديث الذي سبق وأن ذكرناه والذي رواه مسلم والذي حدد فيه صلى الله عليه وسلم أن أصناف أهل الجنة ثلاثة منهم " ... رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم ....الحديث"
أيها العبد المبارك
ديننا ليس رايات نرفعها وشعارات نعلنها وأقوال نرددها ونحن جلوس في أماكننا
إنما هو قيم ومبادئ نعتنقها ونلتزم بها ونطبقها فما شرعت الشرائع إلا لتطبق ونلتزم بها فتغير ظاهرنا وباطننا ولن يتجلى ذلك كله إلا عندما نوضع في تلك المواقف التي تميز منا الصادق من المدعي
وفي الحديث: " إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم و أموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم " رواه مسلم
أتذكر موقف السحرة مع سيدنا موسى عليه السلام ؟
لقد حضروا لنصرة الطاغية فرعون ، وأول ما سألوا كان عن أجرهم " فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ " الشعراء:41
فلما تبين لهم صدق نبوة موسي آمنوا وانقلبوا في ثوان معدودة إلى مؤمنين صامدين وقابلوا تهديد فرعون ووعيده بأشد العذاب بكل ثبات ويقين " قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا " طـه:72
ومن أرق ما قيل عنهم أنهم أصبحوا كفارا وأضحوا مؤمنين وأمسوا شهداء
وهكذا يكون أثر الإيمان في نفس المؤمن العاقل ، لا يترك هواه ولا خصاله الذميمة تتمكن منه
إن أساء إليك أحدهم عزيزا كان أو غير ذلك ثم جاءك معتذرا فاقبل اعتذاره لا تتولى متعللا بكرامتك وكبريائك فهي في حقيقة الأمر كبرك وغرورك وقسوة قلبك نقِّ نفسك من أية خصال جاهلية وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عندما قال أبو ذر لبلال: ( يا ابن السوداء ) فقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا ذر .. إنك امرؤ فيك جاهلية ... ) رواه أبو داود
فبالله عليك .. أية جاهلية في قلبك عندما تخالف أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا تقبل اعتذار من أساء إليك؟؟