وبهذا
الهدى تعلمنا من خالقنا سبحانه أنه قسم حياتنا إلى قسمين:
1) الحياة
الدنيا، وهي دار الابتلاء فيما استخلفنا الله عليه.
2) الحياة الآخرة
وهي دار الجزاء.
وأعلمنا أن الموت هو الانتقال من دار الابتلاء إلى
دار الجزاء. الحياة الدنيا دار استخلاف إذا تأملنا في موقف الإنسان على
الأرض وجدناه موقف المستخلف عليها من قبل مالكها؛ لأن الإنسان لم يخلق
شيئاً على هذه الأرض مما ينتفع به ويستخدمه أو مما هو مسخر لمنفعته
ومصلحته، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا} (البقرة:29).
بل إن الإنسان لا يملك من نفسه شيئاً، لا
يملك يده ولا لسانه ولا عينه ولا رجله ولا يملك عرقاً ولا عظماً ولا جلداً
ولا لحماً ولا عصباً ولا حتى قطرة دم لأنه لم يخلق من ذلك شيئاً، قال
تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ
مَا تُمْنُونَ (58) ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ
(59)} (الواقعة:57-59). وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (الطور:35).
ومع أن الإنسان لا يملك شيئاً
من نفسه ولا مما حوله فهو من الناحية العملية يتصرف وكأنه المالك، فقد
أعطي من الصلاحيات والقدرات والإمكانيات ما جعله يسخر كل شئ في الأرض
لمصلحته، وينتفع بالقوى والخيرات وغيرها من المخلوقات حتى سمي الإنسان (سيد
الأرض) قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (الجاثية:13).
ومن الواضح أن هذه
المنزلة التي للإنسان لم تكن له إلا بما يأتي:
1) بما أودع الله فيه من
طاقات ومواهب وكفايات.
2) بتسخير ما في الأرض جميعاً له.
3) بعدم
خلق من ينافسه أو يتغلب عليه ويستضعفه.
وإذن فمنزلة الإنسان في هذه
الأرض بمنزلة المالك لما فيها، مع أنه لم يخلق منها شيئاً فهو إذن مستخلف
عليها من قبل مالكها الحق ومالك الإنسان. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ} (البقرة:30).
وقال تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ
الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل:62).
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ
بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ
إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيم}
(الأنعام:165).
ومع أن الإنسان مستخلف في الأرض، فهو في نفسه خاضع
ومحكوم بما قدر الله له وعليه. فلا يملك أن يختار أبويه أو جنسه (ذكراً كان
أو أنثى) أو صورته أو عمره أو زمانه أو مكان ولادته أو موته أو مواهبه أو
مجتمعه أو أبناءه. ويخرج الإنسان من الدنيا كما دخل إليها وقد سلم الودائع
جميعاً، وترك كل ما كان يحرص عليه. فالإنسان عبد مستخلف على الأرض بتقدير
سيده ومالكه خالقه وخالق كل شئ.
الأرض دار ابتلاء وامتحان للإنسان
يستخلف الخالق سبحانه الإنسان على هذه الأرض لمدة محدودة، وأجل معلوم،
لمعرفة طاعته من معصيته، ولتمييز المؤمن من الكافر، والمطيع من العاصي، حتى
يكون الجزاء في الآخرة على ما قدم الإنسان من عمل في الدنيا. ألست ترى أن
الذي خلقك أخرجك إلى الدنيا وأنت لا تملك شيئاً ثم وهب لك ما شاء من
المواهب، والأموال، والأولاد، والعلم، والجاه. ثم يسترد بالموت كل الودائع،
وتخرج من الدنيا كما دخلت إليها. قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا
فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا
خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} (الأنعام:94).
فتأمل: كل ما
أعطاك الله إياه لم يرد منه التمليك الدائم لك؛ لأنه يسترد منك الذي أعطاك.
وعندما أخذ الله منك ما أعطاك لم يرد سلبك لأنه الذي أعطاك أول مرة. وإذن
فالامتحان والاختبار هو المراد من التمليك المؤقت لما أعطاك ربك. وجعل كل
ما في الدنيا أداة من أدوات الامتحان.ولأن الامتحان هو المقصود من الحياة
فإن الله لم يرغم الناس على عبادته بل استخلفهم على الأرض، وأرسل إليهم
رسلاً ورسالات، وطلب منهم أن يخضعوا لأمره، وأن يطيعوه ويعبدوه باختيارهم،
في المهلة المعطاة لهم على الأرض. قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ
وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ…} (الكهف:29).
كيف يتحقق الامتحان
لقد
زين الله في أنظارنا الدنيا الفانية، وزين لنا في كتابه وسنة نبيه الآخرة
الباقية كي يتحقق الامتحان لإيماننا. قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ
خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (القصص:60). وعرفنا أن كل ما في
الأرض فانه لا يدوم ولا قيمة له وأنه قد غر من قبلنا فتصارعوا عليه، ثم
تركوه مرغمين..
قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:64). وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ
حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
(الحديد:20). وقال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ
(27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ(29)}
(الدخان:25-29).
وإذا استعرضت حياتك وجدت صدق هذه الحقيقة المبينة
لحقيقة الدنيا، فكل ما مضى من حياتك لا قيمة له عند موتك، ولا يبقى منه إلا
عملك الصالح، وما هي إلا سنوات حتى تكتشف هذه الحقيقة في حياتك بأكملها،
بل في حياة جيلك كله، بل ستجدها واضحة في الحياة البشرية كلها. قال تعالى:
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا
سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ…} (الأحقاف:35).
نتيجة الامتحان فمن كان
إيمانه قوياً، وخوفه من ربه عظيماً، سلك لجمع الدنيا طريق ربه، واتبع هدى
خالقه، وقاوم الهوى ووسوسة الشيطان، ولم ينخدع بزينة الدنيا فذلك هو
الامتحان والنجاح والنجاة من النار والفوز بالجنة. قال تعالى: {فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران:185). ومن أبى
وعصى، فقد ظل وغوى، وفي النار هوى، قال تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)} (الزمر:25-26).
وأما
إن كان ضعيف الإيمان، لا يخاف ربه فإن بريق الدنيا يخدعه، وينطلق لجمع ما
في الدنيا من متاع وزينة بأي وسيلة أو طريق، بقتل أو تدمير أو تخريب، بحيلة
أو خديعة، معرضاً عن هدى خالقه وهداه، وبهذا يظهر كفره أو فسقه فذلك هو
الامتحان والفشل فيه.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ
لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ
النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (:lol!:} (يونس:7-:lol!:. وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَءَاثَرَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)}
(النازعات:37-39) وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (إبراهيم:3) وقال
تعالى ? الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ
يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (الأعراف:51).
العبادة
هي الحكمة من خلق الإنسان
لقد تبين لنا مما سبق أن الإنسان خلق لحكمة
ولم يخلق عبثاً. وأن الحكمة من خلق جميع البشر واحدة. وأن الحكمة من خلق
الإنسان متعلقة بالدنيا والآخرة. وأنها لا تعلم إلا من الخالق سبحانه. وأن
الخالق سبحانه قد استخلف الإنسان في الأرض. وأن غاية الاستخلاف هو الابتلاء
والامتحان. وأن موضوع الامتحان هو العبادة لله سبحانه. والعبادة هي العمل
وفق مراد الخالق الذي خلق سبحانه. ألست ترى أن أي مصنوع يصنع لا يكون صنعه
إلا لعمل وفق مراد الذي صنعه.
وكذلك الإنسان ما كان ليعمل إلا وفق
مراد خالقه سبحانه. وعمل الإنسان وفق مراد خالقه هو العبادة. قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
(الذاريات:56). فالحكمة من خلق الإنسان هو أن يكون عبداً لله على الأرض
التي استخلفه فيها، ليمتحنه ربه أيطيعه ويعبده، أم يعصيه ويكفر به.
ثم
ينقله بالموت من دار الامتحان والعمل إلى دار الجزاء على ما قدم. وهذه
الحكمة واحدة لا تتبدل من خلق كل إنسان في كل زمان ومكان، ولكل الإنسان
مهما كانت مكانته فهو ممتحن فيما استخلفه الله فيه. قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
الموضوع : الحكمة من خلق الإنسان وحقيقة الحياة الدنيا المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya