فالجهل
داء عضال يميت القلوب والشعور ويضعف الأبدان والقوى ويجعل أهله أشبه
بالأنعام لا يهمهم إلا شهوات الفروج والبطون وما زاد على ذلك فهو تابع لذلك
من شهوات المساكن والملابس . فالجاهل قد ضعف قلبه وضعف شعوره وقلت بصيرته ،
فليس وراء شهوته الحاضرة وحاجته العاجلة شيء يطمح إليه ويريد أن ينظر إليه
. وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد وغيره بإسناد حسن عن ثوبان رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما
تداعى الأكلة على قصعتها قيل يا رسول الله أمن قلة بنا؟ قال لا ولكنكم غثاء
كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم منكم ويوضع في قلوبكم الوهن قالوا
يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت
وهذا الوهن الذي
ورد في الحديث إنما نشأ عن الجهل الذي صاروا به غثاء كغثاء السيل ، ما
عندهم بصيرة بما يجب عليهم بسبب هذا الجهل الذي صاروا به بهذه المثابة .
فقد
سيطر الوهن عليهم واستقر في قلوبهم ولا يستطيعون الحراك إلى المقامات
العالية والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته؛ لأن حبهم للدنيا وشهواتها من
مآكل ومشارب وملابس ومساكن وغير ذلك أقعدهم عن طلب المعالي وعن الجهاد في
سبيل الله فيخشون أن تفوتهم هذه الأشياء .
وكذلك أوجب لهم البخل
حتى لا تصرف الأموال إلا في هذه الشهوات ، وأفقدهم هذا الجهل القيادة
الصالحة المؤثرة العظيمة التي لا يهمها إلا إعلاء كلمة الله والجهاد في
سبيل الله وسيادة المسلمين وحفظ كيانهم من عدوهم وإعداد العدة بكل طريق
وبكل وسيلة لحفظ دين المسلمين وصيانته وإعلائه وحفظ بلاد المسلمين ونفوسهم
وذرياتهم عن عدوهم .
فالجهل أضراره عظيمة وعواقبه وخيمة ومن ذلك ما
بينه النبي صلى الله عليه وسلم من ذل المسلمين أمام عدوهم ووصفهم بأنهم
غثاء كغثاء السيل وأن أسباب ذلك نزع المهابة من قلوب أعدائهم منهم؛ أي أن
أعداءهم لا يهابونهم ولا يقدرونهم لما عرفوا من جهلهم وتكالبهم على الدنيا
والركون إليها .
فالعدو إنما يعظم القوة والنشاط والهمة العالية
والتضحية العظيمة في سبيل مبدئه . فإذا رأى العدو أن هذا الخصم المقابل له
ليس له هذه الهمة وإنما هو يهتم لشهواته وحظه العاجل أعطاه من ذلك حتى يوهن
قوته أمامه ويصرفه عن التفكير في قتاله لانشغاله بحب الدنيا والانكباب على
الشهوات .
فالوهن أصاب القلوب إلا ما شاء الله واستحكم عليها إلا
من رحم ربك وما أقلهم ، فهم في الغالب قد ضعفوا أمام عدوهم ونزعت المهابة
من قلوب أعدائهم منهم وصار أعداؤهم لا يهتمون بهم ولا يبالون بهم ولا
ينصفونهم لأنهم عرفوا حالهم وعرفوا أنهم لا قوة ولا غيرة عندهم ولا صبر لهم
على القتال ولا قوة أيضا تعينهم على القتال ولم يعدوا لهذا المقام عدته ،
فلذلك احتقرهم العدو ولم يبال بشأنهم وعاملهم معاملة السيد للمسود والرئيس
للمرءوس وهم سادرون في حب الدنيا والبعد عن أسباب الموت إلا من رحم ربك
حريصون على تحصيل الشهوات المطلوبة بكل وسيلة ، حذرون من الموت حريصون على
العلاج والدواء عن كل صغيرة وكبيرة من الأدواء خوف الموت ، وحريصون أيضا
ألا يتعاطوا أمرا يسبب الموت والانقطاع عن هذه الشهوات .
ومن أراد
الآخرة وأراد إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله لا تكون حاله هكذا ،
وفيما جرى لسلفنا الصالح في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام وعهد صحابته
المرضيين ومن سار على طريقهم بعد ذلك فيما فعلوا من الجهاد وفيما أعدوا من
العدة وفيما صبروا عليه من التعب والأذى قدوة لنا وذكرى لنا لإعلاء كلمة
الله والجهاد في سبيله وإنقاذ بلادنا وقومنا من أيدي أعدائنا صبرا وتحملا
وجهادا وإيثارا للآخرة وبذلا للمال والنفس للجهاد في سبيل الله عز وجل
وتدربا على الجهاد والقتال وحرصا على الخشونة والصبر والتحمل وذكرا للآخرة
دائما وعناية بكل ما يعين على جهاد الأعداء وصبرا على ذلك وتعاونا وجمعا
للكلمة واتحادا للصف حتى يحصل المراد من إعلاء كلمة الله وإنقاذ المسلمين
من كيد عدوهم .
وإذا علمنا الداء وهو بين وواضح وهو كما علمنا غلبة
الجهل وعدم التعلم والتفقه في الدين والإعراض عن العلم الشرعي ورضا
بالعلوم الدنيوية التي تؤهل للوظائف فقط غير العلوم التي توجب الاستغناء عن
الأعداء والقيام بأمر الله والبعد عن مساخطه سبحانه ، وإنما هي علوم قاصرة
ضعيفة قصاراها أن تؤهل لعمل عاجل دنيوي في بلاد الفرد ودولته - إذا علم
ذلك فإن الواجب علاجه بالعلم الشرعي ، إذ قَلَّ من يعنى بالعلم النافع الذي
جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام وقل من يعنى بالإعداد للأعداء حتى
يتمكن ذلك الشعب وتلك الدولة من إيجاد ما يغني عن الأعداء .
فالداء
واضح وبيِّن وهو مكون من عدة أدواء نشأت عن الجهل والإعراض والغفلة حتى
صار الموت مرهوبا والدنيا مؤثرة ومرغوب فيها وحتى صار الجهاد شبحا مخيفا لا
يقبله إلا القليل من الناس وصار الهدف ليس لإعلاء كلمة الله بل إما لقومية
وإما لوطنية وإما لأشياء أخرى غير إعلاء كلمة الله وإظهار دينه والقضاء
على ما خالف ذلك . فالإعداد ضعيف أو معدوم والأهداف منحرفة إلا ما شاء الله
. فطريق النجاح وطريق التقدم ضد الأعداء وعدم الضعف أمامهم وطريق الفلاح
والنجاح والحصول على المقامات العالية والمطالب الرفيعة والنصر على الأعداء
- طريق كل ذلك هو في الإقبال على العلم النافع والتفقه في الدين وإيثار
مرضاة الله على مساخطه والعناية بما أوجب الله وترك ما حرم الله والتوبة
إلى الله مما وقع من سالف الذنوب ومن التقصير توبة صادقة والتعاون الكامل
بين الدولة والشعب على ما يجب من طاعة الله ورسوله والكف عن محارم الله عز
وجل وعلى ما يجب أيضا من إعداد العدة كما قال الله سبحانه وتعالى
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) إلخ .
فلا بد
من إعداد العدة البدنية والمادية وسائر أنواع العدة من جميع الوجوه حتى
نستغني بما أعطانا الله سبحانه عما عند أعدائنا فإن قتال أعدائنا بما في
أيديهم من الصعب جدا الحصول عليه ، فإذا منع العدو عنك السلاح فبأي شيء
تقاتل؟ مع ضعف البصيرة وقلة العلم .
فلا بد من إعداد المستطاع ،
ويكفي المستطاع ما دام المسلمون قاصدين الاستغناء عن عدوهم وجهاد عدوهم
واستنقاذ بلادهم قاصدين إقامة أمر الله في بلاد الله قاصدين الآخرة ما
استطاعوا لكل ذلك . فإن الله سبحانه وتعالى يقول (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) إلخ ، ولم يقل وأعدوا لهم مثل قوتهم؛ لأن هذا
قد لا يستطاع .
فإذا صدق المسلمون وتكاتفوا وأعدوا لعدوهم ما
استطاعوا من العدة ونصروا دين الله فالله يعينهم وينصرهم سبحانه وتعالى
ويجعلهم أمام العدو وفوق العدو لا تحت العدو ، يقول الله وهو الصادق في
قوله ووعده : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ
يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) والله ليس بعاجز ولا في حاجة إلى
الناس ولكنه يبتلي عباده الأخيار بالأشرار ليعلم صدق الصادقين وكذب
الكاذبين وليعلم المجاهد من غيره وليعلم الراغب في النجاة من غيره ، وإلا
فهو القادر على نصر أوليائه وإهلاك أعدائه من دون حرب ومن دون حاجة إلى
جهاد وعدة وغير ذلك ، كما قال سبحانه (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ
لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) وقال سبحانه
في سورة الأنفال في قصة بدر : (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) يعني إمدادهم بالمدد من الملائكة ، وقال
سبحانه (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)
وفي آية آل عمران كذلك قال تعالى : (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى
لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) فالنصر من عنده جل وعلا ، ولكنه سبحانه
جعل المدد بالملائكة ، وما يعطي من السلاح والمال وكثرة الجند كل ذلك من
أسباب النصر والتبشير والطمأنينة ، وليس النصر معلقا بذلك ، قال سبحانه
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر ،
والسلاح قليل والمركوب قليل والمشهور أن الإبل كانت سبعين وكانوا
يتعاقبونها وكان السلاح قليلا وليس معهم من الخيل في المشهور سوى فرسين ،
وكان جيش الكفار حوالي الألف ، وعندهم القوة العظمية والسلاح الكثير ، ولما
أراد الله هزيمتهم هزمهم ولم تنفعهم قوتهم ولا جنودهم ، وهزم الله الألف
وما عندهم من القوة العظيمة بالثلاثمائة وبضعة عشر وما عندهم من القوة
الضعيفة ، ولكن بتيسير الله ونصره وتأييده غلبوا ونصروا وأسروا من الكفار
سبعين وقتلوا سبعين وهزم الباقون لا يلوي أحد على أحد وكل ذلك من آيات الله
ونصره .
وفي يوم الأحزاب غزا الكفار المدينة بعشرة آلاف مقاتل من
أصناف العرب من قريش وغيرهم وحاصروا المدينة واتخذ النبي صلى الله عليه
وسلم الخندق ، وذلك من أسباب النصر الحسي ، ومكثوا مدة وهم يحاصرون المدينة
، ثم أزالهم الله بغير قتال ، فأنزل في قلوبهم الرعب وسلط عليهم الرياح
وجنودا من عنده حتى لم يقر لهم قرار وانصرفوا خائبين إلى بلادهم ، وكل هذا
من نصره وتأييده سبحانه وتعالى ، ثم خذلوا فلم يغزوا النبي صلى الله عليه
وسلم بالمدينة ، بل غزاهم هو يوم الحديبية وجرى الصلح المعروف ، ثم غزاهم
في السنة الثامنة في رمضان وفتح الله عليه مكة ، ثم دخل الناس أفواجا في
دين الله بعد ذلك .
فالمقصود أن النصر بيد الله سبحانه وتعالى ،
وهو الناصر لعباده ، ولكنه سبحانه أمر بالأسباب ، وأعظم الأسباب طاعة الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن طاعة الله ورسوله التعلم والتفقه في الدين
حتى تعرف حكم الله وشريعته لنفسك وفي نفسك وفي غيرك وفي جهاد عدوك وحتى
تعد العدة لعدوك وحتى تكف عن محارم الله وحتى تؤدي فرائض الله وحتى تقف عند
حدود الله وحتى تتعاون مع إخوانك المسلمين وحتى تقدم الغالي والنفيس من
نفسك ومالك في سبيل الله عز وجل وفي سبيل نصر دين الله وإعلاء كلمته لا في
سبيل الوطن الفلاني ولا القومية الفلانية .
الموضوع : أسباب ضعف المسلمين أمام عدوهم ووسائل العلاج لذلك المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya