الحمد لله، والصلاة
والسلام على رسول الله، أما بعد،
تحدثنا في المرة السابقة عن الشعور
بآلام المسلمين، وبعض الحكم من تقدير البلايا، ومن أعظمها تحقيق الإيمان.
ونكمل اليوم الحديث عن بعض الحكم من تقدير البلايا:
ومنها الصبر:
فإن الله -تعالى- يحب الصبر، بل هو المفتاح الذي مع التقوى يغير الله
-تعالى- به ما بنا ويرد كيد أعدائنا، فبالصبر والاحتساب ورجاء الفرج من
عنده -سبحانه وتعالى- يفرج كربات المسلمين، وإنما قدر الكربات أصلاً
ليصبروا: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ
رَبُّكَ بَصِيراً)(الفرقان:20)، وهو البصير -سبحانه- قبل أن يصبروا، وبعد
أن يصبروا، ولكنه يحب أن يرى صبرهم، ويحب أن يثيبهم عليه قال -تعالى-:
(أتصبرون وكان ربك بصيرًا).
هو -سبحانه وتعالى- قدر أن يبتلي
المسلمون بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وهذه قبل
أن تجري عليهم بكيد أعدائهم، إنما تجري بتقدير الله -عز وجل- فقال:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ)، ولم يقل: وليصيبنكم بشيء، وإنما قال:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الأَمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ .
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(البقرة:155-157).
فكيف
تحصل الصلوات؟ وكيف تحصل الرحمة؟ وكيف يحصل الهدى؟ وكيف يحصل الصبر؟ وكيف
يشهد المؤمنون أنهم ملك لله -تعالى- يفعل بهم ما يشاء، وأنهم إليه راجعون
فيحققون الإيمان باليوم الآخر؟ كيف يحدث ذلك بغير الآلام؟ إن ولادة المولود
لابد أن تسبقها آلام المخاض، وهكذا التمكين لأمة الإسلام لابد أن تسبقه
هذه الآلام وهذه الدماء، إلى أن يولد ذلك الذي كتب الله حياته، فالطائفة
المؤمنة لا تموت بإذن الله -تبارك وتعالى- إلى يوم القيامة، كما قال النبي
-صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين
لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك)
"
إن
ولادة المولود لابد أن تسبقها آلام المخاض، وهكذا التمكين لأمة الإسلام
لابد أن تسبقه هذه الآلام وهذه الدماء
"
رواه مسلم، فإن ماتت
طائفة، وسفكت دماؤها، وانتهكت حرماتها، ولدت بعدها طائفة أخرى، ولكن مع
آلام الأولى والثانية إلى أن يأذن الله بالنصر والتمكين.
كذلك قدر
الله الآلام، لأنه يحب أن يسمع تضرعنا ودعاءنا واستغاثتنا، هكذا أخبر الله
-تعالى- قال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ
فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ .
فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ)(الأنعام:42-43)، فهذا التضرع يحبه الله، يحب أن تقوم القلوب
قبل الأبدان ذليلة لله منكسرة له فقيرة إليه، تعلم أن لا ناصر لها في الأرض
سواه، وإن اجتمعت الأمم من أولها إلى آخرها فالله نعم المولى ونعم النصير،
فمن أيقن بذلك وقام لله -عز وجل- داعياً متضرعًا مستغيثاً، يتشبه بقيام
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة بدر وهو يرى قريشًا معها إبليس
شخصيًا، قد جاءت بحدها وحديدها وأشرافها وكبرها يحادون الله ورسوله، فما
نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة، وإنما ظل يصلي ويبكي يتضرع
إلى الله، هكذا يقول علي -رضي الله عنه-: (ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم
إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) رواه أحمد، وصححه الألباني، وفي ذلك
أنزل الله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي
مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)(الأنفال:9).
"
قدر
الله الآلام، لأنه يحب أن يسمع تضرعنا ودعاءنا واستغاثتنا
"
فالله
يحب أن يستغيث به -ولا يغيثنا سواه- ولا ملجأ لنا إلا إليه، وتضرعها بين
يديه من أعظم أسباب كشف الكرب والهم، وهو -سبحانه وتعالى- وعدنا الإجابة:
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا
تَذَكَّرُونَ)(النمل:62).
تأمل هذا الترتيب العجيب تجده وسيلة
المسلمين بإذن الله، والآلام الكثيرة تشعر العبد الاضطرار، والخوف الشديد
يشعره بالاضطرار، فيتضرع إلى الله فيكشف الله السوء، وبعد كشف السوء وزواله
يستخلفنا الله -تعالى-: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ)، وهو -سبحانه-
ينزل السكينة بعد أن يجد من العبد التضرع والدعاء (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ
إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيماً حَكِيماً)(الفتح:4)، هو قدر المواجهة مع الكفر لكي يلجأ إليه
المؤمنون، لكي ينزل السكينة في قلوبهم ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، من أجل
ذلك قدر المحن وقدر الآلام، فله الحمد على ذلك كله.
وعندما يزداد
الكرب والخوف والألم -إن كنا صادقين- نتشبه برسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حين صلى في الليل ليلة الأحزاب، ليلة الريح الشاتية الباردة المطيرة
المظلمة التي لم يبق معه فيها -صلى الله عليه وسلم- حول الخندق إلا
ثلاثمائة من أصحابه الكرام، ورحل كثيرون، قالوا: إن بيوتنا عورة، ورسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في سكينة عجيبة يصلي هويًّا من الليل، ثم يقول
لأصحابه: (ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة)(1)، فمن
شدة الجوع والجهد والتعب والظلمة وفي الريح الشاتية الباردة لم يتحرك أحد،
وفي القوم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وباقي هؤلاء الأفذاذ -رضي الله عنهم-
فلا يلتفت إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاتبًا لأحد، بل يلجأ إلى
الله يصلي كثيرًا فصلى هويًّا من الليل يتضرع إلى الله -عز وجل-في هذه
الزلزلة التي قال الله عنها: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ
وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً)(الأحزاب:11)، نعم، عندما نرى أحزاب
الدنيا قد اجتمعت علينا من يهود ونصارى وملاحدة ومنافقين من جميع أنحاء
الأرض نتذكر يوم اجتمعت الأحزاب -أحزاب العرب-، والمقاييس في ذلك الوقت
بميزان الناس لا يمكن أن تكون في صالح المسلمين.
عشرة آلاف في
مواجهة ثلاثمائة بقوا وثبتوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فماذا يفعل
النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يستجب أحد لترغيبه دون الطلب، لأنهم لم
يكونوا ليخالفوا طلبه، صلى مزيدًا من الصلاة، ويكرر الترغيب مرة ثانية:
(ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة) فلا يتكلم منهم
أحد، فيتركهم -صلى الله عليه وسلم- ويصلي هويًا من الليل، فيقول في
الثالثة: (ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة) فلا يتكلم
منهم أحد، فيقول: (قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم) وكانوا -رضي الله عنهم-
لا يخالفون أمره -صلى الله عليه وسلم، إنما لم يتحركوا عندما كان الأمر
مستحبَا، لأنه كان ترغيبًا دون عزيمة في الطلب، ولكن لما قال: (قم يا
حذيفة) ما كان من هذا بدُّ.
فقام حذيفة -رضي الله عنه-، وذهب إلى
القوم ينظر كيف تفعل بهم الريح، وكيف تفعل بهم جنود الله، تسفي عليهم الريح
تكفأ قدورهم وتقلع خيامهم،ويقول أبو سفيان: "النجاء النجاء إني مرتحل"،
ترحل قريش، وترحل غطفان بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-. الأمور العظمى
تتقرر في الصلاة بدعوة صادقة أثناء العبادة، وأثناء التضرع تنكشف البلايا
والمحن، ويعود حذيفة -رضي الله عنه-، ذهب كأنه في حمّام، وعاد وكأنه في
حمّام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فكيف وجده؟ وجده يصلي -صلى الله
عليه وسلم-، هكذا كان -صلى الله عليه وسلم- على الدوام متضرعًا إلى الله
-عز وجل- مسبحًا ذاكرًا.
"
الأمور العظمى تتقرر في الصلاة بدعوة
صادقة أثناء العبادة، وأثناء التضرع تنكشف البلايا والمحن
"
فالتضرع
إلى الله من الحكم البالغة التي من أجلها قدر الله -سبحانه وتعالى- وجود
البلايا والمحن.
ولحديثنا بقية بإذن الله -تعالى-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
الحديث المذكور أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن يزيد بن شريك أنه قال: (كنا
عند حذيفة فقال: رجل لو أدركت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتلت معه
وأبليت فقال: حذيفة أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ليلة الأحزاب. وأخذتنا ريح شديدة وقر. فقال: رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟
فسكتنا. فلم يجبه منا أحد ثم قال: ألا برجل يأتينا بخبر القوم جعله الله
معي يوم القيامة؟ فسكتنا. فلم يجبه منا أحد. ثم قال: ألا برجل يأتينا بخبر
القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا. فلم يجبه منا أحد. فقال: قم يا
حذيفة! فأتنا بخبر القوم فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم قال: اذهب
فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في
حمام حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلى ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس
فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله: ولا تذعرهم علي ولو رميته لأصبته.
فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت،
قررت. فألبسني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فضل عباءة كانت عليه يصلي
فيها. فلم أزل نائماً حتى أصبحت. فلما أصبحت قال: قم يا نومان(!.
الموضوع : الحكم من تقدير البلايا المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya