مسك
الختام
وأختم بكلام نفيس لسماحة الإمام الشيخ عبدالعزيز بن باز
رحمه الله في هذه المسألة ، قال :
ولا ريب أن الدعاء من أهم أنواع
العبادة وأجمعها ، فوجب إخلاصه لله وحده كما قال عز وجل {فَادْعُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُون}[73] ، وقال عز وجل
{وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً }[74] ،
وهذا يعم جميع المخلوقات من الأنبياء وغيرهم ، لأن "أحد" نَكِرَة في سياق
النهي ، فتَعُم كل من سوى الله سبحانه ، وقال تعالى ]وَلاَ تَدْعُ مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّك[[75] ، وهذا خطاب للنبي
صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الله سبحانه قد عصمه من الشرك ، وإنما
المراد من ذلك تحذير غيره ، ثم قال عز وجل ]فإن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً
مِّنَ الظَّالِمِين [[76] ، فإن كان سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام لو
دعا غير الله يكون من الظالمين فكيف بغيره ؟ والظلم إذا أُطلق يراد به
الشرك الأكبر كما قال الله سبحانه ]وَالْكَافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ[[77] ، وقال تعالى ]إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[[78] ،
فعُلم بهذه الآيات وغيرها أن دعاء غير الله من الأموات والأشجار والأحجار
والأصنام وغيرها شرك بالله عز وجل ينافي العبادة التي خَلَقَ الله الثقلين
من أجلها ، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة إليها ، وهذا هو معنى
لا إلـٰه إلا الله ، فإن معناها : لا معبود بحق إلا الله ، فهي تنفي
العبادة عن غير الله وتثبتها لله وحده ، كما قال سبحانه ]ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ
البَاطِلُ[[79] ، وهذا هو أصل الدين وأساس المِلَة ولا تصح العبادات إلا
بعد صحة هذا الأصل كما قال تعالى ]وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ[[80] ، وقال سبحانه ]وَلَوْ أَشْرَكُوا
لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[[81].
ودين الإسلام
مبني على أصلين عظيمين أحدهما : أن لا يُعبدَ إلا الله وحده ، والثاني :
ألا يُعبَد إلا بشريعة نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو
معنى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فمن دعا الأموات
من الأنبياء و غيرهم أو دعا الأصنام أو الأشجار أو الأحجار أو غير ذلك من
المخلوقات أو استغاث بهم أو تقرب إليهم بالذبائح و النذور أو صلى لهم أو
سجد لهم ؛ فقد اتخذهم أرباباً من دون الله وجعلهم أنداداً له سبحانه .
وهذا يناقض هذا الأصل و ينافي معنى لا إلـٰه إلا الله ، كما أن من ابتدع
في الدين ما لم يأذن به الله لم يحقق معنى شهادة أن محمداً رسول الله ،
وقد قال الله عز وجل ]وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً[[82] ، وهذه الأعمال هي أعمال من مات على
الشرك بالله عز و جل ، و هكذا الأعمال المبتدعة التي لم يأذن بها الله
فإنها تكون يوم القيامة هباءً منثوراً لكونها لم توافق شرعه المطهر ، كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رِد .
متفق على صحته .[83]
إلى أن قال رحمه الله : وقد أمر الله عز وجل
بدعائه سبحانه ، ووعد من يدعوه بالاستجابة ، وتوعد من استكبر عن ذلك بدخول
جهنم ، كما قال عز وجل ]وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ[[84] ، أي صاغرين ذليلين ، وقد دلت الآية الكريمة على أن الدعاء
عبادة ، وعلى أن من استكبر عنه فمأواه جهنم ، فإذا كانت هذه حال من استكبر
عن دعاء الله فكيف تكون حال من دعا غيره وأعرض عنه ؟
وهو سبحانه
القريب المجيب المالك لكل شيء والقادر على كل شيء ، كما قال سبحانه
]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ[[85].
وقد أخبر الرسول في الحديث الصحيح أن
الدعاء هو العبادة ، وقال لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : «
إِحْفَظِ الله يَحْفَظْكَ ، إِحْفَظِ الله تجِدْهُ تجَاهَكَ ، إِذَا
سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بالله » أخرجه
الترمذي وغيره .[86]
وقال صلى الله عليه وسلم : منْ مات َوهو يدعُو من
دون الله نداً دخلَ النار .[87]
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه سُئِل : أيُّ الذَّنبِ أعظمُ عندَ الله ؟
قال : « أن تجعلَ
للَّهِ ندّاً وهوَ خَلَقَكَ » .[88]
والند هو النظير و المثيل .
فكل
من دعا غير الله أو استغاث به أو نذر له أو ذبح له أو صرف له شيئا من
العبادة سوى ما تقدم فقد اتخذه ندا لله ، سواء كان نبياً أو ولياً أو ملكاً
أو جنياً أو صنماً أو غير ذلك من المخلوقات .
أما سؤال الحي الحاضر ما
يقدر عليه والاستعانة به في الأمور الحسية التي يقدر عليها فليس ذلك من
الشرك ، بل ذلك من الأمور العادية الجائزة بين المسلمين ، كما قال تعالى في
قصة موسى ]فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ
عَدُوِّهِ[[89] ، وكما قال تعالى في قصة موسى أيضا ]فَخَرَجَ مِنْهَا
خَائِفاً يَتَرَقَّب[[90] ، وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها
من الأمور التي تَعرِض للناس ويحتاجون فيها إلى أن يستعين بعضهم ببعض .
وقد
أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الناس أنه لا يملك لأحد نفعاً
أو ضراً ، فقال تعالى في سورة الجن ]قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ
أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ
رَشَداً[[91] ، وقال تعالى في سورة الأعراف ]قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي
نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ
الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ
أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[ [92].
والآيات
في هذا المعنى كثيرة .
وهو صلى الله عليه وسلم لا يدعو إلا ربه ، ولا
يستغيث إلا به ، و كان في يوم بدر يستغيث بالله ويستنصره على عدوه ويُلِح
في ذلك ويقول : "يا رب أنجز لي ما وعدتني" ، حتى قال الصديق الأكبر أبو بكر
رضي الله عنه : "حَسبُك يا رسول الله ، فإن الله مُنجِز لك ما وعدك" ،
وأنزل الله سبحانه في ذلك قوله تعالى ]إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ
فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ
مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ
قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ[[93] ، فذكّرهم سبحانه في هذه الآيات استغاثتهم به ، وأخبر
أنه استجاب لهم بإمدادهم بالملائكة ، ثم بين سبحانه أن النصر ليس من
الملائكة ، وإنما أمدهم به للتبشير بالنصر والطمأنينة ، وبين أن النصر من
عنده فقال ]وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ[[94] ، وقال عز وجل
في سورة آل عمران ]وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ
أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[[95] ، فبين في هذه
الآية أنه سبحانه هو الناصر لهم يوم بدر ، فعُلم بذلك أن ما أعطاهم من
السلاح والقوة ، وما أمدهم به من الملائكة ؛ كل ذلك من أسباب النصر
والتبشير و الطمأنينة ، وليس النصر منها ، بل هو من عند الله وحده .[96]
انتهى كلام الشيخ رحمه الله .
الموضوع : إجماع علماء المذاهب الأربعة وغيرهم على أن دعاء غير الله شرك أكبر ، مخرج من ملة الإسلام المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya