تستحق غزة كل الدموع العربية، لكن سيل الدموع لا يجرف البغي ولا يمحو الظلم المكتوب بالخط العريض تحت سمع وبصر العالم، وإنما يمحو الظلمَ ويغير الموازين قليل من الدم القاني الذي يبذله أهله مقبلين غير مدبرين، وشيء من الإقدام والاقتحام الذي لا يخاف أهله السجون والموت.
فالحرية ليست مجانية، وهي لا تتحقق بجمل منمقة في هجاء الباغي ومدح المظلوم، ولا بتجمعات خطابية للتنفيس عن الأحزان وتبرئة الضمير. ولكي تكون لضريبة الدم قيمتها، لا يجوز هدرها في مواجهات عبثية، أو معارك جانبية، أو حروب وضع العدو خريطتها وحدد مسارها.
وهذا المقال دعوة عملية إلى الإمساك بلحظة البغي الحالية لتغيير قواعد اللعبة المؤلمة المستنزِفة التي دخلت فيها القضية الفلسطينية منذ عام 1988، والرفع من مستوى المواجهة مع الصهيونية إلى مستوى التحدي، وذلك من خلال ثلاث خطوات متوازية: توسيع ساحة المواجهة العسكرية مع الصهيونية إلى النطاق العالمي، وانتفاضة شعبية جديدة في الضفة لزلزلة بنية التواطؤ هناك والتخلص منها، واعتصامات شعبية مستمرة في الدول العربية دون توقف إلى حين فك الحصار وقطع العلاقات مع دولة البغي الصهيوني.
إن الخطوة الأولى المهمة والملحة في هذا الظرف العصيب هي توسيع ساحة المواجهة العسكرية مع الصهيونية إلى النطاق العالمي، فمواجهتنا مع الصهيونية مواجهة عالمية مهما تجاهلنا ذلك، وهي حرب مفتوحة مهما تمنينا غير ذلك.. إنها حرب مسرحها الكون كله، ووسائلها السلاح والكلمة والمال والعلم.
فالصهاينة موزعون في العالم كله، مرتبطون بعصبية قبلية متينة الوشائج، يتناصرون عن بعد، ولا يتناهون عن منكر فعلوه.
فالفتى اليافع منهم في معبد يهودي بأستراليا، والوزير منهم في حكومة جورجيا، ورجل المال منهم في بورصة نيويورك، والأمي منهم القادم من صحراء إثيوبيا.. كلهم عصبة واحدة وأمة واحدة من دون الناس.
ولم تقم إسرائيل إلا على أكتاف مال ذوي المال منهم، وأقلام ذوي الأقلام منهم، وجاه ذوي الجاه منهم، وهم درعها الحصين في كل بقاع الأرض، استعبدوا لها الشعب الأميركي الغبي، واستغلوا لصالحها عقدة المسيحية واضطهادها التاريخي لليهود، واشتروا لها ضمائر السياسيين الغربيين الذين لا ضمائر لهم، وضللوا لصالحها الشعوب الأوروبية العمياء، وتحكموا لصالحها في رقاب الحكام العرب الخونة.
فحصر المواجهة مع الصهونية في الداخل الفلسطيني قبول بقواعد اللعبة التي كتبوها بدمائنا، وإقرار لخارطة المعركة كما رسموها.
وقد اغتر القادة الفلسطينيون بذلك فحصروا معركتهم مع الصهيونية داخل فلسطين خوفا من إعلام غربي الاسم، يهودي المِلكية والهوى، يصِمهم بوصمة الإرهاب وهم حملة حق وعدل، وكان الأولى بهم أن يترنموا مع الشاعر العربي القائل:
وعيَّرها الواشون أني أحبها *** وتلك شَكاة ظاهر عنك عارُها
لقد آن الأوان للفلسطينيين النبلاء ومن آزرهم ونصرهم من العرب والمسلمين عبر العالم، أن يتخلوا عن قواعد اللعبة التي رسمها العدو، وأن ينقلوا معركتهم مع الصهيونية إلى ساحتها الحقيقية، ساحة العالم الفسيح، حيث يمكن الالتفاف والكر والفر، وضرب العدو في مناطقه الرخوة، ونقل الألم إلى الذين يذبحوننا وهم مرتخون في مقاعدهم الوثيرة بعواصم العالم.
فليس من الحكمة التركيز على ضرب إسرائيل التي هي مركز الثقل في الشبكة الصهيونية، وهي قاعدة عسكرية مدججة بالسلاح الأميركي.
بل الأوْلى ضرب المنظمات الصهوينية العالمية في عقر دارها أينما كانت، لتتبين الشعوب التي تستضيف أولئك المعتدين أن لاستضافتهم ثمنا، وليدرك يهود العالم أن اشتراكهم في ذبحنا لن يمر بصمت، فإما أن يكفوا تغذيتهم للسرطان الذي زرعوه في قلب أمتنا، وإما أن يدفعوا ثمن ذلك من دمائهم وأموالهم.
على أن نقل المعركة من داخل فلسطين إلى ساحة العالم الفسيح، لا تعني بحال استهداف الشعوب الغربية أو اليهود غير الصهاينة، فصراع الجبهات العريضة أمر يحتاج إلى حسابات دقيقة. وفتح جبهة مفتوحة مع الشعوب الغربية يمنح الصهاينة درعا واقيا يحتمون به، فيخوضون حربهم ضدنا بأذرع الآخرين ودمائهم ومالهم.
وإنما المطلوب خوض المعركة مع الصهاينة حصرا، فمنظماتهم معروفة، ومصالحهم معلومة، وقادتهم مجاهرون بالبغي والعدوان. وليس من الحكمة جر الآخرين إلى المعركة مهما تواطؤوا معهم أو ساندوهم.
وما أحرى الذين رفعوا راية الجهاد وفتحوا جبهات في كل أرجاء الدنيا من غير ضابط أو خطة، أن يهبوا اليوم للانضمام إلى معركة القدس والأقصى، فيضربوا الصهاينة أينما ثقفوهم في أي بقعة من بقاع الأرض، ويتجنبوا الصراعات مع غير الصهاينة أو تأجيلها على الأقل.
أما الخطوة الثانية فهي انتفاضة جديدة في الضفة الغربية تزلزل كيان التواطؤ والخيانة الذي يقوده محمود عباس وزمرته هناك، فليس من الممكن أن يحقق الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من كرامته، وزمام أمره في أيدي حفنة من المرتزقة الذين يتاجرون بآلامه وجراحه.
ولا بد أن يسهم أهل الضفة في تحرير وطنهم بوثبة قوية شبيهة بوثبة أهل غزة منذ سنتين من أجل التحرر ممن يكبلهم لصالح العدو، فأولى خطى التحرير هي التحرر من النخر الداخلي عبر التخلص من المتواطئين، ووضع أمانة التحرير في الأيدي المؤتمنَة.
أما الخطوة الثالثة فهي واجب الشعوب العربية، وبدونها لا معنى للندب والدموع. هذه الخطوة هي الخروج في اعتصامات دائمة من غير توقف، وإغلاق المدارس والمؤسسات والمنشآت الحكومية في كافة الدول العربية –خصوصا في مصر التي بيدها فك الحصار- حتى يتم رفع الحصار عن غزة، وقطع العلاقات مع دولة البغي.
إن المسيرات العابرة مجرد فورة تنفس عن الغيظ المكتوم لكنها لا تحقق شيئا، والمطلوب اليوم أن يعتصم المتظاهرون في أماكن عامة ليلا ونهارا حتى يرتفع الحصار الظالم، ويتم قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة البغي الصهيوني.
فإن فرقت قوى القمع المتظاهرين عادوا في اليوم الموالي. وأقل الممكن إضراب صامت عن العمل بحيث يبقى موظفو القطاع العام في بيوتهم، فليس في وسع القوى القمعية أن تسير دوريات في كل بيت بالقاهرة أو عمان أو غيرها.
لقد اعتصم اللبنانيون شهورا في الشوارع من أجل تغيير سياسي، أفلا يستحق الشهداء والأيتام والأرامل في غزة من الشعوب العربية اعتصاما في الشوارع لبضعة أيام؟
إن تبني هذه الخطوات العملية بالتوازي سيغير قواعد اللعبة، وينقل المعركة إلى حيث ينبغي أن تكون. أما القبول بإدارة الصراع من داخل الطوق الذي ضربه العدو فهو عبث واستنزاف للذات.
وإذا كان العدو مطمئنا إلى أنه سيستمر في مذبحته دون رادع، فإن الشعوب العربية الأبية حَرية أن تقلب السحر على الساحر بضربات وتحركات ومناورات لم تكن في حسبان العدو والمتواطئين معه.
إن ذرف الدموع على شهداء غزة وإصدار بيانات الإدانة والشجب والتنديد شأن الحكام العجزة الذين يريدون التغطية على سَوآتهم. أما أبناء الأمة النبلاء فشأنهم غير ذلك، وما هم بحاجة إلى الانتظار ولا البكاء. فلا تضيعوا الفرصة أيها النبلاء، فهذا وقت صياغة المصير وصناعة التاريخ والمواجهة الكبرى الحاسمة.
الموضوع : محرقة غزة... فرصة للمواجهة الكبرى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya