وفي حالة ما إذا كانت الأرض تصطبغ بصفة القداسة، فلا يملك أن يتنازل عنها أحد ألبتة، ولا الأمة كلها، دع عنك سكان الأرض المحتلة؛ لأنه حينئذ سيكون حقا لله تعالى، مسئولا عنه، وهذا ينطبق على فلسطين، فلا يحل لأحد مهما كان التنازل عن شبر منها.
والمراقب لسير المفاوضات، وتضمنها قبولا بدولة فلسطينية على جزء من الأرض، مع الاعتراف بشرعية الاحتلال، بالاعتراف بدولة إسرائيل. يعلم أن هذا ليس بتحرير، بل تكريس وترسيخ لكيان غاصب. فموقف المفاوضين ليس مرحليا، دفع إليه الضرورة، وهي تقدر بقدرها، كلا، بل إيمانهم أنه حل نهائي مطلق، يترتب عليه: أن كل مقاومة ومحاولة لتحرير باقي الأرض، سيُعدّ خروجا عن الشرعية، وعلى القانون. وسيكون المقاوم المجاهد، الذي هو صاحب الحق، متمردا انفصاليا إرهابيا، خارجا عن القانون.
هذه هي لغة المفاوضات ونتائجها، وما كان يدور ببال الذين ذهبوا إلى مدريد، أن كل الوعود الإسرائيلية ستذهب أدراج الرياح، ولو علموا لربما تجافوا كل اتفاقية مبناها المفاوضات، فالمفاوض المحتل يتكلم من منطق القوة، والمفاوض الذي وقع عليه الاحتلال يتكلم بمنطق الاستجداء والضعف. ولو أن المؤمنين بطريق التسوية والمفاوضات حلا للمشكلة، قالوا: نحن اجتهدنا، ونرك للمقاومين وما تصدوا له، فهم يسيرون على خط أصيل، لا يعرف غيره – في التاريخ - طريقا للتحرير: لهان الأمر. لكن فريقا منهم ذهب إلى تجريم المقاومة، وتحميلها كل خزايا وبلايا اليهود الصهاينة، فبدؤوا بتتبع كل ما يظنونه خطأ ارتكبته المقاومة، حتى بعد بدء الحرب على غزة.. تركوا قتل اليهود لغزة، وسلطوا النظر على أداء المقاومة.. وهذه إعانة للمحتل، الذي انتعش بهذا الموقف، وأرضاه كثيرا، حتى صار يستدل به ويستشهد على كل من انتقد عدوانه..!!.
والعجيب أن أهل غزة كافتهم، هم مع المقاومة، حتى هذه اللحظة، بعدما يقارب الأسبوعين، لم نر ولم نسمع أحدا منهم، أو غيرهم من فلسطين: متذمرين، يحمّلون المقاومة وحماس بالأخص، جريرة ما حل بهم، إنما يحمّلون ذلك المحتل وحده، ومَنْ وراءه. فأصحاب القضية المعنيون راضون بالمقاومة، يفاخرون بأعمالها، فهؤلاء ما شأنهم إذن، هل هم أعلم بعلة الحرب من أهلها ؟.
شيء مريب حقا، أن توجه سهام الإدانة الشديدة، مع التهكم والشماتة، من فريق محسوب على المسلمين، على من حمل على عاتقه تحرير الأرض المقدسة، وأبقى في الأمة بارقة أمل لعزة آتية..!!..
قد عرفنا أن المفاوضات ليست طريقا للتحرير، فلم يبق إلا المقاومة والجهاد، خصوصا إذا تذكرنا ما يعامل به الصهاينة أهل غزة والضفة.. لا أحد يفرح بقتل ولا مقتول، ولا يحب منظر الخراب والدمار والأطفال والضعفاء. لكن إذا كان هذا موتا مباشرا، فهناك موتات أخرى بطيئة، خسيسة، فالحصار الذي كان ضرب على غزة، كل العالم شاهد آثاره، ولم يخف على أحد. وإذا كنت أمام عدو محتل، يغير الملة، ويستبيح الحرمة، ويدنس الأرض المقدسة، ويذل العباد، وينهب الثروات، ويفسد في البر والبحر والجو، ويدوس كرامة الإنسان، وأنت تعيش كل ذلك، ستقول: باطن الأرض خير ظاهرها. وأن أموت مرفوع الرأس أحسن من الموت ذليلا. فالموت واحد، والآجال مكتوبة، والأقدار معلومة.
والله شرع الجهاد، وهو يعلم أن عباده المؤمنين مقتولون، وأطفالهم، وشيوخهم، وأن البلاد تتعرض للخراب، لكن إذا لم تكن إلا الأسنة مركبا، فما حيلة المضطر إلا ركوبها. فما كانت هذه المآسي والمآلات مانعة من تشريع الجهاد؛ لأنه لا وسيلة لتأديب المجرم إلا جهاده:
- {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا}.
فمن يلوم المقاومة، هو يريد الإبقاء على الذلة والمهانة، وإفساد الدين والأرض.
لكن إذا كان العدو غاشما، لا يردعه شيء، فليس من الحكمة استفزازه، فالنتائج كارثة. وهذا منطق صالح، فيما إذا لم تكن للمسلمين قوة تقارع، وتؤذي وتؤلم العدو، هنا يؤمر المسلمون بالكف.
أما إذا كانت للمؤمنين قوة، فقد وجب الجهاد، ولا تشترط أن تكون مكافئة، بل المستطاع منها:
- {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم..}.
فلا تشترط قوة مكافئة، ولا عدد مكافئ، بل يجوز للمسلمين الدخول في حرب مع ضعفهم عددا:
- {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله..}.
وعلى هذا الأساس انطلقت معارك الإسلام، منذ عهد النبوة، حتى الفتوحات. إذن ما يفعله المجاهدون في غزة، عين ما فعله أسلافهم في جهادهم.
بهذا نظن أنه قد أتينا بالجواب على من اتهم المقاومة. لكن فضل من الكلام الإيضاح التالي:
أن إسرائيل إن كانت لتغدر بغزة، بحرب شاملة، بقصد القضاء على المقاومة، عاجلا أو آجلا، سواء ألغت المقاومة الهدنة أو لم تفعل، وهذا ليس بجديد على هذا المحتل. فالتبييت كان واضحا، حتى من قبل إعلان إلغاء التهدئة، من تحركات إسرائيلية في كل اتجاه سياسي وإعلامي، لحشد الدعم ضد حماس. وابتداء الحرب بطاقة عالية، تدل على استعداد مبكر وتام، وبعلم من دول متواطئة في الغزو.
وكل الإعلاميين والسياسيين يدركون أنها ليست بحاجة لذريعة للغزو، وقد دللت على ذلك مرارا، وكانوا يعلمون ما تبيت له، ومن هؤلاء – بلا شك – الذين ألقوا باللوم على حماس، واتهموا المقاومة بكل ما هو ممكن من التهم والنقائص، كانوا يعلمون بكل هذه النوايا. فلم أداروا ظهورهم لهذه الحقيقة، وأقبلوا توبيخا ونقدا على المقاومة، وكأنهم آخر من يعلم ؟!!!.
إن المقاومة عثرة في طريق التسوية الشاملة الأبدية، التي تعني صراحة شرعية الاحتلال، والاعتراف بحقه في فلسطين، لذا فكل من آمن بهذه التسوية، هو لا يحب المقاومة ولا المقاومين، فوجب إسقاطها بكل وسيلة، وهذا يفسر التواطؤ مع إسرائيل في قيامها بهذه المهمة.
لكن الذي يبدو – حتى الآن – فشلها في مهمتها، على الصعيد العسكري، فحماس والفصائل لا زالت تقاوم بضراوة، وقياداتها في أمان. وعلى الصعيد الإعلامي، فلم تنجح وسائل التشويه في زعزعة الثقة بالمقاومة، لا في الداخل ولا في الخارج، بل التعاطف معها يزداد يوما بعد يوم.
الموضوع : معادلة المقاومة (= حماس والفصائل) المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya