لم أكن قد وعيت للدنيا في صبيحة الخامس من يونيو 1967م يوم أن استيقظت الأمة العربية بأكملها على مشهد السقوط المشين بين أنياب النكسة بمرارتها القاتلة وصدمتها المروعة . وبعدها بسنوات استطاع كثيرون ممن عايشوا النكسة أن ينقلوا لنا بمداد أقلامهم كؤوس المرارة التي تجرعتها الأمة وعايشتها يومها . واليوم وبعد هذا العدوان الغاشم على شعب غزة منذ ظهيرة السبت 27- ديسمبر – 2008م – أي بعد أربعين عاما تقريبا على النكسة يبرز للأذهان سؤالا : هل اختلفت أوضاع الأمة كثيرا عما كانت عام 1967م ؟ مقولة وقصيدة
ولقد شعرتُ - فيما بعد - بمرارة هزيمة 1967م و بكل ما شعر به من عايشها من مقولةٍ وقصيدة . أما المقولة فهي ما قاله الكاتب المصري أنيس منصور الذي لخص كل مرارات تلك النكسة في سطر بسيط إلا أنه يعكس حجم ما عانته الأمة يومها إذ أرخ الرجل يقول : " لم يعرف الذل والهوان من لم يعش سنة 1967م . وأما القصيدة فهي قصيدة "هوامش على دفتر النكسة " للشاعر نزار قباني , تلك القصيدة التي شخصت ولخصت أسباب هزيمة نكسة الأمة عام 1967م تشخيصا صادقا منذ أربعين سنة , ولكن وبعد مرور كل هذه السنين هل تغير هذا الواقع العربي البئيس عما كان عليه سنة 1967م؟
هزيمة العار و قصيدة نزار
اليوم ونحن في بدايات 2009م , ونحن نتابع على الهواء مباشرة ما يحدث في غزة , و بعد مرور أكثر من أربعين عاما على هزيمة العار و قصيدة نزار أستطيع أن أجزم بأن الأمة لم تتغير بل بقيت على حالها : نفس العلل , نفس الأمراض , نفس الأخطاء , نفس التفكير , ونفس العقليات بل وبقيت فيها كل مقومات الأمة المهزومة فينا كما كانت الأمورعليه قبل وأثناء هزيمة عام 67م .
الفأر و المصيدة
فلقد أثبت هذا العدوان الغاشم على غزة أننا أمة ليس لها تاريخ . أمة لم تستفد من التجارب والخبرات التي مرت بها عبر السنين . فمن المعروف أن الإنسان – كما يقول العلماء - حيوان له تاريخ . بمعنى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي من المفترض أن يستفيد من كل التاريخ والخبرات والتجارب والأحداث التي تمر به . أما إذا لم يتحل بهذه الخاصية وتخلى عنها ولم يستفد من تاريخه فإنما يتخلى عن أخص ما يميزه عن غيره من المخلوقات . انظر- مثلا - إلى الفأر, فهو ومنذ آلاف السنين يقع في المصيدة بطريقة واحدة لم تتغير!! . ومع ذلك لم تتعلم الفئران الدرس ولم تستفد مما يمر بها من تاريخ و تجارب!!. والسؤال هو : لماذا ؟! لماذا يقع الفار في المصيدة كل يوم بطريقة واحدة منذ مئات السنين ؟! لأن الفار حيوان ليس له تاريخ . وليس له استعداد أن يستفد من تاريخه وما يمر به من تجارب وهنا يكمن الفرق .
لو لم ندفنِ الوحدةَ في الترابْ !
فأنت إذا ما قرأت قصيدة نزار"هوامش على دفتر النكسة " والتي جسدت بعض أسباب نكسة 1967م . فلن تجد اختلافا يذكر بين وضع الأمة في يونيو 67وبين وضعها اليوم في يناير 2009م . إقرأ معي ما قاله الشاعر عقب النكسة إذ كتب يقول :
لو أننا لم ندفنِ الوحدةَ في الترابْ
لو لم نمزّقْ جسمَها الطَّريَّ بالحرابْ
لو بقيتْ في داخلِ العيونِ والأهدابْ
لما استباحتْ لحمَنا الكلابْ..
واليوم وبعد مرور كل هذه السنين هل تغير هذا الواقع الأليم ؟ هل تجمع بلادنا وحدة من أي نوع ؟ هل تعلم العرب الدرس حتى من تلك القصص التي يعلمونها لأطفالهم , ويصدعون رؤوسهم بها , وبأن في الاتحاد قوة وفي التفرق ضعف ؟ هل تعلم العرب ؟ هل تغير العرب ؟ لم نتغير لذلك ستظل الهزائم تلاحقنا ما لم تكن هناك وحدة إسلامية حقيقية , وحدة تذوب فيها فوضى هذه القوميات العربية الحادة التي تسيطر على بلاد أمتنا . وحدة نتخلص فيها من ثقافة " أنا " إلى ثقافة " نحن " . وحدة تجعلنا متكاملين وقت المنحة , أشداء وقت المحنة .
نمدحُ كالضفادعِ
ولقد وضع الشاعر يده على واحدة من أكبر أسباب هزائم الأمم كبوات الشعوب يومها حيث قال :
نمدحُ كالضفادعِ
نشتمُ كالضفادعِ
نجعلُ من أقزامنا أبطالا..
نجعلُ من أشرافنا أنذالا..
واليوم هل تغير هذا الواقع ؟ هل ما نراهم من تأليه لبعض حكامنا في وسائل إعلامنا وعلى منابر مساجدنا وفي مناهج مدارسنا تغير قيد أنملة عما كان عليه إبان النكسة ؟ لم يتغير !!, لذلك ستظل الهزائم تلاحقنا ما دمنا مُصرِّين على أن نجعل من أقزامنا أبطالا , وما دمنا مُصرِّين على تهميش أشراف الأمة من العلماء والدعاة , والمبدعين , والصالحين , والمصلحين, والمخلصين تهميشا مقيتا . نتج عن هذا التهميش التهميش الأكبر في حياة الأمة , ألا وهو تهميش الدين وفصله عن واقع حياة عباد الله في بلاد الله مما ذاد في قتامة المشهد وعمق الجراح .
الخوف الشجاع
ولقد لمست القصيدة - أيضا - إحدى العلل والتي كانت أحد أكبر أسباب هزيمة يونيو 1967م ألا وهي ممارسة الأمة لرذيلة الهمس الخفي . لقد خسرنا وتخلفنا مرات ومرات لأن شعوبنا تربت على ألا تتكلم !! , تربت على رذيلة الخوف الشجاع !!, تربت على السكوت بحجة أنه القائد الملهم يرى ما لا نرى !! . ويعلم ما لا نعلم !!. بحجة أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة !!, وبهذه الحجة وتحت هذه الشعارات والادعاءات استبيح في بلادنا كل شيء !!. وخسرنا كل شيء . فمنذ أربعين سنة قال نزار:
يا سيّدي..
يا سيّدي السلطانْ
لقد خسرتَ الحربَ مرتينْ
لأنَّ نصفَ شعبنا.. ليسَ لهُ لسانْ
ما قيمةُ الشعبِ الذي ليسَ لهُ لسانْ؟
لأنَّ نصفَ شعبنا..
محاصرٌ كالنملِ والجرذانْ..
في داخلِ الجدرانْ ..
حقا ما قيمة الشعب الذي ليس له لسان ؟ وما قيمة أن نعيش حياتنا محاصرين كالنمل والجرذان ؟
إن كل الدلائل التاريخية تؤكد لنا أن أي شعب إن لم يستفد من خبراته وتجاربه السابقة ستظل تتنزل عليه لعنات الهزائم والنكبات ما لم يتعلم من تاريخه , وما لم يقرر في حسم واضح الإقلاع عن التحلي بثقافة الفئران .