معنى الانتصار:
عام 2003 في شهر مارس، الشهر الذي تتفتح فيه الزهور وتبدأ الحياة، كانت فتاة اسمها راشيل كوري، عزلاءَ إلا من (جاكتة) برتقالية اللون (العلامة المميزة لناشطي السلام)، كانت تقف متحدية أمام الجرافة المدرعة وسائقها المسلح، كانت تحاول منع الجرافة من هدم بيت أرملة فلسطينية، ولم يستغرق الأمر لحظات إلا والجرافة تزحف إلى الأمام ثم إلى الخلف فوق جسد راشيل.
مَن المنتصِر في هذه الحالة؟.. بالتأكيد ليس الجيش اليهودي الذي كانت الجرافة المدرعة وسائقها المسلح يرمزان لقوته، لقد اضطر الجيش اليهودي لكي يخفف من آثار هزيمته المعنوية أمام الرأي العالمي أن يُعلن أسفه للحادث، ويَعِد بأنه سيُجري تحقيقًا حوله، وأعلن بعد ثلاثة أشهر أن الحادث عرضي.
كانت هولندا مطمئنة إلى حيادها في الحرب العالمية الثانية حين فوجئت على غِرّة، بهجوم الجيش الألماني قبل فجر يوم 10 مايو 1940، كان التوازن ظاهر الاختلال بين الطرفين، مثلاً كان الجيش الألماني يتقدم بسبعمائة وخمسين دبابة، وتواجهه هولندا بدبابة واحدة وصدور الهولنديين الذين صمموا على المقاومة اليائسة، كان هتلر يعتقد أن هولندا سوف تستسلم خلال يوم واحد، ولكن المقاومة البطولية للهولنديين وتضحياتهم الجسيمة، حتى بعد أن يئسوا من نجدة بريطانيا وفرنسا، هي السبب في أن الجنرال الهولندي ونكلمان winkelman لم يوقِّع وثيقة الاستسلام إلا في يوم 17 مايو 1940م، بعد أن دُمِّرت روتردام تمامًا، وقُتِل ثلاثون ألفًا من المدنيين، وكان التهديد بالمصير نفسِه لأمستردام ولاهاي.
لم يكن انتصار هولندا يوم انتهى الاحتلال الألماني بعد خمس سنوات، بل كان انتصارُها الحقيقي: المقاومة اليائسة والتضحيات البطولية، وبذل الحياة لربع مليون من المواطنين خلال مدة الاحتلال.
كانت قلعة برست (بيلاروس) تقع على الحدود التي رُسمت بموجب الملحق السري لمعاهدة "مولوتوف- روبنترب" بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا، والتي تلاها مباشرة غزو البلدين لبولندا، واقتسامها بينهما، وفي 22 يونيو 1941 بوغتت القلعة بهجوم الألمان، وكان على حرّاس القلعة السوفيت أن يختاروا إما الاستسلام أو المقاومة اليائسة لجيش يبلغ تعداده عشرة أمثالهم، وقد اختاروا الثاني فقاتلوا حتى آخر دقيقة رغم الحصار الطويل، وانقطاع صلتهم بالخارج، وشُحِّ الطعام، ونفاذ الذخيرة، وحتى بعد استيلاء الألمان على القلعة وهي ركام من الأنقاض ظل البقية الناجون من حراسها يقاتلون الألمان من تحت الأرض، ويكبدونهم خسائر فادحة.
وقد مُنِحت القلعة لقب "القلعة البطلة"، ويكافئ هذا لقب "جورود جيروي" اللقب الشرفي الذي يمنحه السوفيت للمدن التي تميزت ببطولات نادرة.
بالرغم من أن الغلبة الظاهرة للقوة المادية في الحالات الثلاث فإن الانتصار الحقيقي كان للقيم والمبادئ؛ مبدأ الدفاع عن المظلوم في الحالة الأولى، وقضية الوطنية في الحالتين الأخريين.
في حياة مختلف الشعوب، وفي مختلف العصور، توجد دائمًا حالات مشابهة، حيث تكون الغلبة المادية للقوة، ويكون النصر للقضية، وإنما انتقَيْتُ الحالات الثلاث؛ لأنها حظيت بالسمعة والإعلام، حتى أصبحت معروفة للكثير، وظلت قصصًا يُضرَب بها المثل.
في القرآن الكريم:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)) [الصف:14].
((فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:52].
((رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أََََََََََََََََنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) [آل عمران:53].
((وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) [آل عمران:54].
(( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) [آل عمران:55].
يحتمل ظاهر اللفظ في الآيات الكريمة معنيين؛ أن يكون المقصود بمتبعي المسيح: مَن اتبعوه في عصره، ويكون المعنى حينئذ أن الظهور والغلبة والفوقية لقضيتهم الإيمانية إلى يوم القيامة.
أو أن يكون المقصود الأتباع الحقيقيين لدين المسيح (دينِ الرسل جميعًا) في كل عصر وفي كل مكان.
فإذا تخلف السلطان المادي والغلبة المادية عن أهل الحق، أو لم نجد في التاريخ المكتوب ما يكشف أن المؤمنين بدين المسيح في عصره كان لهم السلطان والظهور، عرفنا أن المقصود بالظهور والفوقية والغلبة هو الانتصار المعنوي الذي لا يمكن أن يتخلف.
وقد لحظ هذا المعنى سيد قطب رحمه الله عند تفسيره "في ظلال القرآن" الآية الكريمة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)) [البقرة: 214]. فقال رحمه الله: (على أنه حتى إذا لم يقع هذا "يعني الغلبة المادية" يقع ما هو أعظم منه في حقيقته، يقع في أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنها، وأن تنطلق من إسار الحصول على الدعة والراحة والحرص على الحياة نفسها في النهاية، وهذا الانطلاق كسْبٌ للبشرية كلِّها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء، كسب يرْجَحْ جميعَ الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون المؤتمَنون على راية الله وأمانته وشرعه، وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف، وهذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل، هذا هو الطريق: إيمان وجهاد ومحنة وابتلاء وصبر وثبات وتوجه إلى الله وحده، ثم يجيء النصر، ثم يجيء النعيم).
ولا بد أن سيد قطب كان يلحظ في هذا المعنى الآيات الكريمة من سورة آل عمران( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)) [آل عمران:169-171].
((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)) [آل عمران: 195].
وجاء بعدها: ((لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ ))[آل عمران:196].
الموضوع : انتصار الإسلام المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya