لا أريد بداية بهذه الكلمات أن أصدر بياناً مستقلًّا، فلست إلى هذا الشأن أو ما يدانيه أصل.
وأؤكد بداية أني لا أقلل من شأن البيانات والتصريحات التي صدرت عن فاجعة غزو غزة، فلست عن أهمية هذا أغفل.
ولا أقصد أن استكثر على أهل غزة أي جهد من القول وإن كان بنصف كلمة، ومن البذل ولو كان بشق ثمرة.
ولكن - ودعوني أقول (ولكن) - أريد لفت الانتباه إلى أننا في أكثر بياناتنا لمعظم ما يصيبنا؛ نصر على حرث البحر، وزرع الهواء، وتلقيح القبور ببذور الزهور، وذلك بتجاهل حقائق ما وراء المواقف، وتجاوزالحكم عليها وبيان الموقف العلمي الشرعي المطلوب فيها، وتعالوا نتأمل في ردود أفعالنا تجاه النوازل المتتابعة التي تعد البيانات الصادرة عن النخب العلمية والفكرية والدعوية أبرز صورها وأقوى صدى لها، لما تمثله من خلاصة رأي الخاصة، التي على العامة أن يأخذوا بها ويتحركوا على وفقها.
وأتجاوز هنا الحديث عن بيانات الهيئات والشخصيات والاتجاهات العلمانية، رسمية كانت أو شعبية، قاصدًا البيانات الصادرة عن فعالياتنا الإسلامية.
ولنأخذ النازلة الأخيرة في غزة نموذجًا، سواء طوال مدة الحصار، أو ما تلاها من فتح بوابات الجحيم والنار على إخواننا الصامدين:
× فأكثر بياناتنا منذ بدأ الحصار، تطالب وتناشد (المنظمات الدولية)، بأن تطبق مقررات العدل، وتراعي قيم الإنسانية، وتتدخل لإنهاء هذه المأساة، مع علمنا أنهم لا يسمعوننا، ولو سمعوا ما استجابوا لنا! وتدل على ذلك عشرات إن لم تكن مئات المرات التي جرى فيها بيننا وبينهم حوار الطرشان دون إسماع أو إفهام!
× ومعظم البيانات والنداءات منذ بدأ الحصار، تناشد (الأنظمة العربية) أن تدخل "بكل ثقلها" لرفع المعاناة عن إخواننا، ونحن نعلم أن أكثر تلك الأنظمة كانت مشارِكة مشارَكة منظمة في صنع هذه الحالة، بوضع غزة تحت وطأة الحصار، توطئة لإدخالها تحت خط النار، والهدف إخراج حماس من المعادلة، لأن أجندتها لم تعد مناسبة لطريق الاعتراف والتطبيع الذي تتوجه إليه معظم تلك الأنظمة.
× ولم تخل بياناتنا طيلة مدة الحصار؛ من "مناشدة" الحكومة المصرية، بأن تتجمل وتتكرم، وتستجيب للنداء والرجاء والاستجداء، بفتح كوة التنفس من بوابة رفح، مع أن كثيرًا من الموقعين على البيانات التي صدرت سابقًا ولاحقًا يعرفون أن مصر الرسمية في حرب مع الاتجاهات الإسلامية ولو كانت سلمية في مصر والعالم منذ عقود طويلة، ولذلك كان بدهيًّا أن نتوقع استمرار الحصار مضروبًا حتى يحقق هدفه، وهو إسقاط حكومة حماس الجهادية بصيغتها الإخوانية التي ما يزال النظام المصري منهمكًا في حرب مفتوحة مع شقيقتها المصرية رغم سلمية طريقتها ومدنية نشاطها!
× وكل بياناتنا بشأن محنة إخواننا، كانت تنادي ولا تزال تطالب (الإخوة الفرقاء) بالالتقاء، ونسيان الخلافات وتوحيد الطروحات، مع يقيننا بأن الخلاف بين زعماء الفريقين خلاف تضاد منهجي، لا تنوع حركي، ومع علمنا بأن طريقي الإيمان والنفاق لا يلتقيان، وأن الأمانة والخيانة نقيضان لا يمتزجان، وأن صيغة الوحدة الوحيدة المقبولة لدى الأنظمة مصريًّا وفلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا، هي أن تركع حماس ومعها قيم الإيمان، لتخضع لسلطة عباس ولي الأمريكان، وأن تظل الرايات العلمانية هي المرفوعة مرفرفة إلى جوار رايات الدولة الصهيونية اليهودية.
لهذا قلت وأقول: تبقى أمور من (البيان) ينبغي أن يراعيها ولا يتجاهل معانيها أي بيان أو تصريح أو فتوى أو تحرك يصدر عن خواص الأمة بشأن نوازل المسلمين حاضرًا أو مستقبلًا، وهي الأمور والقضايا التي تقف خلف المواقف والنوايا المعلنة من الأطراف في كل أزمة، ولا شك أن استكشاف ذلك ثم كشفه مهم، وهو ليس من الأمور المعضلة أو الخفايا الغامضة، بحيث نساهم بسكوتنا عنه أو تجاهلنا له في تحقيق مآرب المخططين، وتغطية سوءات المتآمرين؟ لا يكفي في الأحداث الكبيرة أن يعرف الناس تسلسلها والجديد فيها، بل الأهم من ذلك أن يعرفوا حقيقة ما أدى إليها وما يتوقع من ورائها، وهذه وظيفة الخواص في اقتناص لحظة الحدث لتحقيق (استفاضة البيان) بشأن القضايا التي تتوه في التفاصيل أويطويها النسيان.
إن ما يسمى – مثلًا – (بالنظام الدولي) والذي أجهدنا أنفسنا في مناشدته "بالضغط " لرفع الحصار ثم السعي لوقف العدوان، هو بالضبط من أسبغ على ذلك الحصار ثم ذاك العدوان صبغة "الشرعية الدولية " تمامًا كما فعل في حصار العراق ثم العدوان عليه، وحصار أفغانستان ثم العدوان عليها، والحصارات التي فرضت ويمكن أن تفرض على بلاد أخرى إسلامية تمهيدًا للعدوان عليها، مثل السودان أو الصومال أو غيرها من شعوبنا الإسلامية المتربص بها لأهداف استكبارية، كما أن ذلك النظام الدولي هو الذى أعطى شرعيته الدولية منذ ست عقود لوجود الدولة الصهيونية المعتدية على أرضنا الإسلامية، إضافة إلى ذلك فإن (المجتمع) الدولي الرسمي تحت ذاك النظام هو الذي اجتمع مع أمريكا في حربها العالمية ضد المسلمين المقاومين للعدوان، باسم الحرب على (الإرهاب) التي كان ولابد أن تشمل منظمة حماس وفقًا للتصنيف الأمريكي، والتصفيق العربي.
× وإن ما يعرف (بالنظام العربي) في معظم دوله، كان من البدهي أن نفهم بأنه شريك رسمي معلن لأمريكا في حربها ضد ذلك "الإرهاب" المدعَى، فكان من غير المتوقع أن يرفع ذلك النظام حصارًا فرضته الحليفة الكبرى – أمريكا ـ لأن المحاصرين ليسوا فقط "حركة إرهابية" كما تصنفها الحكومة الأمريكية، ولكن "حكومة إرهابية" كما وصفتها الحكومة الصهيونية، وتبعتها منظمة "التحرير" الفلسطينية!
× وكذلك فإن (النظام المصري) الذي لم يسمح لجماعة الإخوان المسلمين "المسالمة" في مصر بالمشروعية عبر أكثر من نصف قرن مع تسميته لها (بالجماعة المنحلة) في عهوده المتتالية؛ لم يكن ليسمح - كما قال مسئول رفيع في النظام – (بإمارة إسلامية) على حدود مصر، مع أن ذلك النظام وغيره رضوا واعترفوا وطبعوا مع دولة همجية عنصرية توسعية على حدود أربع دول عربية، مع علم الجميع بأنها تستهدف ما تحت كراسيهم، وما فوق عروشهم في خططها المعلنة المستقبلية!
× وهكذا أيضًا – يا موقعون - كيف تتوقعون بل كيف تطالبون في بياناتكم بمزج المنهج العلماني الوضيع، بمنهج الإسلام السامي الرفيع، عن طريق مناشدة الإسلاميين في فلسطين أن يكونوا صفًّا (واحدًا) مع العلمانيين الخائنين للوطن والدين؟ ومتى حدث في التاريخ أن يكون المنافقون والمؤمنون بعضهم أولياء بعض؟!
× ثم إننا نتوهم ونوهم الأخرين، ونظل نتوقع ونوقع الآخرين في تحقق خرافة دعم الأنظمة للحركات المقاومة، ففي كل نازلة ترتفع الأصوات في البيانات والمؤتمرات والندوات منادية تلك الحكومات بإعلان الجهاد، ودعم حركات المقاومة في العالمين العربي والإسلامي، ومدها بما تحتاج إليه من مال وعتاد، مع ضرورة تحريك الجيوش التي تتسلح بالمليارات من ميزانيات قوت أطفالنا، وأدوية مرضانا، ومشاريع تشغيل شبابنا العاطل ومرافقنا المهملة.
نطالب بذلك كل مرة مع تأكدنا بأن تلك الجيوش لم تعد لها وظيفة إلا حماية العروش، ومع يقيننا بأن الدور المناط بمعظم تلك الحكومات هو مقاومة المقاومة، حتى تبقى تلك الأنظمة وحلفاؤها سالمة.
× وأيضًا فإننا نسرف في التعويل على الصراخ والعويل في مظاهراتنا ومسيراتنا (السلمية)، تحت وقع الضربات (الحربية) التي تفتك بالآلاف من المدنيين قبل العسكريين، مطالبين بتدخل الزعماء دعمًا لتحرك الشعوب؛ مع أننا لم نر في أزمة من أزماتنا أن تظاهرات المحتجين وحدها؛ أعادت حقًّا، أو أرجعت أرضًا أو تبعتها مناصرة الرسميين، مدنيين أو عسكريين، خاصة في بلاد المسلمين، ولكن العسكر لو تحركوا، فلقمع المحتجين وتفريق المتظاهرين، أو على الأقل انتظارهم حتى يقضوا وطرهم وينفسوا احتقانهم ثم ينصرفوا "راشدين"!!