الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
أما بعد،
فبعد بضع وعشرين يومًا من حرب يهود السافرة على
المسلمين في قطاع غزة، وما رافق ذلك من قتل ودمار هائلَين على النحو الذي
نرى ونسمع على الشاشات، فها هي بوادر سكوت متقطع لأزيز الطائرات، وتراجع
-على استحياء- لجنود اليهود، وخفوت لصوت المدافع والطلقات، بإعلان وقف
لإطلاق النار من اليهود، أعقبه إعلان متبادل بوقف الهجمات من جانب جُلّ
فصائل المقاومة الفلسطينية، وإن وُصفت تلك الهدنة -إن صح التعبير- بأنها
هشة -على الأقل حتى كتابة هذه السطور-، وأيضًا لغدر اليهود المعهود فإنها
تشير إلى اتجاه لنهاية هذه الحرب، ووضع أوزارها، لكن:
وإن وضعت الحرب أوزارها:
فمع حبنا لحقن دماء المسلمين، ورفع البلاء عنهم؛ فإنها ليست نهاية المطاف؛
فالمعركة الفاصلة لم تحن بعد مع يهود؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ تَقُومُ
السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ
الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ
وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ
اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ. إِلاَّ
الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ).
وبغضنا ليهود قبل أن يكون لاغتصابهم الأرض وهتكهم
العرض، وسفكهم الدماء؛ فهو لكفرهم بالله -عز وجل-، ونسبهم صفات النقص له
-تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا-، ومعاداتهم الحق وعدم قبولهم به،
وتكذيبهم وإيذائهم وقتلهم الأنبياء.
معاداتنا ليهود عَقدِيّة دائمة، كغيرهم من الكافرين
-نصارى كانوا أو ملحدين أو وثنيين-، دائمة حتى يراجعوا دينهم، ويسلموا
وجوههم لله، فإن فعلوا صاروا إخواننا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، نحبهم
ونواليهم وننصرهم (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ
الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ
الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(التوبة:11).
فلا يَغترنَّ مُغتَرٌ أن
الصراع على سلطة أو أرض أو ثروة، فضلاً أن يكون على سلام!
فإن كان الصراع عقدي، فلا يقوم به إلا أصحاب
العقيدة.
وإن وضعت الحرب أوزارها: وكفّ المسلمون أيديهم عن
يهود؛ فلن يكفـُّوا هم أيديهم عن المسلمين؛ لأن عقيدتهم الباطلة تحثهم على
بغضنا وحربنا بشتى الصور، بل قيام دولتهم عندهم مُرتَهِن بزوال الإسلام
والمسلمين، والكل عند يهود يصدر عن عقيدة، ويتحرك بدوافع إيمان.
ففي الوقت الذي نـُعلـِّم فيه أبناءنا الحساب
والعدَّ على الفاكهة والطيور والحيوان -مثلاً-؛ فإن المعلمة اليهودية تعلم
طلابها الحساب بمثال كهذا: "قتل زميلك خمسة مسلمين، وقتلت عشرة، فبكم تفوقت
على زميلك؟!".
ويخطئ
أيضًا من يختزل الصراع مع يهود في أشخاص أو أحزاب، فالحمائم عندهم صقور،
فما بالك بالصقور كيف يكونون؟! و"نتنياهو" و"شارون" و"باراك" و"أولمرت"
وغيرهم؛ كلهم وجه واحد لعملة واحدة.
وإن وضعت الحرب أوزارها:
وأسرع يهود بإعلان فرحتهم، وزعم انتصارهم، فهل انتصروا حقا؟!
أما على المستوى العسكري؛
فإنه نفق مظلم آخر -بعد حرب لبنان 2006م- دخلت فيه ولم تستطع الخروج منه
بسلام، جيش هو رابع قوة في العالم كما يزعمون يُخلـَّى بينه وبين مجموعة من
المجاهدين مُسلَّحة بأسلحة خفيفة وبدون غطاء جوي، واليهود بغطرسة يعلنون
في أول الهجوم أن أهدافهم ستتحقق بسهولة في بضعة أيام، وقد كانت أهدافهم
تتمثل في: إيقاف صواريخ المقاومة، والقضاء على حماس كسلطة وعلى رجالها
كرموز -بالقتل أو الأسر-، وتوفير الأمن للمستوطنات المتاخمة للقطاع؛ فإذا
بهم بعد ثلاثة أسابيع يستجدون الشرق والغرب على موائد الاتفاقيات؛ لتحقيق
ذات الأهدافالتي لم تأتِ بها ذراع القوة، ويُخلـِّفون وراءهم -أيضًا- عشرات
القتلى والجرحى والآليات المدمرة، وآلاف المُروَّعين في المدن والمغتصبات
الإسرائيلية التي أصابها الشلل من صواريخ المقاومة التي لم تـُواجه بنظام
للدفاع الجوي، فضلاً عن اختراق لشبكات الاتصالات الصهيونية، وكذا بعض
القنوات ومحطات الإذاعة، ومعلوم أن عجز الطرف القوي عن تحقيق النصر -حتى مع
عدم غلبة الخصم الضعيف- يـُعَد هزيمةً لذلك القوي.
وأما على الصعيد السياسي؛
فقد خرج اليهود أيضًا بخسارة كبيرة، فلم تَدُمْ طويلاً مساحيق التجميل
لصورتهم القبيحة أمام بقية العالم الذي لم يكن يعرف بعدُ مَن هم اليهود.
وأما الجبهة الداخلية؛
فحديث التصدع والانقسام حتى أثناء العمليات العسكرية بين مطرقة الاستمرار
وتحمل المزيد من الخسائر، وسندان الانسحاب بخُفَّيْ حنين.
اللهم إلا إذا كان تدمير الحرث والنسل -مع اعتبار
عدم تكافؤ القوى- يُسمَّى انتصارًا!!
وإن وضعت الحرب أوزارها:
في ميدان القتال المسلح؛ فهناك ميادين أُخَر ما زالت وستستمر الحرب فيها
مستعرة وبضراوة ربما أشد مما شهدناه في عملية "الرصاص المسكوب"، وإلا
فاليهود وأذنابهم ما انفكـُّوا يغزون المسلمين فكريًّا؛ ليُميِّعوا هـوية
الأمة، ويبثون سمومهم في الإعلام والتعليم، ويُهوِّدون الاقتصاد على
طريقتهم الربوية، ويُغرِقون الناس في المادة والشهوات، ويـُذيبون عقيدة
الولاء والبراء -الفطرية في النفوس- شيئًا فشيئًا.
وهم في حربهم تلك يستخدمون كل الوسائل والإمكانيات،
ليظفروا بشيء من أغراضهم، ولكن هيهات (يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(الصف::lol!:، وينفقون بلايين الدولارات؛ ليحققوا طرفًا من مآربهم،
وأنـَّى لهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ
تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ
إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)(الأنفال:36).
فليأخذ بنو الإسلام حذرَهم، ولا يركنوا لراحة ولا
دَعة، وليفهم كل مسلم أن المسئولية جماعية، وأن الخندق واحد، وكل على ثغر؛
فليحذر أن يـكون الخلل من قِبَله.
وإن وضعت الحرب أوزارها:
في قطاع غزة؛ فما زال المسلمون يواجهون عدوانًا غاشمًا في العراق،
وأفغانستان، والشيشان، والصومال، واضطهادًا في الهند وكشمير والصين،
وتَرَبُّصًا من الصرب في البلقان، وحملاتٍ من التنصير ما تفتأ تهدأ
لاسيَّما في إفريقية، وآسيا، وغيرها من الدول الفقيرة، إلي غير ذلك من
قائمة طويلة معروفة...
والمسلمون
في كل مكان يحتاجون -كأهل غزة- إلي مثل هذه الصور المشرقة من التضامن التي
رأيناها في الأحداث الأخيرة، دعاءً وتبرعًا وتكاتفًا ونصرةً، يحتاجون إلى
الشعور بمعنى الأخوة الإيمانية الحقـَّة، فعلينا استثمار يقظة روح "الجسد
الواحد" التي بدأت تحيَا في الأمة، فلا ينبغي أن يكون التعاطف لحظيًّا،
والشعور الوجداني عند الأزمات وفقط.
وأظن أن الدرس كان كافيًا لاستيعاب الحكام والمحكومين
لنظرية "فَرِّقْ تَسُدْ" التي يلعب على وترها "الآخر"؛ لتمزيق المسلمين،
وإشغالهم بالقوميات والعصبيات والطائفيات...، إشغال الشعوب حتى عن مجرد
تذكر فكرة الخلافة الإسلامية الكبرى التي كانت قائمة منذ عهد ليس ببعيد،
وإن كانت في آخر زمانها اعتراها من الوهن ما أثـَّر على لُبِّها وحقيقة
جوهرها، فلم يبقَ منها إلا بعض "الشكليات"، لكنْ كان من أهم فوائد وجود هذه
الخلافة الحفاظُ على هذه الروح العامة والشعورُ بأخوة الدين.
وإن وضعت الحرب أوزارها:
ودارت الأيام دورَتَها، ثم طلع علينا يومًا ما منافقٌ عليم اللسان، وإن كان
من جلدتنا، لكن يدور في فلك يهود وغير يهود، طلع علينا ليخدعنا بمعسول
الكلام، ويمنينا بالأماني الباطلة، ويـُخدِّر شعور الأمة تجاه قضاياها،
ويـُخذِّل في صفوف المسلمين، فماذا نتوقع؟!
هل سننخدع له بعدما كشفت هذه الحرب بصورة صلعاء سافرة
مَن العدو ومَن الصديق، مَن النائحة الثَّكْلى ومَن المُستأجَرة، ومَن
المناصر ومَن الخائن؟!
إن
"غزة" قبل أن تتخلى عنها حكومات العالم أو تسكت عن ظلمها؛ باعها مَن كانوا
يَلبسون ثياب "النضال الوطني"، أو يتكلمون بتفويض رسمي من الشعب الفلسطيني
-زعموا-.
وهم أنفسهم
الذين وقفوا متفرجين على المأساة بعدما دَلّـوا على عورات المجاهدين،
وجلسوا شامتين منتظرين نصر يهود؛ ليأخذوا نصيبًا من الكعكة.
الموضوع : وإن وضعت الحرب أوزارها المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya