وكانت أموال بني
النضير فيئًا خالصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخمِّسها، لأن
المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل، ولا ركاب، وخمَّس قريظة. قال مالك:« خمَّس
رسول الله قريظة، ولم يخمِّس بني النضير، لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم،
ولا ركابهم على بني النضير، كما أوجفوا على قريظة ». فقسمها صلى الله عليه
وسلم على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين، وذلك أن
المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة، وتجردوا منه كله
لعقيدتهم، وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية عالية ,
وأخوة صادقة , وإيثار عجيب. فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله صلى الله
عليه وسلم لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع الإسلامي، كي يكون للفقراء
مال خاص بهم، وكي لا يكون المال متداولاً في الأغنياء وحدهم. وقال عليه
الصلاة والسلام للأنصار:« إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم
وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم , ولم يقسم
لكم شيء من الغنيمة ». فقالوا:« بل نقسم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم
بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها ». وهذا ما تحدثت عنه السورة الكريمة في مقطعها
الثاني.
ثانيًا- بعد أن بيَّن الله عز ما حلَّ بيهود بني النضير،
وما اتصل به من بيان أسبابه، وبيان مصارف فيْئهم وفَيْء ما يُفتَح من القرى
بعد ذلك، أعقبه سبحانه وتعالى بذكر أحوال المنافقين الفاسدة مع إخوانهم من
أهل الكتاب، وتغريرهم بالوعود الكاذبة، ليعلم المسلمون أن النفاق سجيَّة
في أولئك لا يتخلون عنه، ولو في جانب قوم هم الذين يودُّون أن يظهروا على
المسلمين، فقال سبحانه وتعالى:
﴿ ألَم تَرَ
إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلا نُطِيعُ
فِيكُم أَحَدًا أَبدًا وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَاللَّهُ يَشهَدُ
إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ﴾(الحشر: 11)
والآية- كما روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما- نزلت في رهط من بني عوف، منهم عبد الله بن أُبَىِّ بن سلول، بعثوا
إلى بني النضير سرًّا، وقالوا لهم: اثبتوا في معاقلكم، فإنا معكم حيثما
تقلبت حالكم. وإنما أرادوا بذلك أن تقوى نفوسهم عسى أن يثبتوا، حتى لا يقدر
محمد عليه الصلاة والسلام عليهم، فيتم لهم بذلك مرادهم. وكانوا كاذبين
فيما قالوا من ذلك، ولذلك لم يخرجوا حين أخرج بنو النضير، بل قعدوا في
ديارهم.
والظاهر أن المراد بـ﴿ الَّذِينَ
نَافَقُوا ﴾ عموم المنافقين، وبـ﴿
إِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾ عموم
اليهود، ويدخل فيه يهود بني النضير دخولاً أوليًا، وهم الذين أخبر الله عز
وجل عنهم في الآية الثانية من السورة بقوله:﴿ هُوَ
الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن
دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾(الحشر: 2).
والهمزة في قوله تعالى:﴿ ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ هي همزة
الاستفهام دخلت على حرف النفي، فصار الكلام إثباتًا، ومعناه التنبيه
والتعجيب من حال هؤلاء. ويمكن أن يكون المخاطب على علم بمضمون هذا الخطاب
قبل نزول هذه الآية، ويجوز أن يكون لم يعلم ذلك إلاَّ من هذه الآية.
والخطاب في ذلك ونحوه، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن المراد به
العموم، إذ هو صالح لطبقات المخاطبين. والغرض منه التحريض على النظر
والحَثِّ على زيادته. وتركيب:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ﴾
يجرى في لسان العرب مجرى التنبيه، والتعجيب. ويقتضى معنى النظر المؤدي إلى
الاعتبار؛ كما في هذه الآية الكريمة، وكما في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ
﴾(الفرقان: 45).
وجملة:﴿
يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ ﴾ استئناف لبيان المُتعجَّب منه، وصيغة
المضارع للدلالة على استمرار قولهم. واللام للتبليغ. والمراد بهذه الأخوة:
إما الصداقة والموالاة. وإما التوافق في الكفر والمعصية. فـ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾ كفار،
لأنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، و﴿
الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ إخوانهم في الكفر، ولو أنهم يلبسون رداء
الإسلام، لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.
واللام في قولهم:﴿ لَئِن أُخرِجتُم ﴾ مُوَطِّئة للقسم. وجملة ﴿ لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم ﴾ جواب القسم المغني عن
جواب الشرط. وجملة ﴿ لا نُطِيعُ فِيكُم أَحَدًا ﴾
معطوفة على جملة ﴿ لَئِن أُخرِجتُم ﴾، فهي
من المَقول لا من المُقسَم عليه. ومعنى ﴿
لَنَنصُرَنَّكُم ﴾: لنعيننكم في القتال. والنصر والنصرة: العون،
يطلق على الإِعانة على المعادي.
وقد أعلم الله تعالى رسوله صلى الله
عليه وسلم بأنهم كاذبون في ذلك، بعد ما أعلمه بما أقسموا عليه تطمينًا
لخاطره، لأن الآية نزلت بعد إجْلاء بني النضير، وقبل غزو قريظة، لئلا
يتوجَّس الرسول صلى الله عليه وسلم خِيفةً من بأس المنافقين، فقال تعالى:﴿ وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ﴾.
أي: لكاذبون في مواعيدهم تلك المؤكدة بالأيمان الفاجرة. وسمَّى الله تعالى
هذا الخبر شهادة، لأنه خبر عن يقين بمنزلة الشهادة التي لا يتجازف المخبر
في شأنها.
ثالثًا- أما قوله تبارك وتعالى:﴿
لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُم
﴾(الحشر: 12) فهو بيان لما قبله، وتكذيب للمنافقين في كل واحد من
أقوالهم على التفصيل، بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال. وقد سلك في هذا
البيان طريق الإِطناب، فإن قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ
يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ﴾ جمع ما في هاتين الجملتين، فجاء
بيانه بطريقة الإِطناب لزيادة تقرير كذبهم. وهذا تأكيد من الله تعالى
لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن المنافقين لا يضرّونه شيئًا، لكيلا يعبأ بما
بلغه من مقالتهم.
وأما قوله تعالى:﴿ وَلَئِن
نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ﴾(الحشر: 12) فهذا
على سبيل الاحتمال والتقدير. والمعنى: أنه إن حدث أن المنافقين أرادوا نصر
اليهود، ﴿ لَيُوَلُّنَّ ﴾ المنافقون ﴿ الأَدبَارَ ﴾ فرارًا، ﴿
ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ﴾. أي: لا يُنْصَرُ اليهودُ بعد ذلك. فالضمير
على هذا في:﴿ لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ﴾ عائد
إلى المنافقين، وفي:﴿ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ﴾
عائد إلى اليهود، إذ الكلام جارٍ على وعد ﴿
الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ بنصر إخوانهم ﴿
الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾. والمعنى: ولئن نصر
المنافقون اليهودَ، ليولن هؤلاء المنافقون الأدبار فرارًا، ثم لا يجد
اليهود بعد ذلك من ينصرهم. والمقصود: تأييس الذين كفروا من أهل الكتاب من
النصر، وتثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وتأمينهم من بأس
أعدائهم.