أما الذي لا يعرف الله سبحانه وتعالى إلا
في وقت الشدة فحاله حال المشركين الذين إذا مسهم الضر في البحر ضل من
يدعونه إلا الله، وحينئذ يرفعون عقائرهم بالدعاء يدعون الله كحال فرعون
عندما أدركه الغرق قال: {ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنوا إسرائيل
وأنا من المسلمين ءالْآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين}، فلا بد من التعرف
إلى الله في الرخاء حتى ينال الإنسان ذلك التثبيت وذلك النصر في الشدة، لا
بد أن يكون الإنسان مع الله سبحانه وتعالى في حال النعمة إذا أنعم عليه
كان معه في حال النعمة فلم تغوه هذه النعمة ولم يطغ من أجلها، إن العبد
الذي لا يعرف الله إلا في حال مرضه وفي حال ضعفه وفي حال مسكنته وفقره،
يلجأ إلى الله فقط في تلك الأوقات لا يمكن أن ينال ذلك الفرج الذي يناله
الموحدون الصادقون الذين عرفوا الله في الرخاء فتعرف إليهم في الشدة، إن
على الإنسان منا أن يتذكر أن الله سبحانه وتعالى جعل على هذا الطريق عقبات
كثيرة، وأنها أمامه تنتظره ما لم يصبه اليوم سيصيبه غدا، وبالتالي فهو يفكر
في ثباته أمام هذه الصدمات، فإن رسول الله r قال للمرأة التي
وجدها تبكي عند قبر صبي لها: يا أمة الله اتقي الله واصبري، فقالت: إليك
عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فقيل لها: ويلك إنه رسول الله، فجاءت تعتذر
إليه وقالت يا رسول الله والله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة
الأولى، فلا بد أن يستحضر الإنسان أن الصبر عند الصدمة الأولى، ولذلك قال
علي رضي الله عنه عندما سئل عن الشجاعة؟ قيل ما الشجاعة؟ قال: صبر ساعة، أي
أن يوطن الإنسان نفسه على الصبر في مواطن اللقاء، وأن يعلم أن تلك المصائب
قد أصابت من هو خير منه، وأنها إن أصابته هو فلا ضرر، أليس نوح عليه
السلام قد صبر على المصائب والمحن والأذى ألف سنة إلا خمسين عاما، أليس
أكرم على الله منا نحن، أليس إبراهيم قد رمي به في النار، أليس محمد r قد لقي من أنواع الأذى الشيء الكثير، فقد جعل عقبة بن أبي
معيط السلى على ظهره بين كتفيه وهو ساجد لربه، وجاء هو وأبو جهل فجعلا حبلا
في عنقه، وتجاذباه وهو يصلي، حتى جاء أبو بكر فضربهما بمنكبيه وهو يقول:
أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، لقي من أنواع الأذى الشيء الكثير فلذلك لا
بد أن نعرف نحن أننا سالكون لطريقه وأننا لا بد أن نلقى بعض ما لقي، فقد
قال الله تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب
من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم
الأمور}، فلذلك لا تتوقعوا أن أمور الدين ستبقى هكذا، يجلس الإنسان مستريحا
في مسجد يسمع محاضرة مثلا ويكون بهذا من أنصار الله بهذا القدر فقط، بل لا
بد أن تتذكروا قول الله تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل
منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا
في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم}، هذه شروط رب العزة،
{ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن
الثواب}، وقد قال تعالى: {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا
يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن
الكاذبين}، فلا بد أن يستشعر الإنسان أن أمامه كثير من المحن والبلايا في
طريق الحق، وأنه مستعد للصبر والمصابرة على هذا الطريق كما قال الحكيم:
«يمثل ذو اللب في لبه** مصائبه قبل أن تنزلا** فإن نزلت بغتة لم ترعه**لما
كان في نفسه مثلا** وذو الجهل يامن أيامه** وينسى مصارع من قد خلا** فإن
دهمته صروف الزمان** ببعض مصائبه أعولا» فلا بد أن يستحضر الإنسان طريق
الذين سلكوا هذا الطريق قبله، وأنها ليست محفوفة بالورود بل هي مليئة
بالأشواك، وهذا الصراط الدنيوي الذي نسير عليه هو تمثيل للصراط الأخروي
الذي هو أرق من الشعر وأحد من السيف وعليه كلاليب كشوك السعدان يتفاوت
الناس عليه بحسب أعمالهم، ومن كان أثبت على هذا الصراط الدنيوي كان أثبت
على الصراط الأخروي، فلذلك علينا جميعا أن نحرص على تحسين علاقتنا بالله
سبحانه وتعالى، والاتصال به والتوكل عليه والتعرف عليه في الرخاء، وأن
نستحضر أن أمامنا كثيرا من المحن على هذا الطريق، وأن نوطن أنفسنا على
الصبر عند مجيء المصائب، وأن نعلم أنها ليست في أيدي المخلوقين وإنما هي في
يد الله، فالمخلوق لا يستطيع أن يرفع ضررا ولا أن ينزله إنما ذلك كله بيد
الله سبحانه وتعالى وأمره، إن هذه الحقائق التي نؤمن بها لا بد أن نجسدها
واقعيا في أعمالنا، فلا يكفي أن تقول أنا مؤمن بالقدر خيره وشره مؤمن بأنه
رفعت الأقلام وجفت الصحف حتى تأتي إلى نتيجة الإيمان بالقدر، فقد ذكر الله
القدر في آية وذكر نتيجته في آية بعدها، فقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في
الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير}،
هذا القدر، ثم قال: {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}،
هذه نتيجة الإيمان بالقدر وهي: {لكي لا تأسوا على ما فاتكم} والأسى الحزن،
{ولا تفرحوا بما آتاكم}، فإذا حقق الإنسان هذه النتيجة فعلا كان مؤمنا
بالقدر خيره وشره، أما إذا لم يحققها فسيكون مثل الذين يلهجون بقول لا
يدركون حقيقته ولا معناه، كالذي يلقن كلاما فيعيده كالببغاء، إن علينا أن
نعلم أن الذين نالوا هذه العزة بالاتصال بالله سبحانه وتعالى في المواقف
العظيمة إنما كانوا أولياء الله في حال الرخاء، وكانوا من المطيعين لأوامره
المجتنبين لنواهيه فالله سبحانه وتعالى حقق لهم الموعود لأنه علم من
قلوبهم الصدق ولذلك فلا بد أن نصدق مع الله سبحانه وتعالى في شأننا كله،
وأن نعلم أن العزة بدينه هي العزة الحقيقية فالأنساب والأحساب التي يتعزز
بها الناس كلها منقطعة ولا معنى لها، فالناس لآدم وآدم من تراب، ومن كان
يتعزز بنسب في هذه الحياة الدنيا فهي فانية قصيرة، وذلك النسب سينقطع بمجرد
النفخ في الصور، {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا
أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون}، إن التفاخر
بأنساب الدنيا ووظائفها وأحسابها لا معنى له فهو منقطع زائل في أسرع
الأوقات، ولذلك انظروا إلى الذين يدفنون في هذه الأرض فالقطع المتجاورة تجد
فيها قبر الملك وقبر السوقة وقبر الغني وقبر الفقير وقبر العالم وقبر
الجاهل، وهم سواء قبورهم جميعا سواء، قد انقطعت أخبارهم بمجرد مواراتهم في
التراب، فنعلم أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرة
من حفر النار، ولا يمكن أن يعرف ذلك من خلال ظاهره أو ما نراه فوقه، فالقبر
الذي توضع فوقه الفسيفساء وتوضع عليه الزخارف أو تغرس عليه الأشجار والقبر
الذي ليس عليه علامة سواء، فليست العبرة بظاهر الأرض بل الإنسان في
باطنها، وقد عرض عليه مصيره هنالك، {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا
يحتسبون}، إن الإنسان إذا أدرك هذا عرف أن ما يتعزز به الناس من شؤون هذه
الدنيا ليس له أثر في العزة، وعرف أن العزة الحقيقية هي عندما يبيض الله
وجهه حتى يسير في النور مسيرة خمسمائة عام، ويعطيه كتابه بيمينه تلقاء
وجهه، ويُجَوِّزه على الصراط كالبرق الخاطف، ويحول بينه وبين أعدائه بسور
له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ثم بعد ذلك يدخله جنات
النعيم، فهذا هو الفوز العظيم، وإذا ناله الإنسان فوالله لا يضره ما فاته
من أمور الدنيا، من ابيض وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأخذ كتابه بيمينه
فوالله لا يضره احتقار الناس له في الدنيا أو أنه عاش فقيرا أو عاش ضعيفا
أو محتقرا في هذه الحياة الدنيا فلا يضره ذلك، وقد بينت لكم أن أعمار
الإنسان خمسة، عمره الأول عمر الذر عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذريته
فقال: ألست بربكم قالوا: بلى، وهذا العمر طويل والتكليف فيه فقط بالتوحيد
ألست بربكم، {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو
مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}، والعمر الثاني عمر الإنسان فوق هذه
الأرض وهو أقصر أعماره وهو عمر التكليف، والعمر الثالث عمره في البرزخ في
بطن الأرض وهو طويل إذا ما قورن بعمره فوقها، والعمر الرابع عمره على
الساهرة في المحشر، {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}، والعمر الخامس
هو العمر الأبدي السرمدي في جنة أو في نار، فإذا كان الإنسان يعلم أن مدة
مذلته وهوانه هي مدة هذا العمر الدنيوي القصير، وحتى كل ما فيه لا يدوم،
حتى المذلة فيه لا تدوم، والنعيم فيه لا يدوم إذا أدرك الإنسان ذلك هان
عليه هذا في مقابل ما يرجوه عند الله سبحانه وتعالى في الموقف عندما يجعل
الله المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، وكذلك
عندما يدخلون الجنة فيتجلى لهم الباري سبحانه وتعالى من فوقهم فيقول: {سلام
قولا من رب رحيم}، فلا بأس عليهم حينئذ ولو لقوا من أنواع الأذى ما لقوا
في هذه الحياة الدنيا،
الموضوع : مصدر عزة الإسلام المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya