مكر
الأعداء في القرآن الكريم
الحمدُ لله القوي العزيز، لهُ
العزةُ جميعاً ولهُ المكرُ جميعاً، وهو الكبيرُ المتعال، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ
الله وحدهُ لا شريك له، أهلك عاداً الأولى وثمودَ فما أبقى، والمؤتفكةَ أهوى، وبأسهُ
لا يُردُ عن القومِ المجرمين قديماً وحديثاً ومستقبلاً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه
ورسولُه أحاطت به الأعداءُ ومكرَ به الماكرون، وتطاولَ عليه المُجرمُون، فما وهنَ
ولا استكان، بل صبرَ وجاهدَ حتى نصرهُ الله وردَّ كيدَ الذين كفروا بغيظهم لم
ينالوا خيراً، وكفى اللهُ المؤمنين القتال، وكان اللهُ قوياً عزيزاً، اللهمَّ -
صلي وسلم عليه - وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابةِ أجمعين
والتابعين، أوصيكم ونفسي بتقوى الله:
أيُّها المسلمون: يتكالبُ
أعداءُ الإسلامِ في كلِّ زمانٍ محاربين دينَ الله ورسلَه والمؤمنين، ويتفننُ
أولئكَ الأعداءُ في كلِّ عصرٍ بما يتناسبُ من وسائلِ الحرب والعداء.
وفي أيامنا هذه تشتدُ هجمةُ
الأعداء، ويتجددُ مكرُهم، وتتوحدُ قواهم لضربِ المسلمين وحصارِهم - والمسلمونَ
كُلَّما دهمتهم الخطوبُ رجعوا إلى كتابِ الله، فوجدوا فيه الشفاءَ والهدى والنور
والضياء.
وحديثُ اليومِ عن مكرِ الأعداء
من خلالِ آياتِ الكتابِ العزيز، ذلك الكتابُ المعجزُ المتجددُ في عرضِه وعبرِه،
فما ذا نجدُ فيه عن مكرِ الأعداء؟ وعاقبتهم ونهايتهم؟.
أولاً: العداءُ والمكر سُنةُ
جاريةٌ، وقَدرٌ إلهيٌ، قال - تعالى -: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ
بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) (سورة الأنعام: 123).
قال ابن كثير - رحمه الله -:
(وكما جعلنا في قريتكَ يا محمد أكابرَ من المجرمين، ورؤساءَ ودعاةً إلى الكفرِ والصدِّ
عن سبيل الله، وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسلُ من قبلك يُبتلون بذلك،
ثُمَّ تكون العاقبةُ لهم، وقال - تعالى -: ((وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ
وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)) (سورة الرعد: 42)
ثانياً: هذا المكرُ والعداءُ
يتعاونُ عليه شياطينُ الإنس والجن، كما قال ربُنا- تبارك وتعالى -: ((وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)) (سورة الأنعام: 112).
عن أبي ذرٍ - رضي الله عنه -
قال: أتيتُ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، فجلستُ، فقال: ((هل
صليت؟ قلتُ: لا، قال: قُم فصلِّ، قال فقمتُ فصليتُ، ثم جلستُ، فقال: يا أبا ذرٍ
تعوذ بالله من شرِّ شياطين الإنس والجن " قال: قلتُ يا رسولَ الله، وللإنس
شياطينُ؟ قال: نعم " شياطين الإنس والجن يوحي بعضُهم إلى بعض زخرف القوم
غروراً)).
ثالثاً: وهذا المكرُ مع غرورِه
تصغي إليه أفئدةُ من لا يؤمنون ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم
مُّقْتَرِفُونَ)) (سورة الأنعام: 113).
إنَّ هؤلاء المغرورين بالزخرفِ
يعملونَ ما يعملونَ من العداوةِ للهِ ولرسلهِ وللمؤمنين، ولا يكتفونَ بالإصغاءِ
والسماع، ولا يقفونَ عند حدِّ الرضا والقبول، بل يقترفون ويُخططون ويعملون.
إنَّها آيةٌ ظاهرةٌ في تعاونِ
الأعداءِ فيما بينهم ضدَّ الإسلام والمسلمين، والمعركةُ التي يقودُها الباطلُ
والمبطلونَ ضدَّ الحقِّ يتجمّع فيها أصنافُ الشياطين، ويتعاونونَ لإمضاءِ خطةٍ
مدبرةٍ، فبعضهم يُوحي إلى بعض، وبعضُهم يُغوي بعضاً.
رابعاً: ولكن هذا الكيدُ
والمكرُ مهما بلغَ شانُهُ واجتمع لهُ الخصومُ من كلِ صوبٍ فليس طليقاً، بل هو
مقيدٌ بقدرِ الله، ومحاطٌ بمشيئتهِ - سبحانه -، ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ
نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا
يَفْتَرُونَ)) (سورة الأنعام: 112).
إنَّهُ لا ينطقُ كما يشاءُ بلا
قيدٍ ولا ضابطٍ، ولا يصيبُ من يشاءُ بلا معقبٍ ولا رادع، وإنَّ الأعداءَ مهما بلغت
قوتُهم ورادتُهم، فهي مقيدةٌ بمشيئةِ اللهِ ومحدودةً بقدرِ الله.
وهُنا يتعلقُ المؤمنُ باللهِ،
ويُسلي نفسهُ موقناً بأنَّ القوةَ للهِ جميعاً، وأنَّ الخلقَ مهما صنعوا فهُم لا
يشاءُون إلاَّ أن يشاءَ الله، فيعتصمُ المؤمنُ باللهِ وحده، ويتوكلُ عليهِ وحده،
ويخافُ منهُ وحده، ويرجوهُ وحده، مع فعلِ الأسبابِ والأخذِ بسبُل النجاة.
خامساً: والماكرونَ لهم عذابٌ
شديد، ومكرُهم يبور، ((وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ)) (سورة فاطر: 10).
قال أبو العالية: هُم الذين
مكروا بالنبي- صلى الله عليه وسلم - لما اجتمعوا في دارِ الندوة، (تفسير القرطبي)
[14/ 332].
ونهايةُ مكرِهم ففي تباب،
واللهُ يُدافع عن أوليائهِ المؤمنين، ويحفظُهم من مكرِ الماكرين، وهذهِ قريشٌ
تجتمعُ وتخططُ وتدبرُ المكائدَ، وتصنعُ المؤامراتِ لإنهاءِ الرسولِ- صلى الله عليه
وسلم - ثُمَّ يُبطلُ اللهُ كيدَهم، ويُفشلُ مخططهم، ويُوحي إلى نبيهِ- صلى الله
عليه وسلم - بما تأمروا به، ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ
وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) (سورة الأنفال: 30).
سادساً: المكرُ السيئُ يحيقُ
بأهله، ((وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)) (سورة فاطر:
43).
وفي أمثالِ العربِ: (من حفرَ
حفرةً لأخيهِ وقعَ فيه مُنكبّاً).
وروى الزهريُ، أنَّ النبيَّ-
صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تمكروا ولا تعن ماكراً فإنَّ الله - تعالى
-يقول)): ((وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)) (سورة فاطر:
43). [تفسير القرطبي 14/ 260].
وربُك يُمهل الظالمَ حتى إذا
أخذه لم يُفلته: ((وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ
ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) (سورة هود: 102).
سابعاً: والعاقبةُ للمكر
والماكرين، هي الهلاكُ والتدميرُ عاجلاً في الدنيا ومؤجلاً في الآخرة، ((فَانظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ
أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) (سورة النمل: 52).
أجل لقد تجاوزَ التدميرُ
التسعةَ الرهطِ المفسدين إلى قومهم أجمعين: وكذلك يحيطُ عذابَ اللهِ بالمفسدين
والمتعاونين، والساكتين الراضين، ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا
رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)) (سورة الأنعام: 132).
أيُّها المسلمون: ومن تأملَ في
آياتِ القرآنِ وجدهُ يَعرضُ عن أممٍ مَكرت فحلّت بها عقوبةُ الله في الدنيا، وما
ينتظرُها في الآخرةِ أشدّ وأخزى، وهذا محمدٌ- صلى الله عليه وسلم - يُسلى ويسرى
عنهُ ويُصّبر على مكرِ قريشٍ بمكرِ الأمم الماضية ومصيرِهم، ويقول - تعالى -:
((قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ
الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ
مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ)) (سورة النحل: 26).
نعم لقد مكرَ الذين من قَبْل
قريش، ومكرت قريش، ومكرَ من بعد قريش، وما يزالُ المكرُ سارياً، ((قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ)) (سورة
النحل: 26).
فانهدم عليهم البنيانُ الذي
شيَّدوه، وكان مقبرةً لهم، وآتاهُم العذابُ من حيثُ لا يشعرون، وكذلك يَحيقُ
المكرُ السيئُ بأهله، وتلك سنةُ اللهِ مع جميعِ الماكرين، ((وَقَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)) (سورة الرعد:
42).
أخوةَ الإيمان: وقد يُزينُ
للماكرينَ مكرُهم، وقد يغترُ المُبطلون بباطلهم، ولكن ذلكَ لا يُلغي حقيقةً
قرآنيةً بأنَّهم هؤلاءِ الماكرين، ((وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ)).
وبأنَّهم ضالون عن الطريقِ
الحق، ومن يُضللِ اللهُ فما لهُ من هاد، اسمع إلى ذلك كلَّهُ في قوله - تعالى -:
((بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن
يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) (سورة الرعد: 33).
والنتيجةُ المرتقبةُ لهؤلاء:
((لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا
لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ)) (سورة الرعد: 34).
فهم إن أصابتهم قارعةٌ فيها،
أو حلت قريباً من دارهم فهو الرعبُ والقلقُ والتوقعُ، وإلاَّ فجفافُ القلبِ من
نورِ الإيمانِ عذاب، وحيرةُ القلبِ بلا طمأنينةِ الإيمان عذاب، ومواجهةُ كل حادثٍ بلا
إدراكٍ للحكمةِ الكبرى وراءَ الأحداثِ عذاب، ((وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ
وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ)) (سورة الرعد: 24 ) (في ظلال القرآن 4/2063).
أيُّها المؤمنونَ الصادقون في
إيمانِهم، فقد ينَالُهم بأسٌ من مكرِ الماكرين، وقد يتعرضونَ الأذى من كيد
الكائدين، وذلك ليبتلي المؤمنينَ ويُمحصهم، ويمحقُ الكافرين، ويكشفُ المنافقين،
إنَّها البأساءُ والضراءُ، يمتحنُ بها المسلمونَ للثباتِ على الإسلام وإن هُوجِمَ،
وللصبرِ على الحقِّ وإن طردوا، وعُدَّ الفتنةُ بالباطلِ و إن علت رايتُهُ فترةً من
الزمن، والنصرةُ للمسلمينَ وإن كانوا قلةً مُضطهدون.
إنَّ ممَّا يسلي المؤمنين
ويُصبِرهم ويُكثِّر قلتهم، ويُقوي ضعفَهم، أنَّهم لا يخوضُون المعركةَ مع
الكافرينَ وحدَهم، بل اللهُ معهم، وهو حسيبُهم وناصرُهم، والمدافعُ عنهم والمنتقمُ
من أعدائهم، تجدونَ مصداقَ ذلك في عددٍ من آياتِ القرآن: ((قَاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ)) (سورة التوبة: 14).
((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))
(سورة الأنفال: 17).
ثم قال بعدها: ((ذَلِكُمْ
وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)) (سورة الأنفال: 18).
((إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ)) (الحج: 38، 39).
وبعد هذا العرضِ لشيءٍ من
آياتِ المكرِ في القرآنِ يردُ السؤالُ: وأين المسلمونَ من هذه التوجيهات، وغيرها في
القرآن؟ أينَ هُم منها علماً وعملاً، ومعرفةً ويقيناً، وصدق الله، ((إِنَّ هَذَا
الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وأَنَّ الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) (الإسراء: 9/10).
اللهم انفعنا بهدي القرآن..
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رب العالمين،
والعاقبةُ للمتقين، ولا عُدوان إلاَّ على الظالمين، ومن يهنِ اللهُ فما لهُ من
مكرم.
إخوةَ الإسلام: ونحنُ هذهِ الأيامِ
أمامَ هجمةٍ شرسةٍ، بكل المقاييسِ وأنواع الهجوم، وفي ظل أزمةٍ لا يعلمُ مَداها
إلاَّ الله، فالمستقبلُ مُظلم، ومؤشراتُ الملاحِمِ والفتنِ تملاءُ الأفاق،
والمصيبةُ أنَّ المسلمين في غفلةٍ عن هذا، على حينٍ يتحركُ الأعداءُ ويجتمعونَ
ويُخطِطُون، والبوارجُ الكُبرى تمخُرُ عُبابَ البحرِ مُحملةً بأنواعِ الأسلحة،
وأساطيلُ الجوِ تتحركُ من مغربِ الأرضِ إلى مشرقها، والمناوراتُ العسكريةُ من قبلِ
جنودِ النصارى واليهودِ على أشدّها، أيستحقُ العراقُ كلَّ هذهِ الحشود؟ وما هي
الخطوةُ الأخرى بعد العراق؟ وهل يسوغُ أن يظلَّ المسلمون يتفرجون والعدوُّ يحتلُّ
بلادهم، ويقتلُ أبناءَهم، ويسيطرُ على مُقدَراتِهم؟ تلك أسئلةٌ كثيراً ما تُثار،
فمن يُجيبُ عنها بصدق؟
لقد أصيبُ المسلمون بذُلٍ،
وهُم الأعداء، وتفرقت كلمتُهم وهُم الأمةُ الواحدة، وأصبحوا هدفاً للغزو بعد أن
كانَ قادةُ الفتحِ، والإسلامُ لا خوفٌ عليه ولكن الخوفَ على المسلمين، فالله يقول:
((وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ)) (سورة محمد: 38).
فإلى متى يظلُّ المسلمون هدفاً
لمخططاتِ الأعداء..
إنَّ الإسلامَ يأبى الذوبانَ
في المللِ الأخرى، بل يظلُ قدرهُ حتى في الأزمات، واليومَ يشهدُ الناسُ أنَّ دينَ
اللهِ يسيحُ في أرضِ اللهِ رُغمَ المطاردةِ والتُهمِ والإرجافِ والإرهاب، وفي
بلادِ الغربِ نفسها يُطالعُ كلَّ يومٍ خبراً عن الإسلامِ مجموعةً من غيرِ
المسلمين، ولم يعد الأمرُ قصراً على الرجالِ بل شملَ النساءِ، ناهيكَ عن مدِّه في
آفاقِ الأرضِ كلِّها، ولعل هذا المدُّ الإسلاميَ بشكلٍ عام أحدُ المخاوف الكُبرى
التي أثارت الغرب، فرأوا تعجيلَ الضربةِ للمسلمينَ قبلَ أن يكتسحهمُ الإسلام،
أمَّا في البلادِ الإسلاميةِ فتستمرُ ثمارُ الصحوةِ لتغطيَ مساحةً أوسع، ولتشملَ
كافةَ القطاعاتِ المدنيةِ والعسكرية، وعلى مستوى الرجالِ والنساءِ، ولعلَّ هذهِ
الحملاتِ الغربية، وتلك الصورَ اليهوديةِ الماسونية لإبادةِ المسلمين تزيدُ من
تنامي الصحوةِ، وتُعجلُ بيقظةٍ المسلمين وهكذا يمكرُ الأعداءُ ويمكرُ الله، واللهُ
خيرُ الماكرين.
وكلَّما ظنوا أنَّهم أوشكوا
على القضاءِ على المسلمين، وإذا بالإسلامِ يُثبِّتُ أقدامَهم، ويُوقظُ عزائمهم.
أيُّها المسلمون، والنصرةُ
للمسلمِ حقٌ مشروعٌ والرسولُ- صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أنصر أخاك ظالماً أو
مظلوماً))، وحين يُبيتُ شعبُ العراقِ المسلمِ من ليلٍ أو نهارٍ، فلا يسوغُ
للمسلمينَ أن يسكُتوا، ومن حقِّهم الدفاعُ عن أنفسِهم وإخوانِهم بكلِّ ما
يستطيعون.
إخوةَ الإيمانِ: وإذا أصرَّ
المجترءُون على طُغيانهم، وحققُوا ضرباتهم، فلعلَّها أن تكونَ بدايةَ النهايةِ،
وعساها أن تكونَ مرحلةً لضعفِ القوةِ ونهايةَ الظلمِ والغطرسةِ، وسننُ اللهِ
ماضيةٌ في الفناءِ والهلاكِ على كلِّ مستكبرٍ ظالمٍ غشوم، جاحدٍ بآيات الله،
((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ
سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ
وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون)) (سورة الأحقاف: 26).
((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن
قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ
إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)) (سورة القصص: 58).
أيُّها المسلمون: هل تُوقظُ
هذه الملاحمُ والفتنُ المتوقعةُ ضمائرَ المسلمين، فيحاسبوا أنفسَهم، ويعودُوا إلى
بارئهم، ويُبادِروا بالأعمالِ الصالحةِ، كما أوصاهم حبيبُهم وناصحُهم ونبيُهم- صلى
الله عليه وسلم -: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم)).
وهل تدعوهم هذه الأزماتُ
وتجمعُ الأعداءٍ إلى نبذِ الفرقةِ، واجتماعِ الكلمةِ وتوحيدِ الهدف؟!: فتلك القوةُ
التي لا تُغلب.
ومن مخارجِ الأزمةِ الإيمانُ
بالله، واليقينُ بنصره، والتوكلُ عليه وحده،: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) (سورة آل عمران: 173).
أجل- " حسبنا الله ونعم
الوكيل "- قالها إبراهيمُ حين ألقي في النار، فكان الجوابُ، ((قُلْنَا يَا
نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا
فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ)) (سورة الأنبياء: 69، 70).
وقالها المؤمنونَ مع محمد- صلى
الله عليه وسلم - حين قيلَ لهم إنَّ الناسَ قد جمعوا لكم في حمراءِ الأسد، فكان
الجواب ((فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) (سورة آل
عمران: 174).
وما زال التوكلُ على اللهِ،
واليقينُ بنصرهِ سلاحاً يتدرعُ به المؤمنون، كلَّما اشتدت الأزماتِ، وتكالبَ
الأعداءُ، ولكن لا بدَّ مع الإيمانِ من عملٍ، ومع اليقينِ من جُهدٍ يُبتلى من
الإيمانِ ويتميزُ الصادقون من الكاذبين،: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ)) (سورة آل عمران: 142).
إنَّ من معوقاتِ النفسِ عن
الجهادِ حبّ الآباءِ والأبناءِ والإخوان، والأزواجِ والعشيرة، والأموالِ والتجارةِ
التي تخشى كسادَها، والمساكينُ التي ترضي، وإيثارُ السلامةِ والإخلادِ للراحةِ
والدعة، وتلك التي حذَّرَ اللهُ منها المؤمنين بقوله: ((قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ
اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا
أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ
حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ)) (سورة التوبة: 24).
إنَّ ما عند اللهِ خيرٌ وأبقى،
وهذه الحياةُ الدنيا متاعٌ والآخرةُ هي دارُ القرار، وما ذا بعد أن تُهانُ كرامةُ
المسلمين، ويُسخرُ بدينهم ونبيهم، ويهددونَ بالاحتلالِ في قعرِ دارهم، إنَّ
المسلمين وعُدوا إحدى الحسنيين، فإمَّا النصرُ أو الشهادة،
ومن لم يمت بالسيفِ مات بغيرهِ
*** تعددتِ الأسبابُ والموتُ واحدٌ
فإمَّـا حيـاةٌ تسـرُّ
الصـديـق *** وإمَّـا ممـاتٌ تغيضُ العـداء.
ولن تموتَ نفسٌ حتى تستكملَ
رزقَها وأجلَها، لقد أصيبَ المسلمونَ بالوهنِ، وطغت علينا حبُّ الدنيا وكراهيةُ
الموتِ، ومن عجبٍ أن غيرَ المسلمينَ باتوا يُغارون بأنفسهم وهُم على الباطل،
ويرحلُون من بلادهم، ويُهاجِمُون وهُم دون هدفِ خير، على حينِ يبخلُ المسلمون
بأنفسهم، وهم على الحقِّ، ويعجزُونَ عن الدفاعِ عن أنفسهم وإخوانهم، وبلادهم
ومقدساتهم وهم يُهاجمون، ولله في خلقهِ شُؤون، ومهما بلغت قوةُ الأعداءِ، ففيهم من
الرُعبِ والخوفِ والضعفِ والخورِ، ما اللهُ بهِ عليم، فلو صدقَ المسلمونَ
لأرهبوهم، ولو اجتمعت كلمتُهم لأخافوهم، ولو دافعوا عن دينهم وحُرماتهم لدافعَ
اللهُ عنهم.
اللهمَّ انصر دينكَ، وعبادك،
وانتقم ممن أرادَ بالمسلمين سوءً يا عزيزُ يا جبار.
الموضوع : مكر الأعداء في القرآن الكريم المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: ابراهيم كمال توقيع العضو/ه:ابراهيم كمال |
|