وبعد أن يدرك الإنسان
حقيقة وجوده، تتطلع نفسه للتأمل في كنه الحياة التي جُبل على التعلق بها،
فهي الأساس الذي تقوم عليه كل ملذات الدنيا ومباهجها، وعليها يقوم الأمل في
تحصيل ما ترغب فيه النفس وتميل إليه. وإذا عاد مرة أخرى إلى القرآن الكريم
ليستشف منه تعريف الحياة فسيجد نفسه أمام منهج تربوي كامل يقوم على
محورين:
الأول: أن الحياة ليست إلا جسرًا تمر عليه الكائنات في طريقها
نحو الآخرة، وأن هذه الدنيا في قصرها وسرعة زوالها لا تساوي شيئا يذكر في
جنب الخلود الذي سيعقبها، كما أن الآخرة على امتدادها اللانهائي متوقفة على
ما يكون عليه حال الإنسان في هذه الحياة الأولى، فهو إذن في مرحلة امتحان
دائم، وكل ما يراه من حوله من مباهج وملذات ومتع، أو من مآسي وجراح وكوارث،
فإن هذا كله ليس إلا أياما قليلة سرعان ما تنقضي، وستوضع بكل ما تحتويه في
كفة الميزان لتحدد مصيره الأبدي، قال تعالى: "وما هذه الحياة الدنيا إلا
لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" [العنكبوت: 64].
أما
المحور الثاني فهو مكمل لهذا الأول، إذ يعمل على إعادة التوازن لهذه
الرؤية، فلا تهون الحياة في نظر الإنسان، ولا ينصرف عن إعمار الأرض بالعلم
والعمل إلى التقشف وانتظار الموت. قال تعالى: "هو أنشأكم من الأرض
واستعمركم فيها" [هود: 61]، "ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله
إليك" [القصص: 77]، "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة
طيبة" [النحل: 97]. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "فإن
دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى
يوم تلقون ربكم"، كما أعلن أن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ
مسلم.
وبهذه الرؤية المتكاملة تغدو الحياة في نظر المسلم كنزاً ثمينا
يتوجب عليه استثماره، فهي في جوهرها لا تستحق من الاهتمام أكثر من كونها
جسرا للسعادة الأبدية، كما أنه في الوقت نفسه مأمور بعدم التفريط فيها
لقدسيتها وقيمتها العظيمة عند الله تعالى "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في
الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"
[المائدة: 32]. أما المباهج وألوان المتع التي تصادفه فيها فليست إلا زخارف
تتزين بها لإغواء ضعاف النفوس، ولكنها لا تُكره أيضا لِـذاتها إذا ما أحسن
استخدامها "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل
هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة" [الأعراف: 32]. وبهذا
الفهم يخوض المسلم غمار الحياة بملذاتها واثق الخطى، بعد أن استيقن أن كل
ما ملكه فيها غير باق، فهو إذن في سعي دائم للاستمتاع بها دون إسراف، مع
إيمان داخلي بأن ما امتلكه منها في قبضة يده وليس في قلبه "لكيلا تأسوا على
ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" ، وهكذا فهم السلف الصالح الزهد بأنه قصر
الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء[6].
وبهذا ينتقل المسلم في
تأمله إلى المحور الثالث والأخير في فهمه للوجود، وهو الكون الذي يحوي كل
الكائنات المحيطة به، ويبدأ التأمل فيه من قوله تعالى: "قل انظروا ماذا في
السموات والأرض" [يونس: 101]، ثم يمضي في دراسة عشرات الآيات التي تدعوه
للتفكر في خلق الله وبديع صنعه، ليخرج منها بنتيجة مشابهة للتي حصل عليها
من تأمله السابق في حقيقة وجوده وحياته، وسيكتشف أن فهمه للكون يجب أن
ينطلق أيضا من إدراك حقيقتين متكاملتين: الأولى هي حقيقة أن الله تعالى قد
سخّر له معظم ما يحيط به من كائنات، إذ أن تفضيله عليها ليس مقتصرا فقط على
تمتعه ببعض الميزات، بل يعدوه إلى تسخير هذه الكائنات لخدمته وتحقيق
رفاهيته. قال تعالى: "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" [لقمان: 20]، "وسخر لكم الليل والنهار
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" [النحل:
12]، "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه
النشور" [الملك: 15]. وسيجد المسلم في مزيد من الآيات دلائل باهرة على
تسخير هذا الكون له وتمكينه منه، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ضرورة استئناسه
بهذا الكون، واستبطانٌ للنهي عن الجزع مما قد يلاقيه فيه من كوارث ونوازل
قد تحل به، فالطبيعة إذن ليست في تحدٍ دائم مع الإنسان الضعيف، والإنسان
أيضا ليس في صراع مستمر للتغلب على طغيان الطبيعة. أما الحقيقة الثانية فهي
أن الكون لم يكشف للإنسان كل أسراره بعد، فعلى الرغم من التسخير والتمكين
إلا إن طائفة أخرى من المكوَّنات ما زالت غائبة عن إدراك الإنسان أو خارجة
عن سيطرته، فالكون يضج بالملائكة والجان، وقد يحتوي أيضا على مخلوقات أخرى
ليس في مُكنة الإنسان التعرف على حقيقتها أو حتى العلم بوجودها. ووجود
الإنسان فيه لا يعدو أن يكون ذرة صغيرة لا تكاد تذكر أمام عظمة هذا الكون
واتساعه.
وبهاتين الحقيقتين تتكامل رؤية المسلم للكون المحيط، فهو مدرك
تماما لمكانته المتميزة بين كافة المخلوقات، حيث جعله الله تعالى مركز
الوجود الذي تُسخر له معظم الموجودات الأخرى، وهو في الوقت نفسه مدرك
لحقيقة استغلاق بعض الأبواب عليه، وأن قدراته العجيبة مهما بلغت من سمو
فإنها لن تطرق تلك الأبواب، ولكنه مع ذلك مدعوّ للبحث والفضول، فقد حث
القرآن الكريم على التساؤل والنظر، وهذا ما فهمه إبراهيم الخليل عليه
السلام عندما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى، لعلمه بأن التطلع إلى
معرفه هذه الأسرار لا يتناقض مع الإيمان بها على الرغم من استغلاقها.
النتيجـة
بهذا
الإيمان يتصالح المسلم مع خالقه ونفسه والكون الذي من حوله، فهو مدرك أولا
لحقيقة عبوديته لله تعالى وقائم بما يلزم عنها من واجبات، ومدرك ثانيا
لقيمة نفسه كمخلوق أكرمه الله بتسخير الكائنات له، وأنه قد هبط إلى الأرض
ليمتحن فيها قبل أن يعود إلى الجنة التي خُلقت له، فهو مكلف بإعمار هذه
الأرض "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" [هود: 61]، ومكلف أيضا بترويض
نفسه للأخذ من الشهوات ضمن قيود الشرع وحدود الحاجة.
فإذا انتهينا
إلى هذا الفهم المتكامل للخالق سبحانه وللنفس والكون، فقد حقّ لنا الآن أن
نتساءل عن النتيجة العملية التي يمكن أن نجنيها من تطبيق هذا المفهوم، ولعل
خير إجابة عن هذا السؤال تتخلص في استقراء الواقع الذي عايشه أشخاص سبق
لهم وأن طبّقوه، ولن نجد مثالا أفضل من الصحابة رضي الله عنهم.
لقد نشأ
الرعيل الأول من أمة الإسلام على تربية قرآنية فريدة، فهي لا تقتصر في عرض
المفهوم الشامل للوجود -السالف بيانه- على الجانب الفكري فحسب، بل تخاطب
كلا من العقل والوجدان في تناسق بديع معجز. وقد لخص أبو بكر الصديق رضي
الله عنه هذا المنهج في وصيته لخليفته عمر بقوله: "ألم تر يا عمر، إنما
نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، ونزلت آية الشدة مع آية الرخاء، ليكون
المؤمن راغبا راهبا، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب
رهبة يلقي فيها بيديه" [7]، فكان الصحابة يقرءون القرآن على حال من الرغبة
والرهبة، وقلوبهم تتفطر شوقا إلى لقاء الله وخوفا منه في آن معا[8]. وكان
القرآن الكريم يتنزل تبعا لتدرجهم في هذه التربية، فبعد أن انتصروا في أول
غزوة لهم في بدر ووجدوا بين أيديهم الكثير من الغنائم، وكانوا قد تركوا
لقريش أموالهم وهاجروا إلى يثرب محتسبين أجرهم على الله، عندها تنازع
الشيوخ الذين بقوا تحت الرايات مع الشباب المحاربين في اقتسام الغنائم، فما
أن لجأوا إلى رسول الله ليقسم بينهم حتى تنزل الوحي ينهرهم: "يسألونك عن
الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا
الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون
الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم
ومغفرة ورزق كريم" [الأنفال: 1-4]، عندئذ ارتدعوا جميعا -رضي الله عنهم-
وتركوا الغنائم للرسول فرحين بنصر الله تائبين إليه، وما أن عادت الطمأنينة
إلى قلوبهم الطاهرة وطردوا عنها علائق الدنيا حتى تنزل الوحي بقسمة
الغنائم: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل..." الآية [الأنفال: 41]. وما أن نضج
المفهوم المتكامل للإيمان في قلوب تلك الأمة حتى خرجوا ليفتحوا مشارق الأرض
ومغاربها، غير آبهين بزخارف الدنيا التي انبسطت تحت أقدامهم، إلى أن دخل
ربعي بن عامر بثوبه المرقع على قائد الفرس رستم وهو يمزق البُسط الفاخرة
برأس رمحه، ويقف رافع الرأس وهو يتحسر على الرعية التي طأطأت الرؤوس للقائد
قائلا: "أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور
الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة"، فيتهامس
الجلوس من كبار القوم: "والله لقد تحدث بكلام طالما تطلع إليه عبيدنا".
أما
اليوم، فلن نفاجأ كثيرا بنتائج الاستقصاء الذي أجرته مجلة النيوزويك
الأمريكية حول أكثر شعوب العالم سعادة، حيث تربّع الشعب النيجيري الفقير ذو
الأغلبية المسلمة على رأس القائمة التي تضم خمسا وستين دولة، وتلته شعوب
كل من المكسيك، فنزويلا، سلفادور وبورتوريكو، بينما احتلّت الدول المتقدمة -
أمام دهشة معدّي التقرير- مراكز متأخرة على سلم السعادة. ولكننا قد نقف
طويلا أمام اعتراف معظم الأمريكيين المستجوبين في التقرير بأن السعادة لا
تتعلق بالغنى والمال[9]، وهو ما يبدو مستغربا في مجتمع براغماتي قام في
تأسيسه على أكثر أشكال الرأسمالية تطرفا. الأمر الذي دفع المجلة ذاتها فيما
بعد لتقصي ظاهرة عودة الدين للانتشار في الولايات المتحدة[10]، لتدور
التساؤلات من جديد حول السعي اللاهث للأمريكيين في البحث عن السعادة، عبر
وصفات التأمل العابرة، والتي تؤخذ كجرعات لعلاج النفوس المتعبة.
أما
التساؤل الذي لم يتجرأ أحدهم على طرحه فهو: ماذا عن العلاج المتكامل الذي
يفي بحاجات كل من الروح والجسد والمجتمع عامة في تناسق تام ويهدي الإنسان
إلى طريق السعادة الحقيقية في هذه الحياة، ثم يضمن له السعادة الأبدية في
ما بعدها؟
هذا هو السؤال الذي ما زال الإنسان مصرّاً على التفلسف
حوله، وبعيدا عن مصدره الأصيل. قال تعالى: "يا حسرة على العباد، ما يأتيهم
من رسول إلا كانوا به يستهزئون" [يس: 30].
الموضوع : طريق السعادة في القرآن الكريم المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya