الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد:
كانت بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- أكبر حدث شهدته البشرية
قاطبة، كيف لا؟! وقد كان بمثابة الحجر الذي حرك مياه راكدة في بحيرة الفكر
الإنساني آنذاك، والتي انطوت على كثير من العقائد الفاسدة، والتصورات
الواهمة، جُلَها راجع للعضِّ بالنواجذ على موروثات خربة من الآباء
والأجداد، ورثتها الأجيال كابراً عن كابر، ولسان الحال والمقال: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [سورة الزخرف: 23].
زاد من ذلك
الحال المزري إعمال العقول القاصرة في غير موضعها، والأقيسة التي يجانبها
الصواب، واعتداد ذو الرأي برأيه، والانتصار لصوت الكِبر والعُجب في القلب
ليعلو فوق صوت الفطرة النقية، فلا غرو بعدئذ أن يكون وليد ذلك كلّه مثل تلك
الممارسات والسلوكيات المأفونة، وحالة الفوضى العارمة في الأمم، وانهيار
الحضارات تبعاً لذلك.
فجاءت بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- لتقلب
ذلك كله رأساً على عقب، وتُحدث زلزالاً هائلاً، وتفجيراً مُدوّيا لتصحيح
الأوضاع.
وجاهد -عليه الصلاة والسلام- في الله حق جهاده، ودعا الناس
لدين رب العالمين، حتى أظهره الله ودخل الناس في دين الله أفواجا، وبلَّغ
النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته شرع ربه بهذه الصورة الكاملة، وبتلك
الأمانة المطلقة، دون زيادة أو نقصان، وتكفُّل المولى -تبارك وتعالى- بحفظ
الدين على أهله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: 9].
فوجب
على أتباع الدين مزيداً من الاتبّاع للشرع الحنيف، والاستنان بهدي النبي
الشريف، دون الحاجة لدعاوى المُدّعين للعبث بالشرع بزعم مسايرة العصر أو
مجاراة الواقع، حتى لو تغلّفت تلك الدعاوى بمظهر من نصرة الإسلام أو محبة
نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو حتى لو صلحت نوايا كثير ممن يقع في
هذا العبث، -وكم من مريد للخير لا يبلغه-، وقد أتم لنا ربنا الشرع، وانقطع
الوحي بموت النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ
فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} [سورة المائدة: 3].
إنّ حاجتنا اليوم لمزيد من
اقتفاء آثار سلفنا الصالح وعلى رأسهم نبينا -عليه الصلاة والتسليم- لحاجة
ماسّة، لاسيّما وسط هذا الجهل المطبق بأمور الدين من السواد الأعظم من
الأمة، واتّخاذ الناس كتاب الله ورائهم ظهريّاً، وتباعد الزمن عن خير
القرون، والانغماس حتى الآذان في حياة مادية قـُح.
وإلاّ نفعل تكن
رجعية حقيقية، ورٍدّة حضارية لا تقوم لنا بعدها قائمة، عن ابن عمر –رضي
الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا
تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط
الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» [رواه أبو داود
وصححه الألباني].
ندلل على ذلك -على سبيل المثال لا الحصر- بقصة
عبادة الأصنام ومنشأها، إنها صورة فجة من الحياد عن جادةِ الطريق التي
رسمها الأنبياء والمرسلين، واستحسان أمور ما أنزل الله بها من سلطان -ومن
استحسن فقد شرّع-، وتتبع لخطوات الشيطان -الهادئة- دون وجود أية غضاضة أو
ريب من أن ذلك إرادة للخير، ومحبة الصالحين، فطوعت لهم أنفسهم بإيعاز من
الشيطان -فقيه الشر- جعل رسوم وتصاوير للصالحين بعد وفاتهم، لتذكّر القدوة
والأسوة، ففرح الشيطان بذلك، وصبر عليه ولم ييأس، حتى جاء جيل بعد ذلك تخيل
بذهنه المريض أن هذه الرسوم وتلك التصاوير ما جعلت إلا للتعظيم والعبادة،
فعبدوها من دون الله!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا ينقلنا
لنقطة أخرى في غاية الأهمية وهي خطورة "البدعة"، وعدم تهاون الشرع في
التحذير منها ومحاربتها، وهي كما عرفها العلماء: "طريقة في الدين مخترعة
تشبه الطريقة الشرعية، ويقصد بها التقرب لله عز وجل".
ولندع المثال
أيضاً يغني عن كثير المقال، فهناك أمور مثل كثير من الأعياد والمناسبات
"الدينية"، التي يحتفل بها كثير من المسلمين، المتأمل فيها يجد أن لها
علاقة بأحداث هامة فاصلة -في كثير من الأحيان- في تاريخ الإسلام، نعم،
والذين يقومون بها كثير منهم أيضاً يظنون أن ذلك من الدين أو لا يتعارض
معه، وربما يفعلونه قربة لله، لكن الإشكالية أن ذلك -في ميزان الكتاب
والسنة- أبعد ما يكون عن القربة، بل لمخالفته الصريحة لهما يكون نقمة لا
نعمة، ووزراً لا مثوبة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس
منه فهو رد» [متفق عليه]، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بين ظهراني أصحابه: «إني على الحوض أنظر من يرد علي منكم فوالله ليقتطعن دوني
رجال فلأقولن أي رب من أمتي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ما زالوا
يرجعون على أعقابهم» [رواه مسلم]، والأدلة في هذا المعنى في الكتاب
والسنة كثيرة ليس هذا مجال بسطها.
والمولد النبوي هو أشهر هذه
المناسبات والأعياد التي يسميها الناس "دينية"، وقد أَدُخلت في الدين
إدخالاً.
وأول من يُعزى إليه إحداث الأعياد والاحتفالات عامة
والموالد خاصة هم العبيديون، -"المعروفين عند العامة بالفاطميين"-
فقد ذكر المقريزي في كتابه (المواعظ
والاعتبار بذكر الخطط والآثار) ما نصه:
"كان للخلفاء
الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، وموسم أول
العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومولد علي بن أبي
طالب -رضي الله عنه-، ومولد الحسن ومولد الحسين -عليهما السلام-، ومولد
فاطمة الزهراء -عليها السلام-، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة
نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط
رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة
الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النيروز، ويوم الغطاس، ويوم
الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات".
فانظر رحمك الله وتبين كيف
حتى خلطوا بين عيدي الحق "الفطر والأضحى" وبين أعياد مخترعة سموها إسلامية
ليلبّسوا على الناس -لاسيما الجٌهّال- أمر دينهم، كعاشوراء والمولد النبوي،
وخلطوا بينها أيضاً وبين أعياد مقتبسة من الكافرين: كالنيروز والغطاس
والميلاد، وكذا أعياد عند الرافضة الشيعة وأصحاب الغلو في آل البيت كمولد
الحسن والحسين وفاطمة.
وذكر الشيخ محمد بخيت
المطيعي مفتي الديار المصرية سابقاً في كتابه (أحسن
الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام): "أن أول من أحدث
تلك الاحتفالات بالموالد الستة -أي: مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومولد
علي وفاطمة والحسن والحسين -رضي الله عنهم- ومولد الخليفة الحاضر، هو
المعز لدين الله وذلك في سنة 362هـ"، وأن هذه الاحتفالات بقيت إلى أن
أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش بعد ذلك.
وقال
المقريزي في (اتعاظ الحنفاء، 2/48)
سنة (394): "وفي ربيع الأول أُ لزم الناس بوقود القناديل بالليل في سائر
الشوارع والأزقة بمصر". وقال في موضع آخر (3/99) سنة (517):
"وجرى
الرسم في عمل المولد الكريم النبوي في ربيع الأول على العادة". وانظر
(3/105).
وكذا قال الشيخ علي محفوظ في كتابه (الإبداع
في مضار الابتداع)، والأستاذ علي فكري في (المحاضرات
الفكرية) وغيرهم ذكروا أن العبيديين هم أول من أحدث هذه الأعياد
والاحتفالات.
الموضوع : مولد.... صاحبه "غائب" المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya