قلنا: هذا الاحتمال والتنظير
له لا يصح لوجوه:
الأول: أن
النبي جعل الصلاة حدا فاصلا بين الكفر والإيمان، وبين المؤمنين والكفار.
والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره. فالمحدودان متغايران لا يدخل أحدهما في
الآخر.
الثاني: أن الصلاة
ركن من أركان الإسلام، فوصف تاركها بالكفر يقتضي أنه الكفر المخرج من
الإسلام.. لأنه هدم ركنا من أركان الإسلام، بخلاف إطلاق الكفر على من فعل
فعلاً من أفعال الكفر.
الثالث:
أن هناك نصوصا أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفرا مخرجا من الملة.. فيجب
حمل الكفر على ما دلت عليه لتتلاءم النصوص وتتفق.
الرابع: أن التعبير بالكفر مختلف.. ففي ترك الصلاة
قال: { بين الرجل وبين الشرك والكفر }، فعبر
بأل الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر بخلاف كلمة - كفر - منكرا أو
كلمة -كفر- بلفظ الفعل فإنه دال على أن هذا من الكفر، أو أنه كفر في هذه
الفعلة وليس هو الكفر المطلق المخرج عن الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (اقتضاء الصراط
المستقيم) ص 70 ط السنة المحمدية على قوله : {
اثنتان في الناس هما بهم كفر }. قال: ( فقوله: { هما بهم كفر } أي هاتان الخصلتان هما - كفر -
قائم بالناس فنفس الخصلتين - كفر - حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما قائمتان
بالناس، لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرا الكفر
المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر. كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب
الإيمان يصير بها مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته. وفرق بين الكفر
المعرف باللام كما في قوله : { ليس بين العبد وبين
الكفر، أو الشرك إلا ترك الصلاة، وبين كفر منكر في الإثبات } ) أ.
هـ. كلامه.
فإذا تبين أن
تارك الصلاة بلا عذر كافر كفرا مخرجا من الملة بمقتضى هذه الأدلة، كان
الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل وهو أحد قولي الشافعي كما ذكره
ابن كثير في تفسير قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
[مريم:59]. وذكر ابن القيم في "كتاب الصلاة" أنه أحد الوجهين في مذهب
الشافعي، وأن الطحاوي نقله عن الشافعي نفسه.
وعلى هذا القول جمهور الصحابة، بل حكى غير واحد
إجماعهم عليه.
قال عبد الله
بن شقيق: { كان أصحاب النبي لا يرون شيئا من
الأعمال تركه كفر غير الصلاة } [رواه الترمذي والحاكم وصححه على
شرطهما].
وقال إسحاق بن
راهويه الإمام المعروف: ( صح عن النبي ، أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان
رأي أهل العلم من لدن النبي ، إلى يومنا هذا، أن تارك الصلاة عمدا من غير
عذر حتى يخرج وقتها كافر ).
وذكر
ابن حزم، أنه قد جاء عن عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة
وغيرهم من الصحابة قال: ( ولا نعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة. نقله عنه
المنذري في (الترغيب والترهيب) وزاد من الصحابة: عبد الله بن مسعود وعبد
الله بن عباس وجابر بن عبد الله وأبا الدرداء رضي الله عنهم ). قال: ( ومن
غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي
والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي
شيبة، وزهير بن حرب وغيرهم ) أ. هـ.
فإن
قال قائل: ما هو الجواب عن الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك
الصلاة؟
قلنا: الجواب أن
هذه الأدلة لم يأت فيها أن تارك الصلاة لا يكفر، أو أنه مؤمن أو أنه لا
يدخل النار، أو أنه في الجنة. ونحو ذلك. ومن تأملها وجدها لا تخرج عن خمسة
أقسام كلها لا تعارض أدلة القائلين بأنه كفر.
القسم الأول: أحاديث ضعيفة غير صريحة حاول موردها أن
يتعلق بها ولم يأت بطائل.
القسم
الثاني: ما لا دليل فيه أصلا للمسألة. مثل استدلال بعضهم، بقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
[النساء:48]. فإن معنى قوله تعالى: مَا دُونَ ذَلِكَ ما هو
أقل من ذلك، وليس معناه ما سوى ذلك، بدليل أن من كذب بما أخبر الله به
ورسوله، فهو كافر كفراً لا يغفر له وليس ذنبه من الشرك. ولو سلمنا أن معنى مَا دُونَ ذَلِكَ ما سوى
ذلك، لكان هذا من باب العام المخصوص بالنصوص الدالة على الكفر بما سوى
الشرك والكفر المخرج عن الملة من الذنب الذي لا يغفر وإن لم يكن شركا.
القسم الثالث: عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر
تارك الصلاة. مثل قوله في حديث معاذ بن جبل: { ما
من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله إلا حرمه الله على
النار }. وهذا أحد ألفاظه وورد نحوه من حديث أبي هريرة وعبادة بن
الصامت وعتبان بن مالك رضي الله عنهم.
القسم الرابع: عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة.
مثل قوله ، في حديث عتبان بن مالك: { فإن الله حرم
على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله } [رواه
البخاري]. وقوله ، في حديث معاذ: { ما من أحد يشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على
النار } [رواه البخاري].
فتقييد
الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد، وصدق القلب، يمنعه من ترك الصلاة، إذ ما
من شخص يصدق في ذلك، ويخلص إلا حمله صدقه، وإخلاصه على فعل الصلاة. ولا بد
فإن الصلاة عمود الإسلام، وهي الصلة بين العبد وربه، فإذا كان صادقا في
ابتغاء وجه الله، فلا بد أن يفعل ما يوصله إلى ذلك، ويتجنب ما يحول بينه
وبينه، وكذلك من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه،
فلا بد أن يحمله ذلك إلى الصدق على أداء الصلاة مخلصا بها لله تعالى متبعا
فيها رسول الله ، لأن ذلك من مستلزمات تلك الشهادة الصادقة.
القسم الخامس: ما ورد مقيدا بحال يعذر فيها بترك
الصلاة. كالحديث الذي رواه ابن ماجة عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله
: { يدرس الإسلام كما يدرس الثوب } - الحديث
- وفيه. وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: ( أدركنا
آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها ) فقال له صلة: ( ما
تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا
صدقة ) فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثا كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل
عليه في الثالثة فقال: ( يا صلة تنجيهم من النار ) ثلاثاً.
فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار، كانوا
معذورين بترك شرائع الإسلام، لأنهم لا يدرون عنها، فما قاموا به هو غاية ما
يقدرون عليه، وحالهم تشبه حال من ماتوا قبل فرض الشرائع، أو قبل أن
يتمكنوا من فعلها، كمن مات عقيب شهادته، قبل أن يتمكن من فعل الشرائع، أو
أسلم في دار الكفر فمات قبل أن يتمكن من العلم بالشرائع.
والحاصل أن ما استدل به من يرى كفر تارك الصلاة لا
يقاوم ما استدل به من يرى كفره، لأن ما استدل به أولئك، إما أن يكون ضعيفا
غير صريح وإما ألا يكون فيه دلالة أصلا، وإما أن يكون مقيدا بوصف لا يتأتى
معه ترك الصلاة، أو مقيدا بحال يعذر فيها بترك الصلاة، أو عاما مخصوصا
بأدلة تكفيره!.
فإذا تبين
كفره بالدليل القائم السالم عن المعارض المقاوم، وجب أن تترتب أحكام الكفر
والردة عليه، ضرورة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.