الصديق ونعمة الثبات

الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
 
الصديق ونعمة الثبات
المواضيع الجديدة منذ آخر زيارة لياستعراض مشاركاتكمواضيع لم يتم الرد عليهاأفضل مواضيع اليومافضل اعضاء اليومافضل 20 عضو
 
الصديق ونعمة الثبات Empty

شاطر | 
 

 الصديق ونعمة الثبات

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
ابراهيم كمال
عـضـو برونزي

عـضـو برونزي
ابراهيم كمال


المشاركات :
368


تاريخ التسجيل :
16/06/2010


الجنس :
ذكر

الصديق ونعمة الثبات Caaaoa11
الصديق ونعمة الثبات 278233698

الصديق ونعمة الثبات _
مُساهمةموضوع: الصديق ونعمة الثبات   الصديق ونعمة الثبات Emptyالخميس 17 يونيو 2010 - 18:50 

لما علم الله عز وجل من الصديق إيمانًا عميقًا في
قلبه، ويقينًا صادقًا
في عقله، وعملًا صالحًا في كل جوارحه، لما رأى
منه حبًا جارفًا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم قاد إلى تصديق كامل،
واتباع دقيق، لما اطلع على قلبه
فوجده رقيقًا حانيًا عطوفًا، ووجد خلقه
حسنًا رفيعًا عاليًا، لما علم منه
سبقًا إلى الخيرات، ومسارعة إلى
الحسنات وحسمًا وعزمًا في كل أمور حياته،
لما رأى منه عطاءً ثم عطاء،
لما رأى منه كل ذلك وغيره، أنعم عليه بنعمة
عظيمة وهِبة جليلة، أنعم
عليه بنعمة الثبات على كل ما سبق من خير، الثبات
على الإيمان، وعلى
الإسلام، الثبات على الطاعة وحسن الخلق، الثبات على
العطاء، الثبات
أمام الفتن، كل الفتن صغيرة كانت أو كبيرة، دقيقة كانت أم
عظيمة، خفية
كانت أم ظاهرة. والثبات شيء صعب وعسير، الإنسان قد ينشط
في فترة من
الفترات، ولكنه سرعان ما يفتر، قد يقوى في زمان، لكنه يضعف في
أزمان،
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن رسول الله صلى
الله
عليه وسلم قال: إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ
شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ
فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى
سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ،
وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ،
فَقَدْ هَلَكَ. ولكن
العجيب في حياة الصديق رضي الله عنه أن
ترى ثباتًا في كل الفضائل، وفي
كل المواقف منذ أسلم، وحتى مات، مهما تغيرت
الظروف والأحوال، والثبات
فعلًا شيء عسير، الدنيا من طبيعتها التقلب، من
النادر أن تجد فيها
شيئًا ثابتًا، كما قالوا قديمًا: دوام الحال من المحال،
يقول سبحانه:
[يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً
لِأُولِي الأَبْصَارِ] {النور:44} . ويقول: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]
{آل عمران:140} . ويقول: [يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ
البَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
لِنُبَيِّنَ
لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ
العُمُرِ
لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ
هَامِدَةً
فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ] {الحج:5}
. هكذا الإنسان دائمًا في تقلب،
والأرض كذلك دائمًا في
تقلب، والقلب أيضًا كذلك، كثير التقلب، بل قيل:
إن القلب سمي قلبًا؛ لأنه
سريع التقلب. روى الترمذي عن أنس رضي الله
عنه
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول:
يَا مُقَلِّبَ
الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكِ. فقلت:
يا رسول الله، آمنا
بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:
نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ
بَيْنِ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ،
يُقَلِّبُهَا كَيْفَ
يَشَاءُ. وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن عمرو
بن العاص، قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ
قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا
بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ
الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ
يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ. ثم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا
مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ
قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ. ويزداد
الأمر صعوبة على القلب بتغير
الظروف من حوله، فقلب قد يثبت على حاله من
الغنى، فإذا افتقر الإنسان فتن،
وقلب قد يثبت على حاله من الفقر، فإذا
اغتنى الإنسان فتن، قد يثبت في بلد،
ويفتن في آخر، قد يثبت في عمل،
ويفتن في آخر، قد يثبت في سن، ويفتن في سن
آخر، بل قد يثبت في نهار،
ويفتن في ليل، بل قد يثبت لحظة، ويفتن في لحظة
تالية، والإنسان في هذه
الدنيا ليس متروكًا في حاله، كثير من الأعداء
تناوشه وتهاجمه، الشيطان
لا يهدأ ولا يستكين [ثُمَّ
لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا
تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ]
{الأعراف:17} . فالدنيا مجموعة
متراكمة
من الفتن [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا
تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ
الغَرُورُ] {فاطر:5}
. النفس، نفس الإنسان تُغير كثيرًا من قلبه
[إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ
رَبِّي]
{يوسف:53}. وشياطين
الإنس أحيانًا ما يكونون أشد ضراوة من شياطين الجن،
وبين كل هذه المتقلبات
يعيش القلب، فكيف لا يتقلب؟ وهو القلب المشهور
بالتقلب، والقلب إن كان
ضعيف الإيمان فتقلبه خطير [وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ
وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا
وَالآَخِرَةَ
ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] {الحج:11} . والنجاة من التقلب عسيرة
إلا
إذا مَنّ الله بها على عبده، والله لا يَمُنّ بالثبات على عبد
خامل كسلان،
بل لا بد أن يقدم شيئًا، اسمع إلى قوله عز وجل: [لَا

تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا
قَدْ
يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا
فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النور:63} . إذن اتباع الرسول صلى الله
عليه
وسلم اتباعًا لصيقًا دقيقًا يقي الإنسان شر الفتن، أو قل: يجعل
الإنسان
أهلًا أن يَمُنّ الله عليه بنعمة الثبات، جميع الخلق بلا استثناء
لا
يثبتون بغير تثبيت الله لهم، اقرأ إن شئت كلام الله سبحانه، في حق رسول
الله
صلى الله عليه وسلم: [وَلَوْلَا أَنْ
ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا]
{الإسراء:74} . واقرأ معي قوله

تعالى: [يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا
بِالقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ
وَيُضِلُّ اللهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ] {إبراهيم:27} . وأكثر
المسلمين اتباعًا
لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر
الصديق رضي الله عنه، وأكثر
المسلمين تلقيًا لتثبيـت الله بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان أبو
بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا، حياته
عجيبة رضي الله عنه وأرضاه، كم من
الفتن عرض عليه، وكم من الثبات قدم
رضي الله عنه، روى
الترمذي وغيره حديثًا وقال: حديث حسن. يفسر لنا هذه
الفتن الكثيرة التي
عرضت للصديق رضي الله عنه في حياته، عن سعد بن أبي
وقاص رضي الله عنه قال:
قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال:
الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ
الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى
الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ،
فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا
اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي
دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى
حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ
الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى
يُتْرُكُهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا
عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. ولكون
الصديق هو الأمثل في الإيمان،
بعد الأنبياء، فإن ابتلاءه كان شديدًا.
ولنتجول في حياة الصديق رضي الله
عنه، نتعرف على طرف من ابتلائه وطرف
من ثباته.

ثباته
أمام فتنة المال


وقصدت أن أبدأ بها؛ لأنها فتنة عظيمة، وكثير من
المؤمنين يثبتون أمام
فتن شتى، فإذا جاءوا إلى فتنة المال، وقعوا فيها،
ويقول أحد الصحابة:
ابتلينا بالضراء، فصبرنا، وابتلينا بالسراء، فلم
نصبر. حتى أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم
يقول في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن
صحيح، وكذلك رواه الإمام أحمد
عن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً،
وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ. وإن
كان هناك بشر لا يهتز أمام المال
غير الأنبياء، فهو أبو بكر الصديق رضي
الله عنه، لقد شاهدنا كثيرًا من
المتقين، وشاهدنا كثيرًا من الزاهدين في
الدنيا، وسمعنا عن أمثلة
عظيمة، ومواقف مشهودة، لكننا لم نسمع عن رجل اعتاد
أن ينفق كل ماله في
سبيل الله، لا يُبقي لأهله، ولنفسه شيئًا، ليس مرة أو
مرتين يفعلها،
ولكنه اعتاد الثبات على ذلك، ونحن تحدثنا من قبل عن إنفاقه
رضي الله
عنه في الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في فترة
مكة،
أو المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله لذلك، لكن نذكر هنا طرفًا سريعًا

من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة: - فها هو الصديق
بعد أن
أنفق ماله كله، يمتلك مقاليد الحكم في المدينة، ويضع يده على بيت
المال،
وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال
المستديم،
فيأتي خراجها، وتأتي صدقاتها، ويمتلأ بيت المال، ثم ها هي فارس
تفتح،
والشام كذلك تفتح، وتأتي الغنائم وفيرة، والكنوز عظيمة، فماذا فعل
الصديق
رضي الله عنه؟ ما تغير قدر أنملة، وما فتن بالدنيا لحظة، ليس
الصديق
الذي يتبدل، لقد أعطى الدنيا حجمها، وزهد فيها، وأعطى الآخرة حجمها

كذلك فعمل لها، فقد سمع من حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حديثًا
وضح
فيه حجم الدنيا مقارنة بالآخرة، وهو الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن
المستورد
بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ
أَحَدُكُمْ
إِصْبَعُهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ.
يعني
التي تلي الإبهام. ما غاب عن ذهنه أبدًا هذا المقياس، ومن أجل
هذا لم
يفتن بالدنيا لحظة، لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا، ومرشده ومرشدنا
رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فوضعها نصب عينيه،
روى مسلم عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إِنَّ الدُّنْيَا
حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا،
فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا
الدُّنْيَا وَاتَّقُوا
النِّسَاءَ. - أصبح الصديق ذات يوم بعد أن
ولي الخلافة، وعلى يده أبراد
(والبُرد هو الثوب المخطط) فكان يحمل هذه
الأبراد متجهًا إلى السوق؛
ليتاجر كعادته، حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه
عمر بن الخطاب، فسأله:
أين تريد؟ قال:إلى السوق. قال
عمر: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين.
قال: فمن أين أطعم عيالي؟
ولنتأمل، يده على بيت المال بكامله، ويتساءل
هذا السؤال! فأشار عليه أن
يذهبا إلى أبي عبيدة أمين بيت المال، ليفرض
له قوته وقوت عياله، فذهبا
إليه، ففرض له، إلى هذه الشفافية في الضمير،
والأمانة في اليد، والنقاء في
النفس وصل الصديق رضي الله عنه، ينزل
إلى السوق، وهو خليفة كي يتاجر حتى
يطعم عياله، وطبعًا عف الصديق، فعفت
الرعية، لم نسمع عن وزير من وزراء، أو
مستشار من مستشاريه هرّب أمواله
إلى بنوك فارس والروم. - وانظروا
إلى الصديق، وهو على فراش الموت، بعد
رحلة طويلة من الجهاد المضني، انظروا
إليه كيف يقول وهو رأس الدولة
التي دكت حصون فارس والروم، يقول مخاطبًا
عائشة رضي الله عنها: أما إنا
منذ ولينا أمر المسلمين، لم نأكل لهم
دينارًا، ولا درهمًا، ولكنا قد
أكلنا من جريش طعامهم (يقصد الطعام البسيط)
في بطوننا، ولبسنا من خشن
ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين
قليل ولا كثير، إلا هذا
العبد الحبشي، وهذا البعير الناضب، وهذه القطيفة
(كساء في بيته رضي
لله عنه)، فإذا مت فابعثي بهن (العبد الحبشي، والبعير
الناضب،
والقطيفة) إلى عمر وابرأي منهن. تقول السيدة عائشة: ففعلت.
فلما جاء
الرجل الذي أرسلته السيدة عائشة إلى عمر، بكى حتى جعلت دموعه
تسيل في
الأرض، ويقول: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب مَن بعده، رحم
الله أبا بكر،
لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده. وجاء
في رواية
أخرى موقفًا آخر له عند الوفاة يصور مدى عفته وثباته، إذ قال: إن
عمر
لم يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلاف درهم وإن حائطي الذي بمكان
كذا
وكذا فيها. يقصد أن عمر قد أرغمه على تقاضي أجر من بيت مال
المسلمين،
يرى الصديق أنه كان كبيرًا، مع أنه لم يكن يكفي إلا الكفاف، كما
ثبت في
روايات أخرى، فالآن سيتبرع لبيت المال بحائط له في مقابل هذا المال.

فلما توفي الصديق ذُكِر ذلك لعمر فقال: رحم الله أبا بكر، لقد
أحب أن
لا يدع لأحد بعده مقالًا. هذا طرف من ثباته أمام فتنة المال


فتنة غلبة أهل الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه

فتنة
عظيمة هائلة مروعة، لا نستطيع في هذا المضمار الضيق أن نوفيها
حقها، لكن
نشير فقط إلى ثبات الصديق رضي الله عنه، هذا الثبات الذي فاق
كل تخيل، حتى
فاق تخيل الصحابة أنفسهم، والفتنة كانت هائلة، ارتدت
جزيرة العرب بكاملها
إلا ثلاث مدن وقرية: مكة، والمدينة، والطائف،
وقرية جواثا في منطقة هجر
بالبحرين، لا أقول عشرات الآلاف من المرتدين،
بل مئات الآلاف، وليس فقط
بمنع الزكاة، بل منهم من ارتد كلية عن
الإسلام، ومنهم من فتن المسلمين في
دينهم وعذبهم وقتلهم، ومنهم من ادعى
النبوة، غلبة عظيمة لأهل الردة،
وقلة في المؤمنين، في هذا الموقف
الحرج رأى جمهور الصحابة أن اعتزال
الفتنة بتركها هو الأولى، قالوا
للصديق رضي الله عنه: الزم بيتك،
وأغلق عليك بابك، واعبد ربك حتى يأتيك
اليقين. يأس كامل في الإصلاح،
وإحباط يملأ القلوب، موقف من أصعب مواقف
التاريخ قاطبة، لكن الصديق رضي
الله عنه كان أعلم الصحابة، وأفقه
الصحابة، وأثبت الصحابة، تحول الشيخ
الكبير الرحيم المتواضع ضعيف
البنية إلى أسد هصور، عظيم الثورة، شديد
البأس، عالي الهمة، سريع
النهضة، أصر على قتال المرتدين جميعًا وفي وقت
متزامن، قال في شأن
مانعي الزكاة: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة
والزكاة، فإن الزكاة حق
المال، والله لو منعوني عناقا (الأنثى من ولد
الماعز) وفي رواية
عقالًا (وهو الحبل الذي يربط به البعير) كانوا يؤدونها
إلى رسول الله
لقاتلتهم على منعها. وقال في شأن بقية المرتدين،
والذين يبلغون مئات
الآلاف: أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي. أي
تقتطع عنقي، بهذه العزيمة،
وهذه العقيدة، لما رأى الصحابة هذا الإصرار من
الصديق رضي الله عنه
انشرحت صدورهم لهذا الحق الذي أجراه الله على لسان هذا
الرجل، يقول عمر
كما جاء في صحيح البخاري: فوالله ما هو إلا أن قد
شرح الله صدر أبي
بكر، فعرفت أنه الحق. وهكذا أخرج الصديق رضي الله
عنه الجيوش تلو
الجيوش، أحد عشر جيشًا في ملحمة خالدة، تضحيات عظيمة، تعب
وجهد، ودم
وشهادة، ثم نصر وتمكين وسيادة، وأشرقت الأرض من جديد بنور ربها،
وحكمت
الجزيرة العربية مرة ثانية بالقرآن، وأعز الله الإسلام وأهله، وأذل
الله
الشرك وأهله، كل هذا في عام واحد، عام واحد فقط، والحمد لله رب
العالمين.


فتنة غلبة أهل فارس والروم

وفارس
والروم في ذلك الزمان هما أعظم قوتين عسكريتين في الأرض،
يقتسمان العالم،
ويهيمنان على معظم مساحة المعمورة، دول متقدمة صاحبة
حضارة، ومال، وعمران،
وجنات وأنهار، وأعداد لا تحصى من الرجال، وسلاح
لا مثيل له في زمانهم،
وأعوان في كل بقاع الأرض، وتاريخ في الحروب،
وتنظيماتها، وخططها، وطرقها،
الصديق رضي الله عنه في الطرف الآخر يحكم
دولة أقصى مساحتها جزيرة العرب،
لم تتعود على الحروب النظامية، فقيرة
الموارد، ضعيفة السلاح قليلة العدد،
ليس هذا فقط، ولكنها لم تنفض يدها
بعد من حروب أهلية طاحنة أكلت الأخضر
واليابس، تلك هي حروب الردة، يخرج
الصديق من هذه الحروب الهائلة بعزيمة
أقوى من الجبال، ولا تهزه عروش
كسرى وقيصر، ويأخذ قرارًا عجيبًا، وهو فتح
فارس، وذلك بعد أقل من شهر
على انتهاء حروب الردة، ثم يتبعه بقرار آخر أعجب
بعد خمسة شهور، وهو
فتح الشام، وقتال الروم في وقت متزامن مع قتال الفرس،
وكما فصلنا من
قبل، فالصديق كان على يقين من النصر، ولم يكن يساوره أدنى شك
في أن
الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، وخاض معاركه بهذه الروح، وكتب الله
له
النصر بعد جهاد طويل، ومعارك هائلة، وضع فيها الصديق رضي الله عنه خططًا
عبقرية، وقال فيها أراءً سديدة وفعل فيها أعمالًا مجيدة.

الثبات
على فتنة الطاعة وعبادته


وقد يظن ظان
أن هذا الأمر بسيط، وهين إلى
جوار غيره من الفتن التي تعرضنا لذكرها
آنفًا، فتن المال، والرئاسة،
والأولاد، والإيذاء، وضياع النفس، وترك
الديار، وغلبة أهل الباطل، قد يظن
ظان أن من ثبت في هذه الأمور الشديدة
سيثبت حتمًا في أمر الطاعة، والعبادة،
فهي أمور في يد كل مسلم، يستطيع
أن يصلي ويصوم ويزكي، بديهيات عند كثير من
الناس، لكن هذه لمن أعظم
الفتن، قد يسهل على الإنسان أن يفعل شيئًا عظيمًا
مرة واحدة أو مرتين
أو ثلاث في حياته، لكن أن يداوم على أفعال العبادة كل
يوم كل يوم، بلا
كلل ولا ملل ولا كسل، فإن هذا يحتاج إلى قلب عظيم، وإيمان
كبير، وعقل
متيقظ ومنتبه، لا يقوى على ذلك إلا القليل من الرجال، وقد كان
الصديق
رضي الله عنه سيد هذا القليل بعد الأنبياء، أخرج البخاري ومسلم عن
أبي
هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ
أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا
عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ،
فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ
دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ،
وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ
دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ
كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ
دُعِيَ مِنْ بَابَ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّيَامِ
دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَانِ. فبعض
الناس يكون مكثر في الصلاة، فيدخل
من باب الصلاة، وهكذا. قال أبو
بكر رضي الله عنه: مـا على أحد يدعى من
تلك الأبواب من ضرورة، فهل
يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول
الله
صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، وَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ
تَكُونَ
مِنْهُمْ. ذلك أن الصديق رضي الله عنه كان مكثرًا، وبصفة
مستديمة من كل
أعمال الخير، ومر بنا من قبل كيف أنه أصبح صائمًا ومتبعًا
لجنازة
وعائدًا لمريض ومتصدقًا على مسكين؟ هكذا حياته كلها لا قعود، ولا
فتور،
كان رضي الله عنه يتحرج جدًا من فوات فضيلة أو نافلة، روى أحمد، وأبو
داود، والحاكم في صحيحه عن جابر رضي الله
عنه أنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:
مَتَى تُوتِرُ؟ قال: أول الليل بعد
العتمة. أي بعد صلاة
العشاء، قال: فَأَنْتَ يَا عُمَرُ؟ قال:آخر الليل.
قال:
أَمَا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَأَخَذْتَ بِالثِّقَةِ. أي
بالحزم،
والحيطة مخافة أن يفوت الوتر. وَأَمَا أَنْتَ يَا عُمَرُ
فَأَخَذْتَ
بِالْقُوَّةِ. أي بالعزيمة على الاستيقاظ قبل طلوع
الفجر؛ لصلاة قيام
الليل، ثم الوتر. فالصديق رضي الله عنه لا يتخيل أن
يفوته الوتر، ماذا
يحدث لو استيقظ على صلاة الفجر دون أن يصلي الوتر؟ في
حقه تكون كارثة،
لذلك يأخذ نفسه بالحزم يصليه أول الليل، ثم إذا شاء الله
له أن يستيقظ،
ويصلي قيام الليل صلى، ولا يعيد الوتر، بينما عمر بن الخطاب
رضي الله
عنه كان يأخذ بالعزيمة، فهو يعلم علم اليقين أنه سيستيقظ الفجر
ليصلي،
منهجان مختلفان، ولكنهما من أروع مناهج الصحابة رضي الله عنهم
أجمعين،
ومع حرصه، وطاعته، ومثابرته، وثباته على أمر الدين كان شديد
التواضع،
لا ينظر إلى عمله، بل كان دائم الاستقلال له، كان يقول: والله،
لوددت
أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد. وروى الحاكم عن معاذ بن جبل
رضي الله
عنه قال: دخل أبو بكر حائطًا (حديقة) وإذا بطائر في ظل
شجرة، فتنفس أبو
بكر الصعداء، ثم قال: طوبى لك يا طير، تأكل من
الشجر، وتستظل بالشجر،
وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك. وكان
يقول إذا مُدح: اللهم
أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم،
اللهم اجعلني خيرًا مما
يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما
يقولون. رضي الله عن
الصديق، وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه
وسلم أجمعين.

ثباته أمام فتنة الموت

والموت
فتنة عظيمة،
والفراق ألمه شديد، وكم من البشر يسقطون في هذه الفتنة، إلا أن
الصديق
رضي الله عنه، كان كما عودنا رابط الجأش، مطمئن القلب، ثابت القدم
أمام
كل العوارض التي مرت به في حياته: - مر بنا موقفه من وفاة ابنه
عبد
الله بن أبي بكر رضي الله عنهما شهيدًا، وكيف تلقى الأمر بصبر عظيم،
وبرضا
واسع. - وماتت أيضًا زوجته الحبيبة القريبة إلى قلبه أم رومان
رضي
الله عنها، والدة السيدة عائشة رضي الله عنها، وعبد الرحمن بن أبي بكر

رضي الله عنه، ماتت في السنة السادسة من الهجرة في المدينة، بعد رحلة
طويلة
مع الصديق في طريق الإيمان، أسلمت قديمًا وعاصرت كل مواقف الشدة
والتعب،
والإنفاق، والإجهاد، والهجرة، والنصرة، والجهاد، والنزال، كانت خير

المعين لزوجها الصديق رضي الله عنه، ثم ماتت، وفارقت، وفراق الأحبة أليم،
لكن
صبر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صبرًا جميلًا، وحمد واسترجع. -
ومات
كثير من أصحابه وأحبابه ومقربيه، مات حمزة بن عبد المطلب، ومات مصعب
بن
عمير، ومات أسعد بن زرارة، ومات سعد بن معاذ، ومات جعفر بن أبي طالب،
ومات
زيد بن حارثة، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين، ماتوا وسبقوا إلى
جنة
عرضها السماوات والأرض فانتظر الصديق رضي الله عنه صابرًا غير مبدل:

[مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] {الأحزاب:23}
. - وجاءت فتنة كبيرة، فتنة موته
هو شخصيًا رضي الله عنه وأرضاه،
ونام على فراش لا بد من النوم عليه،
نام على فراش الموت، فماذا فعل وهو في
لحظاته الأخيرة؟ ماذا فعل وهو
يعلم أنه سيغادر الدنيا وما فيها؟
ماذا فعل وهو سيترك الأهل والأحباب
والأصحاب؟ هل جزع أو اهتز؟
حاشا لله، إنه الصديق رضي الله عنها وأرضاه،
ها هو على فراش الموت يوصي
عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثبات، وثقة،
واطمئنان: اتق الله يا
عمر، واعلم أن لله عملًا بالنهار لا يقبله
بالليل، وعملًا بالليل لا يقبله
بالنهار. يحذره من التسويف، وتأجيل
الأعمال الصالحة، ويحفزه على
السبق الذي كان سمتًا دائمًا للصديق في
حياته. وأنه لا يقبل نافلة
حتى تؤدي فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت
موازينه يوم القيامة، باتباعهم
الحق في دار الدنيا، وثقله عليهم، وحق
لميزان يوضع فيه الحق غدًا أن يكون
ثقيلًا، وإنما خفت موازين من خفت
موازينه يوم القيامة، باتباعهم الباطل في
دار الدنيا وخفته عليهم، وحق
لميزان يوضع فيه الباطل غدًا أن يكون خفيفًا،
وإن الله تعالى ذكر أهل
الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم
قلتَ: إني أخاف ألا
ألحق بهم. وإن الله تعالى ذكر أهل النار بأسوأ
أعمالهم، ورد عليهم
أحسنه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني لأرجو أن لا أكون مع
هؤلاء. ليكون العبد
راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله، ولا يقنط من
رحمة الله، فإن أنت حفظت
وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت ولست تعجزه.
انظر إلى صدق
الوصية، وحرص الصديق أن يصل إلى بكل المعاني التي كانت في
قلبه إلى عمر
بن الخطاب الخليفة الذي سيتبعه في خلافة هذه الأمة ثم
انظر إلى هذا
الموقف العجيب، وهو ما يزال على فراش الموت، استقبل المثنى
بن حارثة
رضي الله عنه قائد جيوش المسلمين آنذاك في العراق، وكان قد جاءه
يطلب
المدد لحرب الفرس، فإذا بالصديق الثابت رضي الله عنه لا تلهيه مصيبة
موته،
ولا تصده آلام المرض، وإذا بعقله ما زال واعيًا متنبهًا، وإذا بقلبه
ما
زال مؤمنًا نقيًا، وإذا بعزيمته، وبأسه وشجاعته كأحسن ما تكون، أسرع
يطلب
عمر بن الخطاب الخليفة الجديد، يأمره وينصحه ويعلمه، قال: اسمع
يا عمر
ما أقول لك، ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا
مت
فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة، وإن عظمت عن
أمر
دينكم، ووصية ربكم، وقد رأيتني مُتَوَفّى رسول الله وما صنعت، ولم
يُصَب
الخلق بمثله، وإن فتح الله على أمراء الشام، فاردد أصحاب خالد إلى
العراق
(سيدنا خالد بن الوليد كان قد انتقل بجيشه من العراق إلى الشام)،
فإنهم
أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجراءة عليهم. أرأيت
عبد
الله كيف يكون الصديق رضي الله عنه وهو في هذه اللحظات الأخيرة؟ لم

ينس الجهاد، ولم يشغل عن استنفار المسلمين، أرأيت كيف أنه وحتى اللحظة
الأخيرة
في حياته ما زال يعلم ويربي ويوجه وينصح؟ هذا هو الصديق
الذي عرفناه.
ودخلت عليه ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها،
وهو في آخر
اللحظات، ونفسه تحشرج في صدره، فآلمها ذلك، فتمثلت هذا البيت من
الشعر:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى إِذَا
حَشْرَجَتْ
يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ أي لا يغني المال عن
الإنسان إذا جاء
لحظة الوفاة، فخشي الصديق رضي الله عنه أن تكون قالت ما
قالت ضجرًا، أو
اعتراضًا، فتقول عائشة رضي الله عنها، فنظر إلى كالغضبان،
ثم قال في
لطف: ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله أصدق: [وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ
مِنْهُ تَحِيدُ] {ق:19} . هكذا
ما زال يربي ويعلم، ثم جاءوا لهم بأثواب جديدة كي يكفن فيها فردها، وأمر
أن
يكفن في أثواب قديمة له بعد أن تعطر بالزعفران، وقال: إن الحي
أحوج
إلى الجديد ليصون به نفسه، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى.

هكذا بهذا الثبات العظيم، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي
الله
عنها، وأن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر ما تكلم
به الصديق في هذه الدنيا قول الله تعالى: [تَوَفَّنِي
مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ]
{يوسف:101} . - غير أنه مع كل ما سبق
من فتن عرضت للصديق في
حياته إلى لحظة موته، فإن كل هذه الفتن تهون،
وتضعف، وتتضاءل أمام الفتنة
العظمى، والبلية الكبرى، والمصيبة القصوى
التي لحقت به وبالمسلمين، لما مات
ثمرة فؤاد الصديق، وخير البشر، وسيد
الأنبياء والمرسلين، وحبيب الله، لما
مات النور المبين الذي أضاء الأرض
بنبوته، وعلمه، وخلقه، ورحمته، لما مات
رسول الله محمد صلى الله عليه
وسلم. أعظم فتنة مرت بالصديق رضي الله
عنه، وأعظم فتنة مرت بالصحابة
رضوان الله عليهم أجمعين، وكان من فضل الله
على الصديق رضي الله عنه
أنه مَنّ عليه بثبات يوازي المصيبة، وبوضوح رؤية
يقابل الفتنة، وبنفاذ
بصيرة يكشف البلوى، وينير الطريق للصديق ولمن معه من
المسلمين. وفي
موضوع ثبات الصديق رضي الله عنه يقول علي بن أبي طالب
رضي الله عنه عن
الصديق رضي الله عنه جملة قصيرة لكن عظيمة المعاني قال:
كان الصديق رضي
الله عنه كالجبل، لا تحركه القواصف، ولا تُزيله العواصف.
رضي الله عن
الصديق وعن الصحابة أجمعين. < ثباته
أمام فتنة الرئاسة
والمنصب


فتنة الرئاسة فتنة عظيمة، وابتلاء كبير،

وكثير من الناس يعيش حياة التواضع، فإذا صعد على منبر الحكم تغير، وتبدل،
وتكبر،
فتنة عظيمة، وانظر إلى الحسن البصري يقول في كلمة عظيمة له: وآخر
ما
يُنزع من قلوب الصالحين، حب الرئاسة. أما الصديق رضي الله عنه،
فإنه قد
نزع منه حب الرئاسة منذ البداية، كان يعيش قدرًا معينًا من التواضع

قبل الخلافة، وهذا القدر تضاعف أضعافًا مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا
نبالغ
إن قلنا: إن أعظم خلفاء الأرض تواضعًا بعد الأنبياء كان
الصديق رضي
الله عنه. والله لقد فعل أشياء يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع
إلى هذه
الدرجة؟ ولولا اليقين في بشريته لكانت شبيهة بأفعال الملائكة، هو قد سمع
من حديث حبيبه صلى الله عليه وسلم الحديث الذي
رواه مسلم عن أبي يعلى
معقل بن يسار رضي الله عنه: مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي
أُمُورَ
الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ لَهُمْ
إِلَّا
لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ. والصديق جهد
للمسلمين ونصح
للمسلمين كأفضل ما يكون الجهد والنصح، ولذا فهو ليس فقط يدخل
الجنة
معهم، بل يسبقهم إليها، كيف يتكبر الصديق، وهو الذي كان حريصًا طيلة

حياته على نفي كل مظاهر الكبر، والخيلاء من شخصيته، وكان يتحرى ذلك حتى في
ظاهره، يروي البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ
لَمْ يَنْظُرِ
اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وقعت
الكلمات في قلب أبي بكر،
وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، أسرع الصديق رضي الله عنه إلى
رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال: يا رسول الله، إن إزاري يسترخي إلا
أن تعاهده. أشعر
أنه قالها، وهو يرتجف، ويخشى من حكم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، لكن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أثلج صدره وطمأنه،
ووضح له متى يكون استرخاء
الإزار منهيًا عنه، قال: إِنَّكَ لَسْتَ
مِمَّنْ
يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ. شهادة من سيد الخلق، وممن لا
ينطق عن الهوى، إن
الصديق لا يفعل ذلك خيلاء، وكان من الممكن أن يقول له
إنك لست متعمدًا
للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى الحقيقة المجردة، تواضع
الصديق رضي
الله عنه. وإلى مواقف من حياة الصديق كخليفة ورئيس
وحاكم. ذكرنا بعض
المواقف له في السابق، ذكرنا موقفه مع أسامة بن
زيد رضي الله عنهما،
قبل ذلك وهو يودعه إلى حرب الروم في الشمال، والآن
نذكر بعض مواقفه
الأخرى: - موقف عجيب من مواقف
الخليفة الرئيس أبي بكر الصديق
رضي الله عنه، كان الصديق رضي الله عنه يقيم
بالسنح على مقربة من
المدينة، فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرمًا منه،
وذلك أيام الرسول
صلى الله عليه وسلم، وكان هو الوزير الأول لرسول الله صلى
الله عليه
وسلم، فسمع جارية تقول بعد مبايعته بالخلافة: اليوم لا
تحلب لنا منائح
دارنا. فسمعها الصديق رضي الله عنه فقال: بلى،
لعمري لأحلبنها لكم.
فكان يحلبها، وربما سأل صاحبتها: يا
جارية أتجدين أن أرغي لك أو أصرح؟
أي يجعل اللبن برغوة، أم بدون
رغوة، فربما قالت: أرغ. وربما قالت:
صرّح. فأي ذلك قالته فعل. -
موقف آخر أغرب، كان عمر بن الخطاب رضي الله
عنه يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء
في بعض حواش المدينة من الليل، فيسقي
لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها
وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح لها
ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق
إليها، فرصده عمر، فإذا هو بأبي
بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة فقال
عمر: أنت هو لعمري. وكان من
الممكن أن يكلف رجلا للقيام
بذلك، ولكنه الصديق، يشعر بالمسئولية تجاه
كل فرد من أفراد الأمة، كما أنه
رضي الله عنه قد آثر أن يخدمها بنفسه،
يربي نفسه على التواضع لله عز وجل،
ويربي نفسه على ألا يتكبر حتى على
العجوز الكبيرة العمياء. - أخرج
البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص
رضي الله عنهما، أن أبا بكر الصديق
رضي الله عنه قام يوم الجمعة فقال:
إذا كان بالغداة فاحضروا صدقات
الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا
بإذن. صدقات الإبل كانت قد جاءت
كثيرة إلى أبي بكر الصديق، فوضعوها في
مكان، وسيدخل في اليوم التالي أبو
بكر، وعمر رضي الله عنهما، ليقسما
هذه الصدقات، فسيدنا أبو بكر يحذر الناس،
فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا
الحظام لعل الله يرزقنا جملًا. فأتى
الرجل فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا
إلى الإبل، فدخل معهما، هنا الرجل ارتكب
مخالفة واضحة لخليفة البلاد،
ودخل عليه بغير إذن، مع كونه نبه على ذلك،
فالتفت إليه أبو بكر فقال:
ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه
الحظام، فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسمة
الإبل دعا الرجل، فأعطاه الحظام،
وقال: استقد. أي اقتص مني، كما ضربتك
اضربني، سبحان الله،
فقال عمر رضي الله عنه: والله لا يستقيد، لا
تجعلها سنة. يعني
كلما أخطأ خليفة في حق واحد من الرعية، قام المظلوم
بضرب الأمير فتضيع
هيبته، فقال الصديق رضي الله عنه: فمن لي من الله
يوم القيامة؟ فقال
عمر: أَرْضِهِ. فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة،
ورحلها وقطيفة
(أي كساء)، وخمسة دنانير، فأرضاه بها. هذا خليفة
البلاد، وقد ضرب
أحد رعاياه ضربة واحدة فقط، ولكنه يريد أن يُضْرب مكان
هذا السوط الذي ضرب،
حتى يقف أمام الله عز وجل يوم القيامة خالصًا،
ليس لأحد عنده شيء. -
بل اقرأ وصيته إلى جيوشه، وهي تخرج لحرب الروم،
في بعث أسامة بن زيد، ثم
بعد ذلك إلى فتح فارس، ثم إلى فتح الروم، كان
يوصيها بوصايا عجيبة، وكأنه
يوصي بأصدقاء، وليس بأعداء، كان يوصيهم
بالرحمة حتى في حربهم كان مما قال
لهم: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا
تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقطعوا
شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا
بقرة، ولا بعيرًا، إلا لمأكلة، وسوف تمرون
بأقوام قد فرغوا أنفسهم في
الصوامع، فدعوهم، وما فرغوا أنفسهم له. وتأمل
معي يا أخي، أيوصي بأحباب
أم يوصي بأعداء؟! والله ما عرف التاريخ
مثل حضارة الإسلام، ورقي
الإسلام، ونور الإسلام، ولكن أكثر الناس لا
يعلمون، أين هذا من حروب
الشرق والغرب؟ أين هذا من حروب غير
المسلمين؟ فالمسلمون قد علّموا
غيرهم الرحمة في كل شيء حتى في
الحرب.

ثباته
أمام فتنة الأولاد


فالمرء قد يقبل
أن يضحي تضحيات
كثيرة، إذا كان الأمر يخصه هو شخصيًا، ولكن إذا ارتبط
الأمر بأولاده،
فإنه قد يتردد كثيرًا، فغالبًا ما يحب الرجل أولاده أكثر من
نفسه، كما
أن ضعف الأولاد، ورقتهم، واعتمادهم على الأبوين، يعطي مسوغات قد
يظنها
الرجل شرعية للتخلف عن الجهاد بالنفس والمال، واقرأ قول الله عز
وجل:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ
تَعْفُوا
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]

{التغابن:14} . روى الترمذي،
وقال: حسن صحيح. أن رجلًا سأل ابن عباس
رضي الله عنهما عن هذه الآية قال:
هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة،
وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه
وسلم، فأبى أزواجهم، وأولادهم أن
يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه
وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله
عليه وسلم بعد ذلك، رأوا الناس قد فقهوا في
الدين، هموا أن يعاقبوهم
(أي يعاقبوا أولادهم)، فأنزل الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
وَإِنْ تَعْفُوا
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ] {التغابن:14} . الآية التالية مباشرة لهذه
الآية في سورة
التغابن تقول: [إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ
وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ]
{التغابن:15} . هكذا بهذا
التصريح،
التقرير الواضح: إنما أموالكم وأولادكم فتنة. أين أبو بكر
الصديق رضي
الله عنه وأرضاه من هذه الآيات؟ القضية كانت في منتهى
الوضوح في نظر
الصديق رضي الله عنه، وأوراقه كانت مرتبة تمامًا، الدعوة إلى
الله،
والجهاد في سبيله، ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة على كل

شيء، والصديق مع رقة قلبه، وعاطفته الجياشة، ومع تمام رأفته مع أولاده،
كان
لا يقدم أحدًا منهم، مهما تغيرت الظروف على دعوته، وجهاده، وما فتن بهم
لحظة. - أعلن الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة،
ودافع
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كاد أن يقتل، ولم يفكر أنه إذا

مات سوف يخلف وراءه صغارًا ضعافًا، محتاجين في وسط الكفار المتربصين، كان
يجاهد،
ويعلم أنه إذا أراد الحماية للذرية الضعيفة أن يتقي الله عز وجل،
وأن
ينطلق بكلمة الدعوة، وكلمة الحق أيًا كانت العوائق [وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا] {النساء:9} .
- لما هاجر الصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي من الفرح،
لأنه سيصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مليء بالمخاطر، مخلفًا
وراءه
ذرية في غاية الضعف، ويعلم أن قريشًا ستهجم على بيته لا محالة، وقد
حدث،
وضرب أبو جهل لعنه الله أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما، فسال الدم
منها،
ما رأى الصديق كل ذلك، كل ما رآه هو نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم،

وطريق الله عز وجل، ليس هذا فقط ولكنه حمل معه كل أمواله، كل ما تبقى بعد
الإنفاق
العظيم، خمسة آلاف درهم حملها جميعًا لرسول الله صلى الله عليه
وسلم،
وماذا ترك لأهله؟ ترك لهم الله ورسوله، يقين عجيب،
وثبات يقرب من ثبات
الأنبياء، أبو قحافة والد الصديق رضي الله عنه كان
طاعنًا في السن وقت
الهجرة، وكان قد ذهب بصره، دخل على أولاد الصديق، وهو
على وَجَل من أن
الصديق قد أخذ كل ماله، وترك أولاده هكذا، لكن الابنة
الواعية الواثقة
المطمئنة بنت الصديق أسماء رضي الله عنها، وعن أبيها، وضعت
يد الشيخ
على كيس مملوء بالأحجار توهمه أنه مال، فسكن الشيخ لذلك، الشيخ
الكبير
لن يفهم هذه التضحيات، ولن يفهمها أحد إلا من كان على يقين يقارب
يقين
الصديق رضي الله عنه. - الصديق يوظف أولاده في عملية خطيرة،
عملية
التمويه على الهجرة، عملية قد تودي بحياتهم في وقت اشتاط الغضب
بقريش،
حتى أذهب عقلها، عبد الله بن الصديق كان يتحسس الأخبار في مكة
نهارًا،
ثم يذهب ليلًا إلى غار ثور يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأباه
بما
يحدث في مكة، ويظل حارسًا على باب الغار حتى النهار، ثم يعود أدراجه
إلى
مكة، السيدة أسماء كانت حاملًا في الشهور الأخيرة من حملها، ومع ذلك،
فكان
عليها أن تحمل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
الصديق
في غار ثور سالكة طريقًا وعرًا، وصاعدة جبلًا صعبًا، وذلك حتى إذا
رآها
أحد لا يتخيل أن المرآة الحامل تحمل زادًا إلى الرسول وصاحبه، مهمة
خطيرة،
وحياتها في خطر، لكن ما أهون الحياة إن كان الله هو المطلب، وإن
كانت
الجنة هي السلعة المشتراة. - ومر بنا كيف تبرع بكل ماله في
تبوك، وما
ترك شيئًا لأولاده رضي الله عنه، وأرضاه، فلما سأله رسول الله
صلى الله
عليه وسلم عن ماذا أبقى لأهله؟ قال: أبقيت لهم الله
ورسوله. - ثم ها
هو الصديق يقدم فلذة كبده عبد الله بن أبي بكر رضي
الله عنهما، ها هو
يقدمه شهيدًا في سبيل الله، علمه حب الجهاد، وحب الموت
في سبيل الله،
فأصيب في الطائف بسهم، ولم يمت في ساعتها، بل بقى أيامًا
وشهورًا،
ويقال: إنه خرج بعد ذلك إلى اليمامة في حروب المرتدين، واستشهد
هناك.
الثابت أنه استشهد في خلافة الصديق رضي الله عنه، وكأن الله أراد أن
ينوع
عليه الابتلاءات حتى يُنقى تمامًا من أي خطيئة، بل إنه قال كلمة عجيبة
لما رأى قاتل ابنه عبد الله وكان قد أسلم بعد أن قتله قال: الحمد
لله
الذي أكرمه بيديك (يعني أكرمه الشهادة) ولم يُهْلِكّ بيده (أي الموت
كافرًا)
فإنه أوسع لكما. سعيد لأن ابنه قد مات شهيدًا في سبيل الله،
وأيضًا
لأن هذا الرجل لم يقتل على يد عبد الله، فكانت أمامه فرصة للإسلام،
أي
رجل هذا؟! - لكن إن كان لنا أن نفهم كل هذه التضحيات، فإن له
موقفًا مع
ولد من أولاده يتجاوز كل حدود التضحيات المعروفة، والمألوفة لدى
عامة
البشر، الصديق رضي الله عنه في غزوة بدر يكون في فريق، فريق المؤمنين،

وابنه البكر عبد الرحمن بن أبي بكر في الفريق الآخر، فريق المشركين، ولم
يكن
قد أسلم بعد، وإذا بالصديق رضي الله عنه يبحث عن فلذة كبده، وثمرة
فؤاده؛
ليقتله، نعم ليقتله! وقف كفر الابن حاجزًا بين الحب الفطري
له، وبين
حب الله عز وجل، فقدم الصديق حب الله عز وجل دون تردد، ولا تفكير،
وضوح
الرؤية، نعم وضوح الرؤية إلى هذه الدرجة، لكن بفضل الله لم يوفق
الصديق
في أن يجد ابنه؛ لأن الله مَنّ عليه بعد ذلك بالإسلام، أسلم يوم
الحديبية،
ولما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت لي يوم بدر، فملت عنك،
ولم أقتلك. أي
رأيتك هدفًا سهلًا في بدر، وكان عبد الرحمن بن أبي
بكر رضي الله عنه من
أمهر الرماة في فريق المشركين، فقال أبو بكر في ثبات
وثقة: ولكنك لو
أهدفت إليّ، لم أمل عنك. وسبحان الله، وكأن
الله أراد أن يشبه أبا بكر
بإبراهيم عليه الصلاة والسلام أكثر وأكثر، فقد
ضرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم إبراهيم مثلًا للصديق بعد تخيير الحكم في
أسارى بدر، أراد
الله أن يشبه أبا بكر بالخليل إبراهيم عليه الصلاة
والسلام، الذي ابتلي
البلاء المبين بذبح ابنه، فيبتلي الصديق كذلك بالبحث
عن ابنه ليذبحه
بيده، أيّ مثل رائع ضربه الصديق لهذه الأمة؟! كيف
تغلّب على هذا المعوق
الخطير الذي كثيرًا ما خلف أناسًا عن السير في طريق
الدعوة، وعن السير
في طريق الجهاد؟ [شَغَلَتْنَا
أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا]
{الفتح:11}.
لكن هذا لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة لاتباع رسول الله صلى
الله عليه
وسلم، والسبق إلى الخيرات، والشعور بأهمية الدعوة، واستحقار
أمر الدنيا،
وتعظيم الآخرة، كان كل ذلك وراء هذا اللون العجيب من
الثبات.


فتنة ضياع النفس وثباته
أمامها


والنفس غالية، وإن ذهبت النفس
فلا عودة لها
إلى يوم القيامة، لكن الصديق واضح الرؤية، وثاقب النظر، له
قواعد ثابتة
تحكم حياته، من هذه القواعد: [قُلْ لَنْ
يُصِيبَنَا إِلَّا مَا
كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ
المُؤْمِنُونَ] {التوبة:51}.
من هذه القواعد: [لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ

إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا
يَسْتَقْدِمُونَ]
{يونس:49}. من
هذه القواعد: [إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ
المُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا
عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ
أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُمْ
بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:111} . من هذه القواعد:
[وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ
وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ
هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا
لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا
بِاللهِ
هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]
{الحج:78} .
من هذه القواعد: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ

أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ
الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا
مَتَاعُ
الغُرُورِ] {آل عمران:185} . إذا نظرت إلى هذه القواعد
مجتمعة
أدركت جانبًا لا بأس به من حياة الصديق، تعالوا نستمتع بوقفات مع
الصديق
رضي الله عنه، نرقب كيف خلصت نفسه من حظ نفسه: - تروي السيدة
عائشة
رضي الله عنها أنه لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قرابة
الأربعين رجلًا (يعني في أوائل فترة مكة) ألح الصديق رضي الله عنه
على
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: يَا أَبَا
بَكْرٍ
إِنَّا قَلِيلٌ. فلم يزل أبو بكر يلح، حتى ظهر رسول الله صلى
الله عليه
وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، ويبدو
أن
هذا لم يكن ظهورًا كاملًا للمسلمين؛ لأنه من المعروف أن الظهور الكامل
لم
يكن إلا بعد إسلام الخطاب رضي الله عنه، ولما ذهبوا إلى المسجد الحرام
لم
يكتف الصديق بمجرد الظهور، فوقف خطيبًا يدعو إلى الله تعالى، ويدعو إلى
رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، لذا
يقولون:
إن الصديق أول خطيب في الإسلام. بعد رسول الله طبعًا، ماذا
كان رد فعل
المشركين؟ ثار المشركون ثورة عنيفة، وقاموا يضربون
الصديق ضربًا
عنيفًا، تنكروا لأعرافهم في الجاهلية، ونسوا مكانة الصديق
المرموقة في
المجتمع المكي القديم، وأكل الحقد قلوبهم، وما زال بهم الحقد
حتى أعمى
أبصارهم، دنا الفاسق عتبة بن ربيعة من الصديق رضي الله عنه
وأرضاه،
وجعل يضربه بنعلين مخصوفين في وجهه، حتى ما يعرف وجهه من أنفه،
وذلك من
شدة تورم و
 الموضوع : الصديق ونعمة الثبات  المصدر :منتديات تقى الإسلامية  الكاتب:  ابراهيم كمال

 توقيع العضو/ه:ابراهيم كمال

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 

الصديق ونعمة الثبات

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 

مواضيع مماثلة

+
(( تذكر جيداً: يمنع وضع صورذوات الأرواح ويمنع الردود الخارجة عن الشريعه ويمنعالاشهار باى وسيلة والله شهيد ))
صفحة 1 من اصل 1

تذكر قول الله تعالى :{{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }} سورة ق الآية 18


صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات تقى الإسلامية :: .:: المنتديات الشرعية ::. :: ملتقيات علوم الآلة :: نصرة رسول الله :: السيرة والتاريخ-