عندما
هاجر ـ عليه الصلاة والسلام ـ من مكة لم يهجر قلبه تراب مكة ، ولا الكعبة
الرابضة فى قلب مكة ، ولقد أعلن ـ عليه السلام ـ ذلك بعبارة صحيحة عندما
التفت إلى مكة وهو يودعها قائلاً : إنك لأحب بلاد الله إلىّ ، ولولا أن
أهلك أخرجونى ماخرجت.
• وعندما هاجر الرسول من مكة ، لم يهجر قريشاً
، ولا بنى هاشم ، فلقد كان يحب الجميع ويتمنى لهم الهداية والخير ، كما
أنه ـ وهو الوفى ـ لم ينس لبنى هاشم ـ مسلمهم وكافرهم ـ مواقفهم معه عندما
قادتهم عصبية الرحم فحموه من كل القبائل، ودخلوا معه شعب أبى طالب يقاسون
معه ومع المسلمين الجوع والفاقة ، ولا يمنّون عليه بذلك ، مع أنهم على غير
دينه ، لكنه الولاء للأرحام.
• فالرسول المهاجر ـ عليه السلام ـ لم
يهجركل ذلك بل حمله معه فى قلبه ، يحنّ إلى ذلك اليوم الذى يعود فيه إلى
مراتع الصبا ، و إلى الرحم الذى وقف معه حتىّ قال قائلهم وسيدهم أبو طالب :
اذهب يا ابن أخى فقل ما شئت فوالله لن أسلمك أبداً.... مع أنه لم يكن على
دينه!!
• وإنما كانت هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة
هجراً للوثنية المسيطرة التى لايريد أصحابها أن يتعاملوا بمنطق الدين أو
منطق العقل أو منطق الأخلاق ... فهذه وثنية يجب أن تهجر وأن يهاجر من مناطق
نفوذها وإشعاعاتها.
• وإنما هاجر الرسول أيضاً ، وهجر أيضا ـ إلى
جانب الوثنية المسيطرة ـ تلك العصبية المستعلية التى تعرف منطق القوة ،
ولاتعرف منطق الحق ، وليس فى وعيها ولا فى قاموسها أن تهادن الإيمان، وأن
تترك مساحة للتفاهم والحوار ، وبالتالى تصبح الحياة معها ـ بعقيدة إيمانية
بعيدة عن إشعاعاتها ـ أمراً مستحيلاً....
• إننا نريد أن يفهم مضمون
الهجرة الإسلامية كما ينبغى أن يفهم ، وأن تكون هجرة الرسول هى المرجعية
لهذا الفهم ، فقد بعث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ (رحمة للعالمين) فكيف
تكون إذن رحمته بالقوم الذى انتسب إليهم ، أو بالقوم الذين عاش معهم ، أو
بالأرض الطاهرة التى نشأ فيها ، وتربى فى بطاحها وتنسم عبيرها ، وشاهد جموع
الزاحفين إلى أرضها الطاهرة من كل فج عميق ؟!!
• إن رحمته ـ
بالضرورة هنا ـ لابد أن تكون أكبر من أى رحمه أخرى ...
• ولهذا نراه
ـ عليه السلام ـ يرفض دائماً أن يدعو على أهل مكة ، وحتى وهو فى هذه
اللحظة البالغة الصعوبة ، عندما وقع فى حفرة حفروها له فى موقعة أحد (3هـ) ،
وتناوشته سهامهم من كل مكان ، وسالت دماؤه الطاهرة على جبل أحد الذى كان
يتبادل الرسول ـ عليه السلام ـ الحب معه ، لأن بعض قطرات دمائه الزكية قد
اختلطت بتراب أحد الطاهر ، فأصبحا حبيبين... !!
• حتى فى هذه اللحظة
البالغة الصعوبة لم يستطع لسانه الزكى ، ولا قلبه التقىّ أن يدعو عليهم ،
ولا أن يشكوهم إلى الله ، وإنما كان يردد على مسمع من الناس جميعاً: اللهم
اهد قومى فإنهم لا يعلمون
• وعندما كان يرى تمادى قريش فى الحرب ،
كان يتأسف عليهم ويقول: ويح قريش أكلتهم الحرب لوتركونى لتركتهم ، لايحولون
بينى وبين الناس...
• وكم راودته الجبال الشم ـ بأمر من الله ـ أن
تطبق عليهم فكان يرفض ويقول : لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله
ويوحده. وعندما جاءته فرصة السلام معهم أصرعليها، مع تعنتهم فى الشروط
تعنتاً أغضب أصحابه ، لكنه كان يريد لهم الحياة ، وألا تستمر الحرب فى
أكلهم ، وألا يبقوا ـ وهم قومه وشركاؤه فى الوطن ـ مستمرين فى تأليب
القبائل عليه لدرجة أنهم أصبحوا (العقبة الكأداء) فى طريق الإسلام ؛ مما
يفرض عليه بأمر الله الجهاد لإزالة هذه العقبة ، ونجح الرسول فى إزالة
عقبتهم بقبول شروطهم المجحفة ، حباً لهم ، وحفاظاً على بقائهم ، وأيضاً
لإفساح الطريق أمام دين الله.
• أما حين دخل مكة ـ عليه الصلاة
والسلام ـ فاتحا فقد حافظ بكل قوة على كرامتهم ودمائهم ، ولم يقبل مجرد
كلمة خرجت من فم سعد بن عبادة ـ أحد الصحابة والقادة الأجلاء ـ وذلك عندما
قال اليوم يوم الملحمة) فنزع الراية منه ، وأعطاها لابنه قيس
وقال (لا: بل اليوم يوم المرحمة ) ، اليوم يعزّ الله قريشاً ...
•
وعندما استسلمت مكة كلها تماماً ، ووقف أهل مكة ينتظرون حكمه فيهم مستحضرين
تاريخهم الظالم معه ... لكنهم سرعان ما تذكروا أنه الرءوف الرحيم
الطاهرالبرىء من رغبات الانتقام أو المعاملة بالمثل... ، فلما سألهم :
ماتظنون أنى فاعل بكم ، قالوا ،أخ كريم وابن أخ كريم ،فرد عليهم قائلاً : (
لاتثريب عليكم ) ، وهى كلمة نبى الله يوسف ـ عليه السلام ـ التى قالها
لإخوته ، ومنها ندرك أنه اعتبرهم جميعاً اخوته ، كأنهم اخوة يوسف ( عليه
الصلاة السلام ) ،ثم أعلن العفوة العام بتلك الجملة الخالدة :اذهبوفأنتم
الطلقاء لوجه الله تعالى فكأنه أنقذهم من الموت الزؤام عليه الصلاة
والسلام.
* * * * * *
ونقول
للمهاجرين من أبناء عصرنا لظروف سياسية أو اقتصادية أو دعوية إلى بلاد غير
إسلاميه :
هذه هى هجرة رسول الله بين أيديكم ، وهى كتاب مفتوح فأمعنوا
القراءة فيه ، لتدركوا منه أن هجرتكم من بلادكم لأى سبب من الأسباب ،
لاتعنى القطيعة مع أرض الوطن ، ولا مع الأهل والعشيرة ، ولا مع المسلمين فى
أى مكان ، مهما تكن الخلافات الظرفية الطارئه معهم... بل يجب أن تبقى
الصلة قائمة بينكم وبين الأهل والقوم، تمدونهم بأسباب الحفاظ على الدين من
مواقعكم ، لكى يثبتوا ويمتدوا بإشعاعات الإيمان إلى أكبر مدى ممكن ، لاسيما
ووسائل التواصل الأن فى أقوى مستوى عرفته البشرية ، وبالتالى تكونون قد
وصلتم الرحم، وجمعتم بين الثلاثية المتكاملة التى تمثل بأركانها الثلاثة
وحدة لا تنفصم ، وإلا فقدت الأمة (مكانة الخيرية) التى رفعها الله إليها
عندما قال : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
وتؤمنون بالله " ... إنها ثلاثية الإيمان ،و الهجرة ، والجهاد .
•
أجل : فى عصرنا هذا يجب أن يعود معنى الهجرة إلى منبعه النبوى ، فليست
الهجرة هجراً للوطن ، وقطيعة تاريخية أو معرفية معه ، بل هى هجرة موصولة
بالماضى ، تعمل على تعميق الإيمان فيه ، وتبنى قلاعاً للإيمان فى المهجر
الجديد ، وتصل بين الماضى والحاضر والمستقبل انطلاقاً من درس الهجرة
النبوية .
* * * * * *
• إن
الحرية التى تريد أن تتمتع بها فى مهجرك ، والثروة التى تريد أن تكوّنها
..، وحتى الدعوة التى تريد أن تبلغها إن كنت ممن اصطفاهم الله للدعوة
والبلاغ ... كل هذه تدفعك إلى التواصل مع الماضى من جانب ، وتدفعك إلى بناء
حدائق للإيمان يفوح عطرها فى وضعك الجديد ، وبلدك الجديد ـ من جانب آخر .
•
ليكن معنى الهجرة واضحاً فى وعيك ، فهى ليست هجرة من أرض ولا أهل إلى أرض
وأهل آخرين ، بل هى هجرة من قيم ضيقة ضاغطة تكبل حركة الإيمان ، وتفتعل
الصدام المستمر ، وترفض الحوار بين الأفكار والعقائد ـ إلى قيم أخرى تسمح
لأشجار الإيمان أن تنمو، وتسمح بالتفاعل والتحاور ، ومواجهة الرأى بالرأى ،
والحجة بالحجة ، وتكون مؤهلةلأن تسمح لأهل الإيمان والحق أن يعيشوا كما
يريدون ، وأن يبنوا قلاع الإيمان فى النفوس عن طريق الدعوة إلى الله
بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتى هى أحسن !!
الموضوع : الهجرة مشروع لبناء حضارة إيمانيه جديدة المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya