وأما بيان خطأ العالم - إن أخطأ - فهذه مسألة تزلُّ فيها الأقدام،
فقد تختلط الغيبة ببيان الحقِّ، فعلى طالبِ العلم أنْ يبين الخطأ دونما
تجاوز، وذلك بالتزام أدب الرَّدِّ، فإن العلماء لم يزل يرد بعضُهم على بعض
وكتبهم مملوءة بذلك.
مجالس الغيبة:
الواجب على الإنسان إذا سمع
أحدًا يغتاب غيره أنْ ينكرَ عليه وينصحه، ويخبره أنَّ هذا لا يجوز، وأن
الغيبة محرمة؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من ردَّ عن عرض
أخيه بالغيب، رَدَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة))[20]؛ ولقوله - صلَّى
الله عليه وسلَّم -: ((ما من امرئ يخذل مُسلمًا في موضع تنتهك فيه حُرمته،
وينتقص فيه من عِرضه إلاَّ خَذَلَه الله في موضع يُحب فيه نصره))[21]،
ولقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن حَمَى مؤمنًا من مُنافق - أراه
قال -: بعث الله - تعالى - مَلَكًا يَحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم،
ومَن رمى مسلمًا بشيء يريد شيْنه، حبسه الله على جِسْرِ جهنم حتَّى يخرج
مما قال))[22]، وقد دافع مُعاذ بن جبل عن كعب بن مالك حين ذمَّه رجل من بني
سلمة في مجلس رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأقر النبي فعل معاذ.
أمَّا
إذا لم يستطعْ الإنسانُ الإنكارَ، أو لم يستجب له أحد، فيجب عليه في هذه
الحالة مفارقة المغتاب وعدم الجلوس معه؛ وذلك لقول الله - تعالى -:
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ
الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، وقوله - عز وجل -: {وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ
بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، وقول النبي -
صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإنْ لم
يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))[23].
روى
الأوزاعي أنَّ عمر بن عبدالعزيز قال لجلسائه: "مَن صحبني مِنكم، فَليصحبني
بخمس خصال: يدلُّني من العدل إلى ما لا أهتدي إليه، ويكون لي على الخير
عونًا، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحدًا، ويُؤدي
الأمانةَ التي حملها بيني وبين الناس، فإذا كان ذلك فحيَّهلا، وإلاَّ فقد
خرج عن صحبتي والدخول عليّ"، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلَّى
الله عليه وسلَّم -: ((لا يبلِّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا؛ فإني أحب
أن أخرج إليهم، وأنا سليم الصدر))[24].
قال ابنُ عباس: قال لي أبي:
"إنِّي أرى أميرَ المؤمنين – يعني: عمر - يدنيك ويقرِّبك، فاحفظ عني
ثلاثًا: إياك أن يجرِّب عليك كذبة، وإيَّاك أنْ تُفشي له سرًّا، وإياك أن
تغتاب عنده أحدًا".
وَسَمْعَكَ صُنْ عَنْ سَمَاعِ الْقَبِيحِ ***
كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ
فَإِنَّكَ عِنْدَ سَمَاعِ
الْقَبِيحِ *** شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ
من أضرار الغيبة:
1
- صاحب الغيبة يعذَّب في النَّار، ويأكل النتن والقذر.
2 - ينال عقاب
الله في قبره.
3 - تُذهب أنوار إيمانه وآثار إسلامه.
4 - لا يُغفر له
حتى يعفو عنه المغتاب.
5 - الغيبة مِعول هدام وشر مُستطير.
6 -
الغيبة تؤذي وتضر وتجلب الخصام والنفور.
7 - الغيبة مرض اجتماعي يقطع
أواصرَ المحبة بين المسلمين.
8 - الغيبة دليل على خِسَّةِ المغتاب
ودناءة نفسه.[25]
علاج الغيبة، هل من دواء؟:
لكي تتخلص من هذا
المرض الخطير، عليك بالعلم والعمل، بأنْ تعلمَ أنك ستتعرض لسخط الله -
تعالى - يوم القيامة بإحباطِ عملك، وإعطائك حسناتك مَن اغتبته في الدُّنيا
حتَّى تصلَ إلى درجة الإفلاس، وذلك في يوم تكون أحوج إلى حسنة واحدة تخرج
بها من النار وتدخل الجنة، واسأل نفسك: هل تحب أنْ يغتابَك أحد ويستهزئ بك؟
بالطبع: لا، فعاملِ الناس بما تحب أن يعاملوك به، وإذا حدثتك نفسك باغتياب
أحد المسلمين، ففتش في نفسك، فستجد فيها من العيوب أكثر مما تريد أن تقولَ
عن أخيك المسلم، واستحضر ما سَبَقَ ذكره من أحاديث وأخبار في ذم
الغيبة.[26]
وقال الشاعر:
يُشَارِكُكَ الْمُغْتَابُ فِي
حَسَنَاتِهِ *** وَيُعْطِيكَ أَجْرَيْ صَوْمِهِ وَصَلاَتِهِ
وَيَحْمِلُ
وِزْرًا عَنْكَ ضَنَّ بِحَمْلِهِ *** عَنْ النَّجْبِ مِنْ أَبْنَائِهِ
وَبَنَاتِهِ
فَكَافِئْهُ بِالْحُسْنَى وَقُلْ رَبِّ جَازِهِ ***
بِخَيْرٍ وَكَفِّرْ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ
فَيَا أَيُّهَا
الْمُغَتَابُ زِدْنِي فَإِنْ بَقِي *** ثَوَابُ صَلاَةٍ أَوْ زَكَاةٍ
فَهَاتِهِ
وأخيرًا: أخي القارئ الكريم:
لِمَ تعطي حسناتك لمن تغتابه،
بل وتتحمل من سيِّئاته إذا فنيت حسناتك؟! فَكِّرْ جَيِّدًا، وكن بطلاً من
الآن، واعزم على أن تترك مجالسَ الغِيبة فإنَّها مجالس سوء، واعْزم على أنْ
تتركَ هذه العادة السيئة التي تُودي بصاحبها إلى النار، فأنا مشفق عليك من
أن تكون من حَصَبِ جهنم، دع ذكر مساوئ إخوانك، واذْكُر محاسنهم، واشتغل
بعيب نفسك.
أسأل الله - تعالى - بأسمائه الحسنى وصفاته أنْ يُطهِّر
ألسنتنا وجوارحنا من كلِّ ما يكره، وأن يُجمِّلها بكل ما يحب، وأن يجعل هذا
العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر
عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
----------------------------
[1]"صحيح
مسلم"، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، حديث 4690.
[2]"سنن
أبي داود"، كتاب الأدب، باب في الغيبة، حديث 4238.
[3]"سنن أبي داود"،
كتاب الأدب، باب في الغيبة، حديث 4233.
[4]"تيسير الكريم الرحمن"،
تحقيق عبدالرحمن اللويحق، ص 801.
[5]"سنن الترمذي"، كتاب البر والصلة،
باب مَا جَاءَ فِى تَعْظِيمِ الْمُؤْمِنِ، حديث 2164.
[6]"مسند أحمد"،
مسند الأنصار، حديث معاذ بن جبل، حديث 21008.
[7]"سنن الترمذي"، كتاب
البر والصلة، باب مَا جَاءَ فِي حسن الخلق، حديث 1925.
[8]"صحيح
البخاري"، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، حديث 5994.
[9]"صحيح البخاري"،
كتاب الرقاق، حديث 5993.
[10]"صحيح البخاري"، كتاب الرقاق، حديث 5997.
[11]رواه مسلم، كتاب الإيمان، حديث 58.
[12]مسند أحمد باقي مسند
المكثرين حديث 12575.
[13]"صحيح الترغيب"، 2870.
14]"الجواب
الكافي"، ص: 111.
[15]"الأذكار"، للنووي، ص: 347.
16]"إحياء علوم
الدين"، (155 - 156)، بتصرف.
17]"الأذكار"، للنووي، (340: 342 )،
بتصرف.
18]"تفسير ابن كثير"، (4/271).
[19]"تبيين كذب المفتري فيما
نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري"، ص: 29.
[20]"سنن الترمذي"، كتاب
البر والصلة، حديث 1854.
[21]"سنن أبي داود"، حديث كتاب الأدب، 4240.
[22]"سنن
أبي داود"، كتاب من رد عن مسلم غيبة، حديث 4239.
[23]"مسلم"، كتاب
الإيمان، حديث 70.
[24]"سنن الترمذي"، كتاب المناقب عن رسول الله، حديث
3831.
[25]"نضرة النعيم في فضائل أخلاق سيد المرسلين - صلَّى الله
عليه وسلَّم".
[26]"فاكهة المجالس"، وحيد بالي، بتصرف.
الموضوع : لحوم البشر: أشهى مأكولات العصر؟ المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya