خرج -صلى الله عليه وسلم-
يوماً وقت الظهيرة في شدة الحر، وما أخرجه إلا شدة الجوع؛ فيلقى الصديق
-رضي الله عنه، والذي كان من أغنى تجار المسلمين والذي تصدق بماله كله أكثر
من مرة- بل ويلقى الفاروق -رضي الله عنه- وما أخرجهما إلا الجوع، فيقول
-صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا) ثم ينزلون أضيافاً
على أبي الهيثم بن التيهان -رضي الله عنه- فيذبح لهم شاة، ويطعمهم من التمر
والبسر ثم يشربون الطيب من الماء، ثم يقول لهم -صلى الله عليه وسلم- بعد
ذلك: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ
هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم.
يدخل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- حين اعتزل نساءه شهراً كاملاً لما سألنه مزيداً من النفقة مما
ليس عنده -صلى الله عليه وسلم- فوجده قد نام على الحصير، وقد أثر الحصير في
جنبه الشريف، وما في غرفته إلا قربة ماء وإهاب يعد للدباغ، وما في غرفته
ولا خزائنه شيء آخر -صلى الله عليه وسلم- فبكى عمر -رضي الله عنه- لما رأى
هذه حاله -صلى الله عليه وسلم-، وكسرى وقيصر في ذات الوقت يتنعمون في
قصورهم، وهو أحب الخلق إلى الله وأقربهم إليه وأفضلهم -صلى الله عليه
وسلم-، فيقول له -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَا تَرْضَى
أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ) متفق عليه.
فلو كانت السعة كرامة عند الله لأعطاها لأنبيائه -عليهم
الصلاة والسلام-، بل كمال الأنبياء ألا يكونوا ملوكاً؛ لذا اختار -صلى الله
عليه وسلم- أن يكون عبدا رسولاً لا ملكاً نبياً لما خـُيـِّر بينهما فأشار
إليه جبريل -عليه السلام- أن تواضع لربك.
وكان خلفاؤه -صلى الله عليه وسلم- على هذا النهج من بعده،
فكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أميرا للمؤمنين وجيوشه في المشارق
والمغارب وهو يخطب على المنبر وثوبه مرقع ويخبر الناس أنه استقرض من عبد
الله بن عمر -رضي الله عنهما- شيئاً من ثيابه، وجاع -رضي الله عنه- مع
المسلمين عام المجاعة إلى أن يسر الله لهم من الخير من الأقطار المفتوحة.
ولما أتاه الصحابة بالهرمزان أحد ملوك الفرس، وقد بهرهم حلله
وثيابه فأتوه به ليريوه كيف أعزهم الله على هذا الملك والغنى. فسأل عن عمر
فقيل له: إنه نائم في المسجد!!
قال: أليس له بوابون؟!
قالوا: لا!!
قال: أليس لديه حرس؟!
قالوا: لا!!
قال: أهو نبي؟؟!
قالوا: لا، ولكنه يعمل بعمل الأنبياء!
فلما استيقظ عمر من الجلبة التي أحدثها ونظر إليه, استعاذ
بالله من منظره الذي يذكره الدنيا، وما رضي أن يكلمه حتى ينزع عنه زينة
الدنيا.
فالملك في
أمتنا نقص (الْخِلاَفَةُ فِي أُمَّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً
ثُمَّ مُلْكاً بَعْدَ ذَلِكَ) رواه الترمذي، وصححه الألباني، وأما العبودية فهي العز كل العز؛ لذا لما حققها صحابة النبي
-صلى الله عليه وسلم- هان عليهم أن يتحملوا هذه الابتلاءات، فقد خرج بضعة
عشر صحابي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يعودون سعد بن عبادة -رضي الله
عنه- في مرضه يسيرون في طرقات المدينة وجوَّها الحار ليس على أحدهم خفاف،
ولا نعال، ولا قلانس ولا عمائم، ولا قمص، لا يرتدون إلا الأزر، ومع ذلك
كانوا سعداء؛ فالغنى لا يكون سبباً لسعادة الإنسان إلا لو كان غنى القلب.
لذا فقضية الغلاء والفقر والكسب والغنى تهون جداً، وتهون
كثير من المشاكل لو كان القلب غنياً بحب الله... بآياته... بالركوع والسجود
له... بخوفه ورجائه وحده... بتعظيم حرمات الله الذي يمنعه من أكل الحرام
أو سفك الدماء في سبيل لقمة العيش، أو البغي على حق الغير لأجل الرزق
والكسب، فالأمر عنده هين؛ إذا جاع يوماً فقد شبع يوماً آخر، ويقول الحمد
لله الذي جعل لي ما أتجمل به، أكسو به عورتي، وأسد به جوعي أحياناً، فإن
هذا يكفيه مع غنى النفس، ولعل من حِكَم الصيام أن يذوق الإنسان الجوع، فإذا
تعرض إليه يوماً كان هيناً عليه.
خرج ثلاثمائة صحابي في سرية مع أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله
عنه- وما كان زادهم إلا جراب تمر، قوت أحدهم في اليوم تمرة واحدة طيلة ما
يقرب من شهرين كاملين! كيف تحملوا ذلك فقد كانوا مع هذا الضيق مجاهدين في
سبيل الله؟!
إنها العزة
والكرامة رغم الحاجة والفاقة؛ فالفقر في الحقيقة فقر القلب، فلو افتقر
الإنسان إلى الدنيا ذل، ولو استغنى عنها وعن الناس عز، ولن يستغني القلب
إلا بالله -عز وجل-.
(وَأَمْلأْ يَدَيْكَ رِزْقًا):
يأتي الرزق بعد غنى القلب فحينها يكون نفعاً للإنسان، ولو
أتى قبل أن يمتلأ القلب بالغنى كان والله أعظم الضرر، وكان سبباً لأن يظل
عبداً لهذا الرزق؛ للدرهم والدينار (تَعِسَ عَبْدُ
الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ
رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ
فَلاَ انْتَقَشَ) رواه
البخاري.
فيمتلأ القلب بهذا السم الناقع... سم حب الدنيا والتعلق بها
وعبوديتها؛ فلابد أن يمتلأ القلب أولا بالغنى... بالتفرغ لعبادة الله،
وتفريغ الهم والإرادة والتعلق له -سبحانه- وحده، وأن تكون العبودية هي
المهمة الأولى، لا أن تكون قضيته الأولى أن يطعم الأولاد أو يأتي بالمال أو
يأكل عيشاً من أجله يبيع دينه ويشتري ذل الدنيا، ويقول: ماذا أصنع؟!
يأكل الربا ويأخذ الرشا ويعمل بالحرام، ويبيع عرضه وأمانته،
وعبادته ويقول: أريد أن أطعم أولادي... أريد أن أعيش؟!
ووالله ما انتشر العمل الحرام وما قل العمل الحلال إلا لأن
القلوب لم تستغن بالله فضاقت عليها الدنيا، والرزق إن جاء والقلب لم يستغن
بعد ظل القلب فقيراً تعيساً باحثا عن لذاته المزيفة التي يدمر بها نفسه في
الحقيقة؛ فإن وجد في يديه مالاً ذهب ووقع به في الشهوات المحرمة، وهذا من
أعظم أسباب التعاسة الفظيعة، وحال كفار الغرب ومن اتبعهم على دربهم واضح
بيّن، يعمل أحدهم العمل الدءوب طيلة خمسة أيام في الأسبوع ثم في عطلته
يعاقر الخمر والمخدرات والمومسات؛ ليهرب من ألم فقر قلبه، ويعيش في سكرة
ووهمّ لا ينتهيان به إلا إلى السعير.
الموضوع : يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ قَلْبَكَ غِنًى وَأَمْلأْ يَدَيْكَ رِزْقًا المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya