أنّ
من معالم التجديد الفقهي إنزال الحكم الشرعي الصحيح على الواقع المعاش ،
ومن هنا قال فقهاؤنا قديما :
" لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان "
ومن هنا قيل : " الفتوى تختلف من شخص إلى شخص ومن زمان إلى زمان ومن مكان
إلى مكان" .
ولا يعني هذا أنّ الأحكام الشرعية تفصّل تفصيلا بحسب مقاس
الأشخاص ، وإنّما معنى ذلك أنّ الأحام الفقهية التي بنيت على ظرف أو مناسبة
أو علة معيّنة ينبغي أن تتغير بتغيّر العلة أو الظرف الذي بنيت عليه ،
وإلاّ اعتبرت الشريعة الأسلامية جامدة لا تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان ..
فمن
الجمود والتخلّف مثلا : أن يقال لا يجب على الزوج أن يعالج زوجته إذا ما
مرضت ولا يجب على الزوجة أن تخدم زوجها ومن الجمود أن يقال : ولاية الأب
على ابنته البالغة العاقلة ولاية إجبار فله أن يزوجها بدون إذنها وموافقتها
أو أن يقال لا يجوز للمرأة أن تتولى ولاية عامة كالقضاء مثلا أو لا تقبل
شهادتها ولو كانت مشهورة بالصدق والأمانة رغم تطور خبرة المرأة في الحياة
العملية وخروجها للتعلّم والتعليم ونجاحها في ميادين الحياة المختلفة
وبالمقابل تقبل شهادة الرجل ولو كان فاسقا عند بعض الفقهاء -كالحنفية في
عقد الزواج- وفيما عدا ذلك يكفي أن يكون مستور الحال ، ومن الجمود أن يقال
لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم ولو أمنت الفتنة رغم ما وصلت إليه
البشرية من التقدّم والتطور في وسائل النقل الحديثة ووسائل الإتصال
المختلفة فلم تعد المرأة تسافر في صحراء قفرة تحيط بها السباع الضارية من
كل جانب .... ومن الجمود بل والإساءة للدين والشرع أن يقال : كل دولة لا
تحكم بشريعة الإسلام فهي دولة محاربة رغم وجود المواثيق والمعاهدات الدولية
والسماح للمسلمين بإقامة شعائرهم الدينية على أتمّ وأكمل وجه ، ومن الجمود
أن يقال يجب إخراج الأقوات بعينها في الفدية وزكاة الفطر –بمعنى أنّه يجب
إخراج القمح أو الشعير أو الزبيب أو التمر _ ولا يجوز إخراج قيمتها نقدا
علما أنّه الأنفع والأصلح للفقراء والمساكين في عصرنا، ومن الجمود أن يقال
بعدم حجية الحساب الفلكي مع تطوره وتقدمه واختلافه عمّا كان عليه في عهد
الفقهاء من الحدس والتخمين وعدم الدقة والإختلاط بعلم التنجيم .....
ذلك
أنّ الأحكام السابقة – وإن ثبت معظمها بنصوص قرآنية أو أحاديث نبوية- إلاّ
أنّها ليست أحكام تعبدية غير معقولة المعنى لا تتغيّر ولا تتبدّل كوجوب
الصلاة وأركانها وشروطها وإنّما هي أحكام معللة بيت على ظروف إجتماعية أو
اقتصادية أو سياسية معينة ينبغي أن تتغير بتغير الظروف التي أنيطت وأحاطت
بها ، وليس في ذلك نسفا للأحكام وإنّما هو تمشيا مع روح الأحكام والنصوص .
يقول
ابن القيم ـ رحمه الله ـ في فصل :FFF:
تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات
والعوائد ) : (( هذا فصل عظيم النفع جداً وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم
على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ، ما يعلم أن
الشريعة الباهرة التي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة
مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها
ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور ، ومن الرحمة
إلى ضدها ، ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث ، فليست من
الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل ))(انظر : إعلام الموقعين 3 / 11) .
فإذا
كانت العادة والعرف لهما اعتبار في الشرع ، مع كثرة ما يطرأ عليهما من
تغير وتبديل بحسب الأزمنة والأمكنة وتطور أحوال الناس ، فإن على العلماء
مراعاة ذلك التغير بقدر الإمكان . وخصوصاً ما كان من قبيل الفتيا في الأمور
الواقعة أو المستجدة لعظم شأنها وسعة انتشارها .
يقول الإمام القرافي ـ
رحمه الله ـ في ذلك :FFF:(إن
إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع
وجهالة في الدين ، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد : يتغير الحكم فيه
عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة )).
كما أنّ هنالك بعض
الأحكام الثابتة والتي لا تقبل التبدييل والتغيير إلاّ أنّها لدى إنزالها
على الواقع المعاش قد تصطدم مع ظروف وأوضاع معينة تمنع من تطبيق الحكم
الشرعي كما يريده الشارع الكريم ، وهو ما يسمّى لدى الفقهاء بعموم البلوى ،
كقول الفقهاء يعفى عمّا يصيب الثوب من طين الشارع المتنجس لعسر التحرز عنه
علما أنّه في الأصل نجاسة يجب تطهيرها أو كقولهم يعفى عن ذرق( روث) الطيور
الذي يسقط في الأماكن العامة كالمسجد الحرام أو النبوي لعسر التحرز عنه ،
فأصل الحكم في هذه الحالة لم يتغيّر ولكن استثنيت حالات معينة من عموم النص
بدافع المشقة وعموم البلوى .
الموضوع : معالم التجديد الفقهي المنشود - الشيخ د. مشهور فواز المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya