ان كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل، لا تصور شجاعته
فحسب، بل تصور لنا حكمته الراجحة، وتفكيره العميق..
وكذلك كان
المقداد..
كان حكيما أريبا، ولم تكن حمته تعبّر عن نفسها في مجرّد
كلمات، بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة، وسلوك قويم مطرّد. وكانت
تجاربه قوتا لحكته وريا لفطنته..
ولاه الرسول على احدى
الولايات يوما، فلما رجع سأله النبي:
" كيف وجدت الامارة"..؟؟
فأجاب
في صدق عظيم:
" لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس،
وهم جميعا دوني..
والذي بعثك بالحق، لا اتآمرّن على اثنين بعد
اليوم، أبدا"..
واذا لم تكن هذه الحكمة فماذا تكون..؟
واذا
لم يكن هذا هو الحكيم فمن يكون..؟
رجل لا يخدع عن نفسه، ولا عن
ضعفه..
يلي الامارة، فيغشى نفسه الزهو والصلف، ويكتشف في نفسه هذا
الضعف، فيقسم ليجنّبها مظانه، وليرفض الامارة بعد تلك التجربة ويتتحاماها..
ثم يبر بقسمه فلا يكون أميرا بعد ذلك أبدا..!!
لقد كان دائب التغني
بحديث سمعه من رسول الله.. هوذا:
" ان السعيد لمن جنّب الفتن"..
واذا
كان قد رأى في الامارة زهوا يفتنه، أو يكاد يفتنه، فان سعادته اذن في
تجنبها..
ومن مظاهر حكمته، طول أناته في الحكم على الرجال..
وهذه
أيضا تعلمها من رسول الله.. فقد علمهم عليه السلام أن قلب ابن آدم أسرع
تقلبا من القدر حين تغلي..
وكان المقداد يرجئ حكمه الأخير
على الناس الى لحظة الموت، ليتأكد أن هذا الذي يريد أن يصدر عليه حكمه لن
يتغير ولن يطرأ على حياته جديد.. وأي تغيّر، أو أي جديد بعد الموت..؟؟
وتتألق
حكمته في حنكة بالغة خلال هذا الحوار الذي ينقله الينا أحد أصحابه
وجلسائه، يقول:
" جلسنا الى المقداد يوما فمرّ به رجل..
فقال
مخاطبا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى اله عليه
وسلم..
والله لوددناةلو أن رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت فأقبل
عليه المقداد وقال:
ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدا غيّبه الله
عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟؟ والله، لقد عاصر رسول الله صلى
الله عليه وسلم أقوام كبّهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم. أولا تحمدون
الله الذي جنّبكم مثلا بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم"..
حكمة
وأية حكمة..!!
انك لا تلتقي بمؤمن يحب الله ورسوله، الا وتجده
يتمنى لو أنه عاش أيام الرسول ورآه..!
ولكن بصيرة المقداد الحاذق
الحكيم تكشف البعد المفقود في هذه الأمنية..
ألم يكن من المحتمل
لهذا الذي يتمنى لو أنه عاش تلك الأيام.. أن يكون من أصحاب الجحيم..
ألم
يكون من المحتمل أن يكفر مع الكافرين.
وأليس من الخير اذن أن يحمد
الله الذي رزقه الحياة في عصور استقرّ فيها الاسلام، فأخذه صفوا عفوا..
هذه
نظرة المقداد، تتألق حكمة وفطنة.. وفي كل مواقفه، وتجاربه، وكلماته، كان
الأريب الحكيم..
**
وكان حب المقداد للاسلام عظيما..
وكان الى جانب
ذلك، واعيا حكيما..
والحب حين يكون عظيما وحكيما، فانه يجعل من
صاحبه انسانا عليّا، لا يجد غبطة هذا الحب في ذاته.. بل في مسؤولياته..
والمقداد
بن عمرو من هذا الطراز..
فحبه الرسول. ملأ قلبه وشعوره بمسؤولياته
عن سلامة الرسول، ولم يكن تسمع في المدينة فزعة، الا ويكون المقداد في مثل
لمح البصر واقفا على باب رسول الله ممتطيا صهوة فرسه، ممتشقا مهنّده
وحسامه..!!
وحبه للاسلام، ملأ قلبه بمسؤولياته عن حماية الاسلام..
ليس فقط من كيد أعدائه.. بل ومن خطأ أصدقائه..
خرج يوما في
سريّة، تمكن العدو فيها من حصارهم، فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد
دابته.. ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر خبرا، فخالفه، فتلقى من الأمير
عقوبة أكثر مما يستحق، أ، لعله لا يستحقها على الاطلاق..
فمر
المقداد بالرجل يبكي ويصيح، فسأله، فأنبأه ما حدث
فأخذ المقداد
بيمينه، ومضيا صوب الأمير، وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:
"
والآن أقده من نفسك..
ومكّنه من القصاص"..!!
وأذعن الأمير..
بيد أن الجندي عفا وصفح، وانتشى المقداد بعظمة الموقف، وبعظمة الدين الذي
أفاء عليهم هذه العزة، فراح يقول وكأنه يغني:
" لأموتنّ، والاسلام
عزيز"..!!
أجل تلك كانت أمنيته، أن يموت والاسلام عزيز..
ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه الأمنية مثابرة باهرة جعلته أهلا لأن
يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام:
"ان الله أمرني بحبك..
وأنبأني
أنه يحبك"...
الموضوع : المقداد بن عمرو - أول فرسان الاسلام المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya