لقد سعدت بلقاء عمير لأول مرة، وأنا أكتب
كتابي بين يدي عمر.
وبهرني، كما لم يبهرني شيء، نبأه مع أمير
المؤمنين.. هذا النبأ الذي سأرويه الآن لكم، لتشهدوا من خلاله العظمة في
أبهى مشارقها..
**
تعلمون أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يختار
ولاته وكأنه يختار قدره..!!
كان يختارهم من الزاهدين الورعين،
والأمناء الصادقين.. الذين يهربون من الامارة والولاية، ولا يقبلونها الا
حين يكرههم عليها أمير المؤمنين..
وكان برغم بصيرته النافذة وخبرته
المحيطة يستأني طويلا، ويدقق كثيرا في اختيار ولاته ومعاونيه..
وكان
لا يفتأ يردد عبارته المأثورة:
" أريد رجلا اذا كان في القوم، وليس
أميرا عليهم بدا وكأنه أميرهم.. واذا كان فيهم وهو عليهم امير، بدا وكأنه
واحد منهم..!!
أريد واليا، لا يميز نفسه على الناس في ملبس، ولا في
مطعم، ولا في مسكن..
يقيم فيهم الصلاة.. ويقسم بينهم بالحق.. ويحكم
فيهم بالعدل.. ولا يغلق بابه دون حوائجهم"..
وفي ضوء هذه المعايير
الصارمة، اختار ذات يوم عمير بن سعد واليا على حمص..
وحاول عمير أن
يخلص منها وينجو، ولكن أمير المؤمنين ألزمه بها الزاما، وفرضها عليه فرضا..
واستخار
الله ،ومضى الى واجبخ وهمله..
وفي حمص مضى عليه عام كامل، لم يصل
الى المدينة منه خراج..
بل ولم يبلغ أمير المؤمنين رضي الله عنه منه
كتاب..
ونادى أمير المؤمنين كاتبه وقال له:
" اكتب الى عمير
ليأتي الينا"..
وهنا أستأذنكم في أن أنقل صورة اللقاء بين عمر
وعمير، كما هي في كتابي بين يدي عمر.
" ذات يوم شهدت شوارع المدينة
رجلا أشعث أغبر، تغشاه وعثاء السفر، يكاذ يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعا، من
طول ما لاقى من عناء، وما بذل من جهد..
على كتفه اليمنى جراب
وقصعة..
وعلى كتفه اليسرى قربة صغيرة فيها ماء..!
وانه
ليتوكأ على عصا، لا يؤدها حمله الضامر الوهنان..!!
ودلف الى مجلس
عمر فى خطى وئيدة..
السلام عليك يا امير المؤمنين..
ويرد عمر
السلام، ثم يسأله، وقد آلمه ما رآه عليه من جهد واعياء:
ما شأنك يا
عمير..؟؟
شأني ما ترى.. ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي
الدنيا أجرّها بقرنيها..؟؟!!
قال عمر: وما معك..؟
قال عمير:
معي جرابي أحمل فيه زادي..
وقصعتي آكل فيها.. واداوتي أحمل فيها
وضوئي وشرابي.. وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدوّا ان عرض.. فوالله ما
الدنيا الا تبع لمتاعي..!!
قال عمر: أجئت ماشيا..
عمير:
نعم..
عمر: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها..؟
عمير: انهم لم
يفعلوا.. واني لم أسألهم..
عمر: فماذا عملت فيما عهدنا اليك به...؟
عمير:
أتيت البلد الذي يعثتني اليه، فجمعت صلحاء أهله، ووليتهم جباية فيئهم
وأموالهم، حتى اذا جمعوها وضعوها في مواضعها.. ولو بقي لك منها شيء لأتيتك
به..!!
عمر: فما جئتنا بشيء..؟
عمير: لا..
فصاح عمر
وهو منبهر سعيد:
جدّدوا لعمير عهدا..
وأجابه عمير في استغناء
عظيم:
تلك أيام قد خلت.. لا عملت لك، ولا لأحد بعدك"..!!
هذه
لصورة ليست سيناريو نرسمه، وليست حوارا نبتدعه.. انما هي واقعة تاريخية،
شهدتها ذات يوم أرض المدينة عاصمة الاسلام في أيام خلده وعظمته.
فأي
طراز من الرجال كان أولئك الأفذاذ الشاهقون..؟!!
**
وكان عمر رضي الله عنه يتمنى ويقول:
" وددت لو أن
لي رجالا مثل عمير أستعين بهم على أعمال المسلمين"..
ذلك أن عميرا
الذي وصفه أصحابه بحق بأنه نسيج وحده كان قد تفوّق على كل ضعف انساني يسببه
وجودنا المادي، وحياتنا الشائكة..
ويوم كتب على هذا القدّيس العظيم
أن يجتاز تجربة الولاية والحكم، لم يزدد ورعه بها اا مضاء ونماء وتألقا..
ولقد
رسم وهو أمير على حمص واجبات الحاكم المسلم في كلمات طالما كان يصدح بها
في حشود المسلمين من فوق المنبر.
وها هي ذي:
" ألا ان
الاسلام حائط منيع، وباب وثيق
فحائط الاسلام العدل.. وبابه الحق..
فاذا
نقض الحائط، وحطّم الباب، استفتح الاسلام.
ولا يزال الاسلام منيعا
ما اشتدّ السلطان
وليست شدّة السلطان قتلا بالسيف، ولا ضربا
بالسوط..
ولكن قضاء بالحق، وأخذا بالعدل"..!!
والآن
نحن نودّع عميرا.. ونجييه في اجلال وخشوع، تعالوا نحن رؤوسنا وجباهنا:
لخير
المعلمين: محمد..
لامام المتقين: محمد..
لرحمة الله المهداة
الى الناس في قيظ الحياة
عليه من الله صلاته. وسلامه..
وتحياته
وبركاته..
وسلام على آله الآطهار..
وسلام على أصحابه
الأبرار...
الموضوع : عمير بن سعد - نسيج وحده المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya