ثم ان الحاح ماضيه قبل
السلام، والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه، والضربات التي أسقط بها
سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة، وجباها عابدة، كل هذا كان له على ضميره ثقل
مبهظ، جعل سيفه توّاقا الى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة
الاسلام..
وانكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث
والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال له:
"
يا رسول الله..
استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".
وعلى
الرغم من انباء الرسول صلى الله عليه وسلم اياه، بأن الاسلام يجبّ ما كان
قبله، فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن
يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..
والسيف حين يكون في يد فارس
خارق كخالد بن الوليد، ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير منوهج بحرارة
التطهر والتعويض، ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات، فان
من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة، وحدّته الخاطفة..
وهكذا
رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.
فحين أرسله النبي عليه الصلاة
والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له:
"
اني أبعثك داعيا لا مقاتلا".
غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور
المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام
ينتفض جزعا وألما حين بلفه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه،
ومعتذرا الى الله بقوله:
" اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد".
ثم
أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.
وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه
بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:
ان رسول الله قد أمرك بقتالهم
لامتناعهم عن الاسلام..
كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد
به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله..
ولو أننا نبصره وهو يهدم
صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.
لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله
على هذه البناية الحجرية، لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره، يطوّح
رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.
فهو يضرب بيمينه، وبشماله،
وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:
" يا عزّى
كفرانك، لا سبحانك
اني رأيت الله قد أهانك"..!!
ثم يحرقها
ويشعل النيران في ترابها..!
كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر
خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..
ولا
يعرف خالد أداة لتصفيتها الا سيفه..
والا.." كفرانك لا سبحانك..
اني
رأيت الله قد أهانك"..!!
على أننا اذ نتمنى مع أمير
المؤمنين عمر، لوخلا سيف خالد من هذا الرهق، فاننا سنظل نردد مع أمير
المؤمنين قوله:
" عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!
لقد
بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده
وحسب، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد
بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه الموت
وسارع خالد الى لقاء ربه.
نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في
الجنة..
أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا
للراحة مثله..؟؟
أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان
يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:
" الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا
ينام"..؟؟
أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا
من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة، ويتابع عمله وجهاده في
سبيل الله والاسلام..
ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما
وابدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش
المسلمة..
وأنه ليقول:
" ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس، أو
أبشّر فيها بوليد، بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من
المهاجرين، أصبح بهم المشركين"..
من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن
يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه...
هو
الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقهر أصحاب الردّة، وسوّى بالتراب
عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى فتحها
للاسلام، وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام...
أميرا
يحملشظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..
كانت
مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!
هنالك قال ودموعه
تنثال من عينيه:
" لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا
وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أ، رمية سهم..
ثم هأنذا أموت على فراشي
حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"..!
كلمات لا يجيد
النطق بها في مثل هذا الموطن، الا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات
الرحيل، شرع يملي وصيّته..
أتجرون الى من أوصى..؟
الى عمر بن
الخطاب ذاته..!!
أتدرون ما تركته..؟
فرسه وسلاحه..!!
ثم
ماذا؟؟
لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..!!
ذلك أنه
لم يكن يستحزذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء
الحق.
وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..
شيء
واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..
سقطت منه
يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:
"
ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتافاءل بها، وأستنصر".
وأخيرا،
خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل
بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:
أنت خير
من ألف ألف من القو م اذا ما كبت وجوه الرجال
أشجاع..؟ فأنت أشجع من
لي ث غضنفر يذود عن أشبال
أجواد..؟ فأنت أجود من سي ل غامر يسيل
بين الجبال
وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا..
وقال:
" صدقت..
والله ان كان لكذلك".
وثوى البطل في
مرقده..
ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم هاجعة، خاشعة،
صامتة..
لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت
رسنها، وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه..
واذ
بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح.. تماما
مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم، ويشفي وساوس
الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...
وراحت
وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها
مؤدية له تحية الوداع..!!
ثم مقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها
عالية.. ولكن من آقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!
لقد وقفها خالد مع
سلاحه في سبيل الله..
ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد
خالد..؟؟
وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟
ايه يا بطل كل نصر..
ويا
فجر كل ليلة..
لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك
لجندك:
" عند الصباح يحمد القوم السرى"..
حتى ذهبت
عنك مثلا..
وهأنتذا، قد أتممت مسراك..
فلصباحك الحمد أبا
سليمان..!!
ولذكراك المجد، والعطر، والخلد، يا خالد..!!
ودعنا..
نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:
"
رحم الله أبا سليمان
ما عند الله خير مما كان فيه
ولقد عاش
حميدا
ومات سعيدا
الموضوع : خالد بن الوليد - لا ينام ولا يترك أحدا ينام المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya