قلنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج
كل يوم الى أسرة ياسر، محيّيا صمودها، وبطولتها.. وكان قلبه الكبير
يذوبرحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به.
وذات
يوم وهو يعودهم ناداه عمّار:
" يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب
كل مبلغ"..
فنا داه الرسول: صبرا أبا اليقظان..
صبرا آل
ياسر..
فان موعدكم الجنة"..
ولقد وصف أصاب عمّار العذاب الذي
نزل به في أحاديث كثيرة.
فيقول عمرو بن الحكم:
" كان عمّار
يعذب حتى لا يدري ما يقول".
ويقول عمرو بن ميمون:
" أحرق
المشركون عمّار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به،
ويمر يده على رأسه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار، كما كنت
بردا وسلاما على ابراهيم"..
على أن ذلك لهول كله لم يكن ليفدح روح
عمار، وان فدح ظهره ودغدغ قواه..
ولم يشعر عمار بالهلاك حقا، الا في
ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلادوه بكل عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن
الكي بالنار، الى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. الى
غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه، وتتسلخ قروحه وجروحه..
في ذلك اليوم
اذ فقد وعيه تحت وطأة هذا العول فقالوا له: أذكر آلهتنا بخير، وأخذوا
يقولون له، وهو يردد وراءهم القول في غير شعور.
في لك اليوم، وبعد
أن أفاق قليلا من غيبوبة تعذيبه، تذكّر ما قاله فطار صوابه، وتجسمت هذه
الهفوة أما نفسه حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا كفارة.. وفي لحظات
معدودات، أوقع به الشعور بالاثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه
بلسما ونعيما..!!
ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت
عليه لا محالة..
لقد كان يحتمل الهول المنصّب على جسده، لأن روحه
هناك شامخة.. أما الآن وهو يظن أن الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت به همومه
وجزعه على الموت والهلاك..
لكن الله العليّ القدير أراد للمشهد
المثير أن يبلغ جلال ختامه..
وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها
عمّارا، وهاتفا به: انهض أيها البطا.. لا تثريب عليك ولا حرج..
ولقي
رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي، فجعل يمسح دموعه بيده،
ويقول له:
" أخذك الكفار، فغطوك في الماء، فقلت كذا.. وكذا..؟؟"
أجاب
عمّار وهو ينتحب: نعم يا رسول الله...
فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو يبتسم:" ان عادوا، فقل لهم مثل قولك هذا"..!!
ثم تلا
عليه الآية الكريمة:
( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان)..
واستردّ
عمّار سكينة نفسه، ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما، ولم يعد يلقي
له وبالا..
لقد ربح روحه، وربح ايمانه.. ولقد ضمن القرآن له هذه
الصفقة المباركة، فليكن بعدئذ ما يكون..!!
وصمد عمّار حتى حل
الاعياء بجلاديه، وارتدّوا أمام اصراره صاغرين..!!
**
استقرّ
المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم اليها، وأخذ المجتمع الاسلامي هناك
يتشكّل سريعا، ويستكمل نفسه..
ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة،أخذ
عمار مكانه عليّا..!!
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا
حمّا، ويباهي أصحابه بايمانه وهديه..
يقول عنه صلى الله عليه وسلم/
:
ان عمّارا ملئ ايمانا الى مشاشه".
وحين وقع سوء تفاهم بين
عمار وخالد بن الوليد، قال رسول الله:" من عادى عمارا، عاداه الله، ومن
أبغض عمارا أبغضه الله"
ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل الاسلام
الا أن يسارع الى عمار معتذرا اليه، وطامعا في صفحه الجميل..!!
وحين
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر
نزولهم بها، ارتجز الامام علي كرّم الله وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها
المسلمون معه، فيقولون:
لا يستوي من يعمر المساجدا
يدأب فيها
قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
وكان عمار
يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد الأنشودة ويرفع بها صوته.. وظن أحد أصحابه
أن عمارا يعرض به، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
"
ما لهم ولعمّار..؟
يدعوهم الى الجنة، ويدعونه الى النار..
ان
عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"...
واذا أحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم مسلما الى هذا الحد، فلا بد أن يكون ايمانه، وبلاؤه،
وولاؤه، وعظمة نفسه، واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت المدى، وانتهت الى
ذروة الكمال الميسور..!!
وكذلكم كان عمار..
لقد كال الله له
نعمته وهداه بالمكيال الأوفى، وبلف في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول
صلى الله عليه وسلم يزكّي ايمانه، ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول:
"
اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار"..
ولقد
وصفه الرواة فقالوا:
" كان طوّالا، أشهل، رحب ما بين المنكبين.. من
أطول الناس سكوتا، وأقلهم كلاما"..
فكيف سارت حياة هذا العملاق،
الصامت الأشهل، العريض الصدر، الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع، كما
يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل، والمذهل وعظمته الخارقة..؟!
كيف
سارت حياة هذا الحواري المخلص، والمؤمن الصادق، والفدائي الباهر..؟؟
لقد
شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدرا، وأحدا، والخندق وتبوك..
ويقيّتها جميعل.
ولما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق
الأعلى، واصل العملاق زحفه..
ففي لقاء المسلمين مع الفرس، ومع
الروم، ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجرّراة كان عمّار هناكفي
الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا، لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا
جليلا، لا تأخذه عن الله رغبة..
وحين كان أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يخ\تار مصيره،
كانت عيناه تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر"..
وهكذا
سارع اليه وولاه الكوفة، وجعل ابن مسعود معه على بيت المال..
وكتب
الى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد، فقال:
" اني بعثت اليكم
عمّار بن ياسر أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا..
وانهما من
النجباء، من أصحاب محمد، ومن أهل بدر"..
الموضوع : عمّار بن ياسر - رجل من الجنة..!! المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya