بسم الله الرحمن
الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من الأحاديث الجامعة التي
يذكرها
أهل العلم , ويولونها المزيد من العناية والاهتمام , حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : (
إن
الحلال بيِّنٌ وإن الحرام بيِّنٌ , وبينهما أمور مشتبهاتٌ لا يعلمهن
كثير
من الناس , فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه , ومن وقع في
الشبهات
وقع في الحرام , كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه , ألا
وإن
لكل ملك حمىً , ألا وإن حمى الله محارمُه , ألا وإن في الجسد مضغةً إذا
صلَحت صلَح الجسد كله , وإذا فسَدت فسَد الجسد كله : ألا وهي القلب
) رواه البخاري ومسلم .
فهذا الحديث قاعدة
عظيمة
من قواعد الشريعة , وأحد الأحاديث التي يدور عليها الدين وقد عده بعض
أهل العلم ثلث الإسلام أو ربعه , ويعنون أن الإسلام يدور على ثلاثة أحاديث
أو أربعة منها هذا الحديث .
فقوله صلى الله عليه وسلم :
( إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن )
يعني أن الحلال
والحرام
الصريح الواضح قد بُيِّن أمره للناس بحيث لا يحتاجون معه إلى مزيد
إيضاح
وبيان , وليس لهم عذر في مخالفة الأمر والنهي بدعوى نقص البيان وعدم
الوضوح
, فإن الله عز وجل قد أنزل على نبيه الكتاب , وبين فيه للأمة ما
تحتاج
إليه من أحكام , قال تعالى : { ونزَّلنا
عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } النحل 89 وقال تعالى في آخر آية من
سورة النساء بعد أن
ذكر فيها كثيرا من الأحكام الشرعية :
{ يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم }
النساء 176.
وقال عز وجل : { ومالكم أن لا
تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم
ما حرم عليكم }
الأنعام119.
وهذا هو
مقتضى عدل
الله ورحمته بعباده فلا يمكن أن يعذب قوما قبل البيان لهم
وقيام الحجة
عليهم , ولذلك قال سبحانه : {وما
كان الله ليضل قوما
بعد إذ هداهم حتى يبين لهم
ما يتقون }التوبة 115
.
وما لم يرد بيانه مفصلاً في
كتاب الله تعالى فإن النبي صلى الله
عليه وسلم قد بينه في سنته تحقيقا
لقوله تعالى : { وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }النحل 44 .
ولكن هناك أمور تشتبه على
كثير
من الناس , فلا يعرفون حكمها هل هي من الحلال أم من الحرام ؟ ,
وأما
الراسخون في العلم فلا تشتبه عليهم , ويعلمون من أي القسمين هي ,
وهذه هي
الأمور المشتبهات التي قال عنها صلى الله عليه وسلم ( وبينهما
أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ) .
ثم
قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة إلى هذه الأمور المشتبهة
إلى
قسمين :
القسم الأول : من يتقي هذه الشبهات
ويتركها ,
طلبا لمرضاة الله عز وجل , وتحرزا من الوقوع في الإثم , فهذا
الذي
استبرأ لدينه وعرضه , أي طلب البراءة لهما , فحصل له البراءة لدينه من
الذم الشرعي , وصان عرضه عن كلام الناس فيه , وفيه دليل على أن من ارتكب
الشبهات
, فقد عرض نفسه للقدح والطعن , كما قال بعض السلف : "من عرَّض نفسه
للتُّهم فلا يلومنَّ من أساء الظن به " .
والقسم
الثاني
: من وقع في هذه الشبهات مع علمه بأن هذا الأمر فيه شبهة ,
فقد أخبر
النبي صلى الله عليه وسلم أن من فعل ذلك فقد وقع في الحرام ,
بمعنى أن
الإنسان إذا تهاون وتسامح في الوقوع في الشبهات , وأكثر منها ,
فإن ذلك
يوشك أن يوقعه في الحرام ولا بد , وهو لا يأمن أن يكون ما أقدم
عليه
حراماًَ في نفس الأمر , فربما وقع في الحرام وهو لا يدري .
ثم ضرب النبي
صلى الله عليه وسلم مثلا لمن يقع في الشبهات , وهو أن كل ملك
من ملوك
الدنيا له حمى يُضرب حول ملكه , ويُمنع الناس من دخوله أو انتهاكه ,
ومن دخله فقد عرض نفسه للعقوبة , فمن رعى أغنامه بالقرب من هذا الحمى فإنه
لا يأمن أن تأكل ماشيته منه , فيكون بذلك قد تعدى على حمى الملك , ومن
احتاط
فابتعد ولم يقارب ذلك الحمى فقد طلب السلامة لنفسه , وهذا مثل حدود
الله
ومحارمه , فإنها الحمى الذي نهى الله عباده عن الاقتراب منه أو تعديه .
فقال سبحانه : { تلك حدود الله فلا تقربوها } البقرة
187
وقال : { تلك حدود
الله فلا تعتدوها }
البقرة 229
فالله عز وجل قد
حدَّ
للعباد حدودا بين فيها ما أَحَلَّ لهم وما حَرَّم عليهم , ونهاهم عن
الاقترب
من الحرام أو تعدي الحلال , وجعل الواقع في الشبهات كالراعي حول
الحمى
أو قريبا منه يوشك أن يدخله ويرتع فيه , فمن تعدى الحلال ووقع في
الشبهات
, فإنه قد قارب الحرام وأوشك أن يقع فيه .
ثم ختم النبي صلى الله عليه
وسلم الحديث بذكر السبب الذي يدفع العبد إلى
اتقاء الشبهات والمحرمات
أو الوقوع فيهما , ألا وهو صلاح القلب أو فساده ,
فإذا صلح قلب العبد
صلحت الجوارح والأعمال تبعا لذلك , وإذا فسد القلب فسدت
الجوارح
والأعمال , فالقلب أمير البدن , وملك الجوارح , وبصلاح الأمير أو
فساده
تصلح الرعية أو تفسد , فإذا كان القلب سليما حرص العبد على اجتناب
المحرمات
وتوقي الشبهات , وأما إذا كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع
الهوى
والشهوات , فإن الجوارح سوف تنبعث إلى المعاصي والمشتبهات تبعا له ,
فالقلب
السليم هو عنوان الفوز عند الله عز وجل قال تعالى :
{يوم لا ينفع مال ولا بنون . إلا من
أتى الله بقلب
سليم } الشعراء
88-89 .
(من كتاب " فتح البارى " للحافظ بن حجر العسقلانى)
ففي
هذا الحديث العظيم حث للمسلم على أن يفعل الحلال ، ويجتنب الحرام ، وأن
يجعل بينه وبين الحرام حاجزا وهو اتقاء الشبهات ، وأن يحتاط المرء لدينه
وعرضه
، فلا يقدم على الأمور التي توجب سوء الظن به , وفيه أيضا تأصيل
لقاعدة
هامة من قواعد الشريعة , وهي قاعدة سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم
الوسائل
إليها , وفيه كذلك تعظيم أمر القلب , فبصلاحه تصلح أعمال الجوارح
وبفساده
تفسد , نسأل الله أن يصلح قلوبنا وأن يثبتها على دينه .
الموضوع : قراءة فى حديث (الحلال بيِّن والحرام بيِّن) المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya