المؤمن بين مخافتين
بسم الله الرحمن الرحيم
يعيش المؤمن حياته بين
مخافتين: حزن على ما مضى ووقع، وخوف
وإشفاق مما يأتي، وهو بين هاتين
المخافتين يحمل قلباً كسيراً حزيناً، وهماً
وكرباً ثقيلاً، ولا يفارق
ذلك إلا عندما يعايش الموت. فكيف كان ذلك؟
هم الذنوب والمعاصي:
الهم الأول للمؤمن في
الحياة هي ذنوبه ومعاصيه، وما سلف منه من
تفريط في حق الله تعالى،
والذنب عند المؤمن كبيرة وصغيرة،
كبير، فهو لا ينظر إلى كبر الذنب
وصغره، ولكنه ينظر إلى من عصى، ويعلم أنه
كلما ارتقى في سلم الإيمان
كلما عظم الذنب في حقه،
فالصغيرة من الكبير كبيرة، والهفوة من العظيم
عظيمة!!
ألا ترى الرسل كيف كانوا يعدون على أنفسهم ذنوباً
لو كانت لنا لحسبناها طاعات، ولاتخذناها قربات، فمن منا لا يتمنى أن يكون
هو
الذي قال ما قال إبراهيم عليه السلام:
{إني سقيم}
{بل فعله كبيرهم
هذا}
ليحطم أصنام القوم
{وهذه أختي}
ليحمي امرأته من جبار،
ولكن إبراهيم يقول يوم القيامة:
[إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب
قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني
قد عصيت ربي فكذبت ثلاث كذبات]!!
ومن منا لا يرجو أن يكون
دافع عن مظلوم كما فعل موسى، الذي قتل
عدواً بطريق الخطأ، ومع ذلك يقول
عليه السلام
[ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي]
ويقول يوم القيامة:
[إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني
عصيت
ربي، فقتلت نفساً لم أومر بقتلها].
ومن منا لا يرجو أن يدعو
على أهل الشر والفساد والكفر والعناد
أن يستأصلهم الله من الأرض ويريح
البلاد والعباد من شرورهم فيقول:
[رب لا تذر على الأرض من الكافرين
دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا
يلدوا إلا فاجراً كفاراً]
ويظن أن دعاءه هذا قربة
يتقرب بها إلى الله، ولكن نوحاً عليه
السلام يذكر ذلك ويؤرقه ويظل
خائفاً من دعائه هذا الذي استجابه الله له،
ويقول لمن طلب منه الشفاعة:
[إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني
عصيت
ربي، فدعوت على قومي]..
ومن منا له عمل صالح، ومنزلة عالية كما لخاتم
الأنبياء
والمرسلين، وسيد الناس أجمعين، ومع ذلك فقد قال له رب
العالمين:
{ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك}
وقال
تعالى له:
{إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك
وما تأخر ويتم
نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً}.
وهل يتصور للنبي الخاتم
صلى الله عليه وسلم من ذنب إلا أن يكون
شيئاً فعله خلاف الأولى!!
والخلاصة أن المؤمن يرى
الذنب أكبر وأشمل مما يراه من لم يعرف
حقيقة الإيمان، ويحس بوطأة
ذنوبه، وإن كانت صغائر كأنها جبل يوشك أن يقع
عليه، وأن الله إن لم
يغفرها له ليكونن من الخاسرين، قال صلى الله عليه
وسلم:
[المؤمن
يرى معصيته كجبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق يرى معصيته كذباب وقع
على
أنفه]!!
وما أسهل الذنب عند من يرى أن مثله مثل ذباب، وهل أسهل من أن
يذب الإنسان
عن نفسه ذبابة، ويبعدها عنه، وما أثقل الذنب عند من يرى أن
ذنوبه كالجبل
الجاثم فوق رأسه وصدره،
وهم دائم التفكير في كيفية
إزاحته عنه.
والذنب يتسع عند المؤمن، لأنه يعلم أن غفلة ساعة عن
ذكر الله
ذنب، وفوت نعمة لم يشكر الله عليها ذنب،
ومرور لحظة لا
يراقب الله فيها، ولا يخافها ذنب، وكل مخالفة لأمر الله وإن
صغرت ذنب،
وأعضاء البدن كلها جوارح،
فالقلب جارحة، وهو أعظم الجوارح، والعين
جارحة، والسمع جارحة، واليد
والرجل واللسان والأنف
[فالعين تزني
وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها
الخطو،
والأنف يزني وزناه الشم، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه].
والسؤال يوم القيامة عن
عمل كل الجوارح.
قال تعالى:
{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع
والبصر والفؤاد كل أولئك كان عن
مسؤولاً}.
والسؤال عن الغمزة واللمزة
والهمزة، واللفظة، بل وخطرات القلوب،
وأحاديث النفوس، وخفايا الصدور،
وفلتات الألسنة:
{ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}
{قل إن تخفوا
ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله}
{يوم تبلى السرائر* فما له من قوة
ولا ناصر}
{ويل لكل همزة لمزة}
{فمن يعمل مثال ذرة خيراً يره، ومن
يعمل مثقال ذرة شراً يره}.
والمؤمن
يعيش وهو يحمل هم ذنوبه
ومعاصيه، ولا تزال شخوصها تؤرقه بالليل والنهار،
وهذه إحدى همومه!!
هم الخاتمة:
والهم الثاني الأكبر الذي يحمله
المؤمن هم الخاتمة،
ولحظات النهاية، وساعة الغروب!! وذلك أن على هذه
الساعة الأخيرة يتوقف
المصير،
وتكون الجنة أو النار، وقد يكون الشوط كله عند الساعة الأخيرة
في الخير ثم
تكون الخاتمة شراً وكفراً عياذاً بالله من سخطه وعقوبته،
وقد يكون الشوط كله شراً أو كفراً ثم تكون الساعة الأخيرة إيماناً ويقظة
وعوداً
إلى الله فتكون الخاتمة السعيدة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[إن
أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة في مثل
ذلك،
ثم يكون مضغة في مثل ذلك،
ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات يكتب
رزقه وأجله وعمله وشقي أو
سعيد..
فوالذي نفس محمد بيده إن
الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما
يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيغلب
عليه الكتاب فيعمل بعمل النار فيدخلها،
وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار
حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل
بعمل أهل الجنة فيدخلها]
(متفق عليه).
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً:
[إن الرجل ليعمل
بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن
الرجل ليعمل
بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة]
(متفق عليه).
وما دامت هذه الخاتمة
مجهولة للعبد فما يدري كيف تكون ساعة
النهاية من أجل ذلك يظل المؤمن
خائفاً مترقباً،
ويظل هذا الهاجس يؤرقه، ويفزعه.
وخوف المؤمن في كل ذلك أن
تخونه نفسه، وأن يغلبه شيطانه، وأن تزل
به قدمه، وأن يكبو به جواده
كبوة لا يقوم بعدها أبداً،
وقد يكون الزلل عند أول اعتراض على أمر!! أو
أول تكذيب لخبر، أو غرور يحمل
على الكبر أو أمن يؤدي إلى التفريط،
أو
لحظة عناد للحق أو هوى يباعد خطوة عن الطريق ثم تتبعها خطوات إلى أن
يتباعد
ما بين الطريقين طريق الله، وطريق الهوى، أو قعود عن السير حتى
يتفارط
الركب، ويتعذر اللحاق، وتذهب رفقة أهل الإيمان، ويرى المؤمن نفسه
بعد
وقت وليس حوله إلا منافق مطموس على قلبه في النفاق.
والمؤمن يعلم أن الله توعد
فقال سبحانه وتعالى:
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا
دعاكم لما يحييكم واعلموا
أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه
تحشرون* واتقوا فتنة لا تصبين
الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله
شديد العقاب}.
فهذا خطاب للمؤمنين وتحذير لهم أن يتقاعسوا عن
الغزو، وأن
يجلسوا عن الجهاد، وأن التقاعس والقعود قد يعاقب الله عليه
بأن يحول بين
المؤمن وقلبه فيرى الإيمان ولا يتبعه، ويعلم الحق ويحال
بينه وبينه.
ويتمنى الصلاح ولا يناله، وتصيبه الفتنة مع الذين ظلموا
وينقلب منقلبهم،
ويرد موردهم!! {واعلموا أن الله شديد العقاب}.
الأعداء من كل جانب:
والهم الثالث للمؤمن هو هم
أعدائه الذين يحيطون به من كل
اتجاه، فهم عن يمينه وشماله، وأمامه وخلفه،
وسهام هؤلاء الأعداء تنوشه
من كل اتجاه.
فلو كان سهماً واحداً لاتقيته ... ولكنه سهم
وثانٍ وثالث
فأول أعدائه نفسه التي بين جنبيه والتي لا تفتأ
تثبط همته عن
الخير، وتدعوه إلى الراحة والدعة والسلامة والأمن،
وتزين له الدنيا الغرارة، وتحدثه بالمعصية تلو المعصية، وتمنيه بالمغفرة
والرحمة،
وتهون عليه مخالفة الأمر، وارتكاب المحظور
{إن النفس لأمارة بالسوء
إلا ما رحم ربي}.
وعدو المؤمن الثاني هو شيطانه الموكل به،
والذي لا يفارقه منذ
لحظة الولادة وإلى لحظة الممات، جاثم على صدره إن
غفل المؤمن عن ذكر الله
وسوس
وإن ذكر الله خنس، وكلما طرده المؤمن
عن نفسه عاد، وكلما لعنه استشاط،
وكلما جد المؤمن في سيره إلى الله جد
الشيطان في نصب المكائد له،
وكلما هتك المؤمن شركاً له، نسج الشيطان له
شركاً آخر، كلما فر المؤمن من
مكيدة كانت له أخرى بالمرصاد، وهذا
الشيطان عدو لدود، يأتي المؤمن في ثياب
صديق حميم، وناصح كريم.. ألم
يقل لأبينا آدم
{هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}
ألم يحلف
لأبينا بالأيمان المغلظة
{إني لكما لمن الناصحين}.
وهل سنكون نحن أقوى عزماً
على الطاعة من آدم الذي علمه الله
أسماء كل شيء.
قال تعالى:
{فدلاهما
بغرور}
وقال تعالى:
{فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه}
وهذا
الشيطان يعرض للأنبياء والمرسلين والعلماء والفقهاء والصالحين،
وتلبيسه
تلبيس، وقد شاب في المكر والكيد، وتقادم به الزمان ولعله علم
من طرائق
الشر ما لم يكن يعلم عند أول انحراف له عن الصراط يوم دعي إلى
السجود
لآدم فأبى، فكيف النجاة مما هذه حاله في الشر وحالنا
نحن مع ما نملك من
السذاجة والغفلة والغرور، اللهم رحماك.
بك نستعيذ وإليك نلجأ، وأنت
حسبنا وكفى، لا عاصم من هذا الشر غيرك،
ولا معيذ لنا من الشيطان سواك،
اللهم اجعلنا من عبادك الذين قلت فيهم:
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
والعدو الثالث للمؤمن هم
شياطين الإنس الذين ملئت بهم الأرض،
والذين فاق بعضهم في التلبيس
والإغواء والكيد لأهل الإيمان فاقوا الشيطان
نفسه ولسان حالهم ما قال
القائل:
وكنت امرءاً من جند إبليس ... فارتقى بي الشر حتى
صار إبليس من
جندي
وشياطين الإنسان يأتيك أحدكم يلبس لباس النصح
لك وقلبه يمتلئ
حقداً وغلاً، ويدعوك إلى النار وهو يخيل لك أنه يدعوك
إلى الجنة، يدعوك إلى
الكفر بالله ومعصيته، ويزين لك ذلك، ويريد منك أن
توافقه على ما هو فيه
[وودت الزانية لو زنت كل النساء].
وقد يكون من شياطين الإنس
من طمست بصيرته وعمى قلبه عمى كاملاً
فيظن أن ما هو فيه من الكفر
والنفاق هو الخير والفلاح،
ويريد من غيره أن يكون معه على ذلك:
{وإذا
خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون* الله يستهزئ
بهم
ويمدهم في طغيانهم يعمهون}.
والويل كل الويل كان صاحبه
وجليسه وأنسيه وصديقه وخليله شيطاناً
من هذه الشياطين
[والمرء على
دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل].
وهؤلاء الشياطين كثيرون في
الأرض اليوم لا كثرهم الله،
وهم اليوم أعظم ضراوة منهم بالأمس فمن علامات
الساعة أن ينشأ قوم
قلوبهم قلوب الشياطين، وجثمانهم جثمان إنس.
وصدق رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وهؤلاء يلبسون لباس
الحملان، وقلوبهم قلوب الذئاب يطهرون
الحرص عليك والمحبة لك،
والإخلاص لك وهم ساعون في هلاكك..
والعدو الرابع للمؤمن عدو
من نفسه وأهله، يحبك ويوادك، ولا يريد
لك إلا الخير، ولكنه تأتيك
عداوته أولاً من حرصك عليه،
وشفقتك به، ورحمتك له، أولادك وزوجتك تحبهم
وتتمنى لهم الخير، وهم كذلك،
ولكن قد تحملك مودتهم وحبهم والشفقة بهم
والرحمة لهم، أن تقعد عما أوجبه
الله عليك من الجهاد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر،
والزكاة المفروضة، والحج الواجب، وقول كلمة الحق حيث
تضرك!! إنهم يجبنون
ويبخلون!!
إن الأولاد والزوجة يجعلون
الرجل جباناً وبخيلاً.. جباناً يخاف
أن يجاهد بنفسه فيموت، وتترمل
امرأته، ويتيم أولاده، ويخاف أن يجاهد بماله
فيفتقرون وينالهم العوز.
{يا
أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفو
وتصفحوا
وتغفروا فإن الله غفور رحيم* إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله
عنده
أجر عظيم* فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً
لأنفسكم
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون* إن تقرضوا الله قرضاً حسناً
يضاعفه
لكم ويغفر لكم والله شكور حليم* عالم الغيب والشهادة العزيز
الحكيم}.
والمؤمن يعيش وهو يرى
هؤلاء الأعداء حوله يكتنفونه من كل مكان،
نفسه التي بين جنبيه، وشيطانه
المتربص به، والقائم على رأسه
{ثم لآتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن
أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد
أكثرهم شاكرين}.
وشياطين الإنس المحيطون به
من كل جانب، وأهله، وأولاده، وأدنى
فتنتهم أن يخاف عليهم فيقعد عن
واجب أو يفعل محرم فكيف إن كانوا هم أنفسهم
دعاة إلى الشر مثبطون عن
الخير.
قال تعالى في شأن الغلام الذي قتله الخضر فاقتلع رأسه:
{وأما
الغلام فكان أبويه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً فأردناه
أن
يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً}.
ومن يرى كل هؤلاء الأعداء
من حوله وبين جنبه يحمل هماً لا يطاق،
ويسعى جاهداً في النجاة والفكاك
فهل ينجو ويسلم..
ولكننا سبي العدو فهل نرى ... نرد إلى أوطاننا غداً
أو نسلم؟
والمؤمن يعيش وهو يحمل هذا الهم الواقع الذي يعيشه
في يومه
وليلته هم ما سلف من ذنوبه، وهم بقائه على الخير حتى يموت
وهم
أعدائه الذين ينوشونه من كل جانب، وهذه الهموم المجتمعة هم واحد وحزن
واحد
هو هم ما هو واقع الآن، ويبقى هم ما يأتي، فما هم ما يأتي؟
القبر أول الهموم:
وهموم ما يأتي هموم ثقيلة
وليس شيئاً منها مظنوناً بل هي هموم
وغموم مقطوع بها لا محيد عنها ولا
مفر منها فأولها القبر، وهل من القبر
مفر؟! وهل لأحد منه مهرب؟
والقبر
ما هو؟
إنه بيت الظلمة والضيق، والدود والنتن والوحدة؟! إن
أخلص
أصدقائك، وارحم خلانك وخاصة أهلك هم من يهيلون التراب عليك،
ويحكمون سد
القبر خلفك، ويلون ظهورهم لك، ويتركوك وحدك!!
وقد قال
صلى الله عليه وسلم:
[وإن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله
ينورها بصلاتي عليهم]
اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك المجتبى ورسولك
المصطفى.
وإن أحداً من أهل الإيمان لو نجا من ضمة القبر لنجا
منها سعد بن
معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته والذي استبشر بموته أهل
السماء!! فكيف
بنا؟!
كيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
[ما
من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع بأخذ
بشدقيه
ويقول له أنا مالك أنا كنزك].
لقد صليت يوماً في البر
وتسللت خنفساء إلى ثيابي وظلت تخرخش في
ثوبي وتعضني عضاً خفيفاً،
فوالله ما خشعت في صلاتي،
وقد ازعجتني إزعاجاً بليغاً، فكيف لو كانت
عقرباً!!
فكيف لو كانت حية!!
فكيف لو كانت وهذه الحية في ذلك القبر
الضيق ولا مجال للفرار منها، فكيف
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول
إلا صدقاً،
ولا ينطق إلا حقاً، وقد أعلمنا أن القبر إما حفرة من حفر
النار، أو روضة
من رياض الجنة.
هموم الموقف:
وهم القبر هم، وهو دون هم
الموقف العظيم، واليوم الكبير الطويل،
العبوس القمطرير!! اليوم الذي
طوله خمسين ألف سنة من سنوات هذه الأرض يوم
يقوم الناس لرب العالمين في
عرقهم ورشحهم إلى أنصاف آذانهم:
{إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون
وراءهم يوماً ثقيلاً}.
{إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً
ولا شكوراً إنا
نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً}.
{إن في ذلك لآية لمن خاف
عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس
وذلك يوم مشهود* وما نؤخره إلا
لأجل محدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه
فمنهم شقي وسعيد}.
إن هم يوم القيامة هو هم
الهموم، والمؤمن يعيش حياته كلها من
هذا اليوم مشفق مغموم مكروب
مهموم!! مبتسماً بفمه باكياً بقلبه وفؤاده يعيش
مع الناس بجسمه
ويفارقهم بهمومه وحزنه.
الفزع
الأكبر:
وكل هذه الهموم
تصغر إذا ذكر
الهم الأعظم، وجاء ذكر الفزع الأكبر، إنه النار التي لا
محيد لمؤمن عن
ورودها، والعبور على الصراط فوقها:
{وإن منكم إلا
واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر
الظالمين
فيها جثياً}.
والعبور فوق الصراط أقرب ما يوصف به العبور
فوق جسر مضروب فوق
الشمس!! بل الشمس والقمر حجران صغيران من أحجار
جهنم!!
أمام المؤمن مفاوز كبيرة:
وهكذا يصبح أمام المؤمن
مفاوز كبيرة كبيرة، كل مفازة أكبر من
أختها، ولا يقطعها إلا مسافر لا
يلوي على شيء، ولا يتطلع إلى راحة، ولا
يهدأ له بال حتى يلقى عصا
التيار في المرحلة الأخيرة في الجنة، وأما ما دون
ذلك فحاله كما وصى
الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عمر:
[يا عبدالله كن في الدنيا
كأنك غريب أو عابر سبيل].
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حالاً
وقالاً: عندما طلب
منه أن يأخذ من الدنيا قسطاً أكبر غير القوت
والبلغة:
[مالي ومالها ما أنا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم تركها].
القوم وكأنهم قد فرغوا من
حساب الله:
ولا يفت في عضد المؤمن أن يرى
عامة أهل الإسلام غافلين
لاهين يشربون كأسهم حتى الثمالة، يضحكون ملء
أفواههم، وينامون ملء
جفونهم، ويأكلون ملء بطونهم، ولا يحملون هماً لفائت
من ذنب،
ولا آت
من فزع، يفعلون ذلك وكأنهم قد فرغوا من حساب الله، ولم يبق لهم إلا
دخول الجنة!! وهذه حال عامة أهل الإسلام ينتظر أن يموت ليدخل الجنة هكذا
بغير
حساب ولا عذاب.
لا أمن إلا لأهل المخافين:
والحال أنه لا أمن إلا
لأهل الخوف.
قال تعالى:
{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون
لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي
الآخرة ذلك الفوز العظيم}
فأهل الإيمان والتقوى:
مخافة بالليل
والنهار، وهؤلاء هم الذين ينفي الله عنهم الخوف مما هم مقدمون
عليه
والحزن مما خلفوه وراء ظهورهم، ولا تكون هذه البشرى المقطوع بها إلا
عند
الموت
قال تعالى:
{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل
عليهم الملائكة ألا تخافوا
ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا
وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم
ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور
رحيم}.
وتنزل الملائكة على هؤلاء
إنما يكون عند الموت تأتيهم ملائكة
الرحمة بحنوط من الجنة ويأخذون روحه
من يد ملك الموت فيحنطوها
بذلك الحنوط ويكفونها بذلك الكفن ويصعدون
بها إلى السماء التي فيها الله!!
ويبشرون بالجنة.
وأما قبل ذلك فربما بشر
أهل الجنة وأولياء الله ببشرى غير مقطوع
بها وهي الرؤيا الصالحة كما
قال صلى الله عليه وسلم:
[لم يبق من النبوة إلا المبشرات: قالوا وما
المبشرات يا رسول الله؟ قال:
الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو
ترى له، ولكن المؤمن وإن رأى مثل
ذلك أو رؤيت له لا يعول عليها، ولا
يتكل عليها، ولا يفرط في شيء من العمل
الصالح من أجلها، ولا يرتكب
صغيرة أو كبيرة تهاوناً واتكالاً اطمئناناً إلى
هذه الرؤيا.. كيف
والرسول نفسه صلى الله عليه وسلم كان يقول:
[والله إني لرسول الله لا
أدري ما يفعل بي غداً].
ومن أجل ذلك بشر رسول الله صلى الله عليه
وسلم أناساً بأعيانهم
بالجنة. فقال: [أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة،
وعثمان في الجنة، وعلي في
الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة
وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وطلحة في
الجنة، والزبير في الجنة، وسعيد
بن زيد في الجنة، وبشر غير هؤلاء كذلك
كبلال بن رباح، وعبدالله بن
سلام، وعبدالله بن عمر بن الخطاب].
وقد كانوا جميعاً يخافون
ويعملون ويجدون وهذا عمر بن الخطاب رضي
الله عنه يقول وهو على فراش
الموت:
[وددت أن عملي كله كفافاً لا لي ولا علي.. ووالله لو أن طلاع
الأرض ذهباً
لافتديت بها من عذاب الله قبل أن أراه]
(رواه
البخاري).
والخلاصة أن أهل التقوى والخوف من الله هم الذين
يؤمنون ويسلمون
ويقال لهم: {يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم
تحزنون}.
وفي الجنة تكون أول كلمات أهل الإيمان التي
يقولونها
{الحمدلله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور}.
فلقد كانت حياتهم في
الدنيا أحزاناً أثر أحزان وهموماً تتبعها
هموم، وغم يتلوه غم، وهم في
كل حياتهم خائفون مشفقون.
وعندما يجلس أهل الجنة أول مجالسهم في جنات
النعيم على سرر
متقابلين يقبل بعضهم على بعض بعد مجلس شراب تنازعوا فيه
الكئوس، ودارت
عليهم بها الغلمان المخلدون كأنهم اللؤلؤ المكنون يقول
بعضهم لبعض
{قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا
عذاب السموم إنا
كنا من قبل ندعوه إنه البر الرحيم} (الطور:26-28).
وبينما هم كذلك في سرورهم
وحبورهم ولذتهم وطعامهم وشرابهم
ونسائهم يكون أهل النار في صراخهم
وعذابهم يدعون على أنفسهم بالهلاك
والثبور لأن جريمتهم أنهم أمضوا
حياتهم مسرورين فكهين لا يحملون هماً ولا
غماً:
{وأما من أوتي
كتابه وراء ظهره فإنه يدعو ثبوراً ويصلى سعيراً إنه كان في
أهله
مسروراً إنه ظن أن لن يحور}.
الموضوع : انت والمخاوف المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya