ثم تحولت فاضطجعت على فراشي
وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببرائتي .
ولكن
والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحياً يتلى ، ولأنا أحقر في نفسي من
أن يتكلم الله بالقرآن في أمري .
ولكن
كنت أرجو أن يرى رسول الله r في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت : فوالله
ما
رام([11]) رسول الله مجلسه ولا خرج أحد من أهل
البيت حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء([12]) حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم
شاتٍ من ثقل القول الذي أنزل عليه .
قالت
فَسُرِّ عن رسول الله وهو يضحك وكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي : يا
عائشة احمدي الله .
ومن
الرواة من قال : أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك
فقالت
لي أمي : قومي إلى رسول الله .
فقلت :
لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل برءتي فأنزل الله
عز وجل.{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا
تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ
مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ
مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ{11} لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا
إِفْكٌ مُّبِينٌ{12} لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ
الْكَاذِبُونَ{13} وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ{14} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً
وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ{15} وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم
مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ
عَظِيمٌ{16} يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{17} وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ{18} إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ
فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }([13])[ النور / 11- 19] .
في
مقابل هذه الصورة القاتمة البشعة (صورة الإفك) نرى هذه الصورة المشرقة
الوضيئة.
إنه
الفتى الذي لم يجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً .
إنه
عمير بن سعد الذي مات أبوه وتزوجت أمه برجل ثري يقال له : الجلاس بن سويد
الذي أحب عميراً حباً شديداً .
وفي
السنة التاسعة للهجرة أمر النبي المسلمين أن يستعدوا ويتجهزوا لغزوة تبوك
وتسابق المؤمنون الصادقون وتكاسل المنافقون وذهب الفتى المؤمن عمير بن سعد
ليقص على الجلاس ما رأى وما سمع من المؤمنين الصادقين الذين راحوا يبذلون
كل ما يملكون لرسول الله .
وإذ
بالجلاس ينطق بعبارة تخرجه من الإسلام دفعة واحدة وتدخله في الكفر من أوسع
أبوابه فلقد قال الجلاس لعمير : إن كان
محمد صادقاً فيما يدعيه فنحن شر من الحمير !!!
فالتفت
الفتى المؤمن عمير بن سعد إلى الجلاس وقال :
والله
ما كان على ظهر الأرض أحد بعد رسول الله أحب إليّ منك فأنت آثر الناس عندي
وأجلهم على ولقد قلت مقالة إن ذكرتها فضحتك وإن أخفيتها خُنْتُ أمانتي
وأهلكت نفسي وديني وقد عزمت على أن أمضي إلى رسول الله وأخبره بما قلت فكن
على بينة من أمرك . ومشى عمير بن سعد وأخبر النبي بما سمع من الجلاس بن
سويد . فاستبقاه الرسول عنده وأرسل أحد أصحابه ليدعو له الجلاس فجاء
الجلاس وحيا النبي وجلس بين يديه .
فقال
له النبي : ما مقالة سمعها منك عمير بن سعد ؟!
وذكر
له النبي ما قال . فقال الجلاس : كذب على يا رسول الله وافترى !! فما تفوهت
بشيء من ذلك وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئا مما نقله لك عمير !! والتفت
الرسول إلى عمير فرأى وجهه وقد احتقن بالدم والدموع تنحدر مدراراً من
عينيه فتتساقط على خديه وصدره ، وهو يقول : اللهم أنزل على نبيك بيان ما
تكلمت به واستجاب الله دعوة هذا الفتى المؤمن فغشيت رسول الله السكينة
فعرفوا أنه الوحي فلزموا أماكنهم وسكنت جوارحهم ولاذوا بالصمت ، وتعلقت
أبصارهم بالنبي يتلو قول الله عز وجل :
{يَحْلِفُونَ
بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ
بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ
إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ
يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً
أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن
وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}[التوبة:74]
فارتعد
الجلاس من هول ما سمع ، وظل يصرخ : بل أتوب يا رسول الله !! بل أتوب يا
رسول الله !! صدق عمير يا رسول الله وكنت من الكاذبين !!
وهنا
توجه النبي إلى الفتى البار .... إلى الفتى الصادق عمير بن سعد ودموع
الفرح تبلل وجهه المشرق بنور الإيمان ، فمد الرسول الكريم يده الشريفة إلى
أذن عمير وأمسكها برفق وقال : وفت أذنك ما سمعت وصدقك ربك يا عمير (1)
أسأل
الله جل وعلا أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.
الدعاء
(1) رواه
البخاري رقم (2766) في الوصايا ، باب قول الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} ، وفي الطب ، باب الشرك
والسحر من الموبقات ، وفي المحاربين ، باب رمي
المحصنات ، ومسلم رقم (89) في الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها ،
وأبو داود رقم (2874) في الوصايا ، باب ما جاء في التشديد في أكل مال
اليتيم والنسائي (257/6) في الوصايا ، باب اجتناب أكل مال اليتيم .
(1) رواه أبو داود رقم (4401،4400،4399) في
الحدود ، باب في المجنون يسرق أو يصيب أحدا ، واسناد حسن ، وصححه شيخنا
الألباني في صحيح الجامع رقم (3513) .
(2) رواه الطبراني ، وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع
(3515) ، والإرواء (82) .
(1) رواه مسلم رقم (1660) في الإيمان ، باب
التغليظ على من قذف مملوكه بالزنى ، وأبو داود رقم (5165) في الأدب ، باب
في حق المملوك ، والترمذي رقم (1940) في البر والصلة ، باب النهي عن ضرب
الخدم وشتمهم .
(2) رواه البخاري رقم (6858) في الحدود ، باب
قذف العبيد .
(1) الظلال (2490/4) .
(1)
رواه
مسلم رقم (1498) في اللهان في فاتحته ، والموطأ (737/2) في الأقشية ، باب
القضاء فيمن وجد مع امرأته رجلا ، وأبو داود رقم (4532) في الديات ، باب
فيمن وجد مع أهله رجل أيقتله ؟
(2)
رواه
البخاري رقم (6846) في المحاربين ، باب من رأى مع امرأته رجلا فقتله ، وفي
التوحيد ، باب لا شخص أغير من الله ، ورواه أيضاً تعليقا (279/9) في
النكاح ، باب الغيرة ، ومسلم رقم (1499) في اللعان في فاتحته .
(
*) قال
الحافظ أبن حجر فى فتح البارى :
كذا فى هذه الرواية أن آيات اللعان نزلت على قصة هلال بن أمية ،
وفى حديث سعد الماضى (4749) أنها نزلت فى عويمر ، ولفظة فجاء عويمر فقال يا
رسول الله ، رجل وجد مع أمرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يصنع؟ فقال
رسول الله r: فد أنزل الله فيك وفى صاحبتك فأمرهما
بالملاعنة.
وقد أخلف الأئمة فى هذا الموضوع : فمنهم من رجح أنها نزلت فى
شأن عويمر ، فمنهم من رجح أنها نزلت فى شأن هلال ، ومنهم من جمع بينهما بأن
أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجئ عويمر أيضا فنزلت فى شأنهما معا فى وقت
واحد.
وقد جنح النووى إلى هذا ، وسبقه الخطيب فقال : لعلهما اتفق
كونهما جاءا فى وقت واحد .
ثم قال الحافظ : ولا مانع أن تعدد القصص ويتحد النزول ، ويحتمل أن
النزول سبق بسبب هلال ، فلما جاء عويمر ولم يكن يعلم بما وقع لهلال أعلمه
النبى rبالحكم، ولهذا قال فى قصة هلال "فنزل جبريل" وفى
قصة عويمر "قد نزل الله فيك" فيؤول قوله قد أنزل الله فيك أى وفيمن كان
مثلك ، وأما قوله لعويمر:"وقد أنزل فيك وفى صاحبتك" فمنعناه ما نزل من قصة
هلال ، ويؤيد أنه فى حديث أنس عن أبى يعلى قال :"أول لعان كان فى الإسلام
أن شريك بن سمحاء قذفه هلال بن أمية بأمرأته . أ. هـ [فتح البارى /8 4. 3 ،
5 .3 ط دار الريان للتراث بالقاهرة].
(1) رواه البخارى رقم (4747) فى التفسير سورة
النور، باب "ويدرأ عنها العذاب" وفى الشهادات ، باب إذا ادعى أو قذف فله أن
يلتمس البينة، وفى الطلاق ، باب يبدأ الرجل بالتلاعن ، وأبو داود رقم
(2254) فى الطلاق ، باب فى اللمعان والترمذى رقم (3178) فى التفسير باب ومن
سورة النور.
(2) قال الحافظ فى الفتح : فوله استلبث الوحى
بالرفع أى طال لبث نزوله وبالنصب أى أستبطأ النبى rنزول
الوحى.
(2) قال الحافظ فى الفتح : هم أهلك أى العفيفة
اللائقة بك ، وإطلاق الأهل على الزوجة شائع.
(3) قال الكرمانى : وإنما قال على رضى الله عنه
ذلك تسهيلا للأمر على رسول الله rوإزالة لما هو ملتبس به، وتخفيفا لما شاهد فيه ،
لا عداوة لها حاشاهم عن ذلك.
(4) قال الداودى أمرها بالاعتراف ولم يندبها إلى
الكتمان ، للفرق بين أزواج النبى r.
= وغيرهن فيجب على أزواجه الاعتراف بما يقع منهن ، ولا يكتمنه
إياه ، لأانه لا يحل لنبى إمساك من يفع منها ذلك بخلاف نساء الناس فإنهن
يندبن إلى الشر.
(2) مارام : ما فارق .
(3) البرحاء : هى شدة الحمى.
(1) رواه البخارى رقم (2661) فى الشهادات باب
تعديل النساء بعضهن بعضا ، ورواه أيضا فى الجهاد ، وفى المغازى ، وفى
التفسير وفى الاعتصام وفى التوحيد ، ورواه مسلم رقم (2270) فى التوبة باب
حديث الإفك ، وقبول توبة القاذف ، والترمذى رقم (3179) فى التفسير باب ،
ومن سورة النور، والنسائى (163/1 ، 164) فى الطهارة ، باب بدء التيمم.
(1)
ذكره
السيوطي في الدر المنثور مختصرا وعزاه إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
وابن أبي شيبة ، وابن إسحاق وغيرهم ، انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير
(2/371) ط . دار التراث بالقاهرة .
الموضوع : قذف المحصنات الغافلات المؤمنات/الشيخ محمد حسان المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya