الغيبُ قوام العقل، وحصن الأخلاق، ومنبع الجمال.. وبه يكون الإنسان إنسانا وإلا فهو ومَن يمشي على أربع سواء .
- 1 –
كان النقاش محتدما في «أثينا» بين تيارات فكرية متعددة إلى درجة الفوضى؛ وذلك أنهم كانوا يتناقشون في كل شيء بلا قيد أو ضبط علمي أو منهجي، مما حدا بالعقلاء منهم، وبالذات الفلاسفة الثلاثة الأكثر شهرة: سقراط، أفلاطون، وأرسطو، أن يعيدوا مَنهَجة المناقشات الدائرة هنالك بصور أكثر عقلانية، والظروف التاريخية أتاحت لأرسطو أن يكون خاتِمَ هذه المرحلة ومُنظّرها، فكتب العديد من الكتب والمقالات لأجل هذا الغرض.
وفي القرن الأول قبل الميلاد نُشرت كتب أرسطو ومقالاته بصور منظمة على يد أندرونيقوس الرودسي، فنظّمها بحيث جعل كتاب المنطق في البداية؛ باعتباره أساس التفكير، ثم كتاب الرياضيات، ثم كتاب الطبيعة؛ الذي يتناول شؤون عالم الطبيعة المادية، ثم أخيرا كتاب الفلسفة الأولى؛ الذي يبحث في أمور غير مادية بل مركز اهتمامه على الشؤون الفلسفية من قبيل مفاهيم الإمكان والوجوب، والعليّة، والماهية.. وغيرها من مباحث الفلسفة آنذاك، ثم اشتهرت هذه المباحث التي تتعلق بالشؤون الفلسفية البحتة بـ«الميتافيزيقا» (Metaphysics)؛ أي ما بعد الطبيعة، والمقصود من «الطبيعة» هنا كتاب أرسطو السابق له من حيث الترتيب المكتبي، وهكذا صار كل بحث يتناول الشؤون الفلسفية البحتة يسمى بالميتافيزيقا، وامتد هذا الأمر بامتداد الفلسفة في أرجاء المعمورة سواء في الشرق أو الغرب.
وكطبيعة العلوم في نموها وتشعب مباحثها فإن القضايا التي تناولتها «الميتافيزيقا» كثرت ونمت وتشعبت وذلك بكثرة الأسئلة، حيث طرحت عدة أسئلة حول وجود ماهيات أو مخلوقات غير مادية بل مجردة من شوائب المادة، وانجر الكلام إلى حقيقة الروح الإنسانية وطبيعة النفس، ثم حول حقيقة مخلوقات تتميز بالقوة والنفاذ كالجن أو الملائكة أو غيرهم. ولأنّ الباحثين يتفاوتون في مستوى التزاماتهم المنهجيّة في التفكير فإنّ هذا الحقل احتوى آراء غريبة توصف بالخرافة والأسطورة بنفس القدر الذي احتوى على آراء تمثّل قمة في الأصالة العقلية، فالمهم أن هذا الحقل صار بؤرة للأمور المعقولة وغير المعقولة.
- 2 –
ضمن ظروف تاريخيّة معينة حدث ثمة امتزاج بين فلسفة أرسطو مشوهة مع الفكر الديني المسيحي، فصارت المسيحية محميّة من قبل فلسفة أرسطو في مواجهة المشككين، واقترن مع هذا تلبُّس الدولة الرومانية بالدين المسيحي لتبرر استبدادها وسلبياتها بمبررات دينية، فصار الناسُ محكومين بالاستبداد رؤية ودينا وسياسة.
ولعمق هذا الاستبداد فإن الحركات التي قاومته واجهته بمستوى عمقه ولكن بالاتجاه المعاكس، فكانت المعركة شرسة فلسفيا ودينبا وسياسيا، مما نتج عن ذلك نسبية المعرفة المفرطة إلى درجة اللا إدرية، وإلحادية الكفر إلى درجة العدمية، ومحدودية الدولة إلى درجة الحارس الأمين.
ولم تجرِ هذه العملية في ليلة وضحاها بل هي تراكم قرنين أو ثلاثة من الصراع بين تيارين عرضين في الفكر: المثالية والواقعية، وتُوِّج هذا الصراع في بدايات القرن الماضي مع تبور الفلسفة الوضعية المنطقية؛ أشد وأشرس المدارس الفلسفية المعاصرة في مواجهتها للتفكير الميتافيزيقي؛ حيث نادت هذه المدرسة بالتجريبية الحسية المادية المحضة، دون قبول لأي فكر فلسفي متافيزيقي يفكر وراء معطيات الحس. فكان لذلك نتائج متعددة في مجال المعرفة والأخلاق والجمال. هذا في السياق الغربي.
- 3 –
لحظة تربع الفلسفة الوضعية على كرسي الفلسفة في الغرب كانت متزامنة مع تلاقي الشرق العربي الإسلامي وانفتاحه الحضاري على الغرب، مما جعل لهذه المدرسة رواجا كبيرا فيها، وليس في ذلك ضير، لكن المشكلة كانت في كيفية تعاطي مثقفي العالم العربي الإسلامي مع هذه المدرسة وغيرها في تلك الفترة وإلى اليوم، وللوقوف لحظات مع هذا التعاطي نسجل الملاحظات التالية:
أول عملية تلبيس وقع فيها مثقفو العالم العربي الإسلامي هي ترجمة كلمة الميتافيزيقا أو «ما وراء الطبيعة» بـ«الغيب»، وبالتالي أجروا عليها كل الأحكام الصادرة من المدرسة الوضعية على التفكير الميتافيزيقي، مما لبّس المفهوم وأعطاه دلالات لا يحتملها، فصار من الرائج وسمُ أي فكر غير مرغوب به لدى مدعي العقلانية بأنه تفكير ما ورائي أو غيبي، في حين أن مفهوم الغيب في الفكر الديني الإسلامي أمر لا ينطبق تماما مع مفهوم الميتافيزيقا.
الأمر الثاني، من الغريب أنّ كثيرا من المثقفين الذين تعاطوا مع الفلسفة الغربية عموما حين نقلوا المدرسة الوضعية إلى عالمنا العربي الإسلامي نقلوها من غير نقد أو تحقيق، في الوقت الذي كانت نفس المدرسة الوضعية تعيش حالة من التدافع الثقافي بينها وبين منتقديها في العالم الغربي، مما يثير علامات استفهام عن مدى جدية أمثال هؤلاء المثقفين في إخلاصهم لمشروع النهضة.
الأمر الثالث، فشلت المدرسة الوضعية وعموم الفلسفات المادية في تقديم تفسير معقول للإنسان، بل إنّ ما انتهت إليه هو ضياع الإنسان؛ إذ انها على مستوى المعرفة انتهت إلى عدم قدرة الإنسان على الإحاطة بالحقيقة وإدراكها وبالتالي وقعت في شَرَك النسبية المتطرفة، وعلى مستوى الأخلاق صار الإنسان كائنا متوحشا ليس المطلوب منه التعلق بأي نُبُل أو قيم إلا ما يرجع نفعه عليه، ومع ما يدعى من الكشوفات البيولوجية سُويَ الإنسان والطبيعة تماما، وعلى مستوى الجمال ضاع المعنى فلا حس ولا محسوس.. والنتيجة فإن كيان الإنسان وهويته ضاعت بضياع الغيب من حياته. لكن مروجي هذه المدرسة ومثيلاتها لا يزالون متعلقين بأحلام فلاسفة عصر النهضة و«تنويرها» تلك الأحلام التي باتت كوابيس بعد أن تكفلت الفلسفة الوضعية بتأويلها وتعبيرها.
والمحصلة: أنّ قلة الخبرة، وتسييس الفكر، وخداع الذات، كانوا عناصر سوء في السلوك الثقافي للعديد من دعاة الثقافة، وكانت حصيلتها من السلبيات أكثر من الإيجابيات.
- 4 –
الفكر الديني بما يحمله من مضامين غيبية أفضل مقوم للعقل البشري لينطلق في رحاب الحقيقة بأوسع آفاقها، وأمنَعُ حصن لفطرته وضميره ليسعى إلى كمال لا متناهي من الفضائل الأخلاقية، وأوفر ينبوع لجريان ذوقه ورهافة حسه ليكون عاشقا للجمال.. وبعبارة أخرى: الإيمان بالغيب مصدر إنسانية الإنسان وحصنه ضد الضياع.
" ألم * ذَلِكَ الْكِتَبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَممَِّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بمَِا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَ ِبالاَْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئكَ عَلىَ هُدى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "-----------------------
الموضوع : الكفر بالغيب وضياع الانسان المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: Da3waSal7a