((نفحة قدسية))
لِمَ
الأمراض؟ وللسعادة خُلقنا!
الشهوة
الخبيثة التي استحكمت في النفس بإعراضها عن بارئها، إنما هي تخمة النفس،
وهي مرض القلب، فمن رحمة الله تعالى بهذا الإنسان، أنه يخرج له هذه الشهوة
من قلبه، بارتكابه ما صمم عليه واستحكم في نفسه، وبذا تخلو ساحة النفس من
هذه الشهوة، وبعدها يرسل له البلاء، لعله بهذا العلاج الذي جاءه يؤوب ويرجع
للحق والتوبة النصوح.
وإخراج
الشهوة يكون بتزيين من الشيطان وأوليائه، يأمرون هذا الإنسان المعرض عن
ربه بواسطة الوسوسة والإلقاء والنفث، وغيرها من أبواب دخول الشيطان على
النفس الغافلة، حتى إذا فعل هذا الإنسان جناية واحدة، يسوق له تعالى البلاء
لعله يرجع، فبهذا البلاء والعذاب الأليم، معالجة لتطهير النفس من جرثوم
الشهوة، وسببٌ لعلها تعود عن أخطائها، وتتوب وتؤوب إلى ربها، وبذا يمكن
شفاؤها.
{مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ
إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ...} سورة
النساء: الآية(147).
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ
الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} سورة السجدة: الآية(21).
إنَّ
المرء المعرض عن الله تُحَبَّبُ إليه شهوة، ويزيَّن له سوء عمله، فيراه
حسناً ويستهويه، ويباشره مفتوناً به، وعندئذٍ وبعد خروج الشهوة من النفس،
تنصبُّ الشدائد على مريض القلب هذا صبّاً، ويُنزِل الله تعالى به المصائب،
ما يجعله في ضيق وغمّ وهمّ، فلا يجد ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه.
فالناس هم والحالة هذه بين أحد أمرين:
أ ــ
إما أن يسلكوا طريق الإيمان، وقد انفتح أمامهم المجال وتمهّدت السبل، ولم
يبقَ في النفس من الشهوات بسبب هذه المصيبة، ما يعوقها عن التفكير بآيات
الله، والنظر في هذا الكون، والتعرف منه إلى خالقهم ومربيهم فيؤمنوا.
ب ــ
وإما أن يتناسوا ما حلَّ بهم، ولا ينتهزوا هذه الفرصة السانحة، وذلك بعد أن
صفت نفوسهم من الشهوات ومن التعلق بالدنيا الدنية الذي أحاط بنفوسهم،
وينسبون ذلك إلى الدهر وتقلبات الأيام بدل الرجوع لأعمالهم الخبيثة
والإقلاع والتوبة عنها، أو بسبب فلان ، بل يعودون بعد رفع الشدّة أو المرض،
إلى الانشغال بالدنيا والانصراف إليها، وهنالك تعود الشهوة الخبيثة التي
لم يمت جرثومها، فتنبت من جديد في نفوسهم ويرجعون إلى ما كانوا عليه من
قبل.
وما
تزال الرحمة الإۤلهية تسوق لهم من التسلطات والشدائد
والمصائب، ألواناً وأنواعاً:
{...وَلاَ
يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ...}: من ارتكاب
واقتراف: { قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى
يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} سورة الرعد: الآية(31).
فإذا
انتهز الإنسان الفرصة، ورجع بعد كشف البلاء عنه إلى الله، هاجراً الدنيا
الدنية وأهلها، سالكاً طريق الإيمان، فهنالك يسري الإيمان إلى نفسه، وتكون
هذه الشدائد خيراً كبيراً، وتحوُّلاً حسناً عظيماً، وتكون أيامه بعدها ملأى
بعمل الإحسان والخير والسرور، والنعيم المقيم.
فلو أن
الإنسان رجع إلى خالقه، وآمن به من ذاته بذاته، فلا شك أن رجوعه يجعله
يستنير بقبس من نور الله، فيرى حقائق الشهوات المهلكة التي انغمس فيها
الناس وانصرفوا إليها، فينطلق باكياً عليهم، ويتفطر قلبه حزناً وأسى،
ويتمنى لو ينقذهم بعدها إن أمكنه.
أما
إذا ظل متلبساً بالمعصية والتعدي، مصرّاً عليها، بعيداً عن التفكير
والاستنارة بنور الله، فلا يمكن في حال من الأحوال أن يترك الشهوة الخبيثة،
ويزهد فيما هو ماثل له، متغلب عليه، وهو مادام بهذا الحال، فهو بعيد كل
البعد عن فعل المعروف والإحسان، منحرف عن نيل السعادة الدنيوية والأبدية،
التي ما أخرج الله تعالى الإنسان لهذه الدنيا إلا ليسعى إليها، وليبذل
الجهود في سبيلها، ولذلك ومن رحمة الله تعالى بهذا الإنسان، أن يُخرج له
هذه الشهوة الخبيثة المستقرة فيه أولاً، ثم يتبع ذلك الخروج بالعلاج من
أمراض أو تسلطات من الناس، فلعل هذا الإنسان عند ذلك يصحو من غفلته، ويسير
في طريق سعادته، مرتدعاً عن غيه، راجعاً إلى خالقه وبارئه، رابحاً الدنيا
والآخرة، فيكون من أولئك: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا
لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}: استسلم إلى الله ورجع بالتوبة {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ
مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ...}: بهذا الصبر الذي صبروه، واعترافهم برحمة
الله، طهرت نفوسهم، فينزل التجلي الإۤلهي عليهم.
{...وَأُولَـئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ}:للحق، يحصل لهم نور من الله، وهؤلاء يدخلون الجنة.
أما
الذين لم يؤمنوا بالله إيماناً حقيقياً، يُظهر ما في نفوسهم من حب الدنيا
وزينتها، وينتزع ما عَلق بها من أدران، حيث ظلوا يؤثرون شهواتهم الدنية،
على ما أعدّه الله لهم في الآخرة من فضل كبير وإنعام، هؤلاء يرحمهم الله
بأن يبتليهم بالشدائد والأمراض، ويجعل من عملهم سبباً لظهور حقائقهم، وخروج
ما كمن في نفوسهم، فلعلهم بعد خروج شهواتهم الخبيثة منها، يصبحون في حال
يمكن أن تفيده المعالجة والمداواة. أما إن كان ممن يعبد الله على حرف:
{...فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ
انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}
سورة
الحج (11).
لذا
على المرء ألا يبقى بالاعتقاد، بل يتحقق من ذاته لذاته، ويستدل من خلال
آيات الكون وعظمتها، إلى صانعها، فيستقيم على أمره، وتتنزل عليه الملائكة
بالبشرى والاطمئنان: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا
وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ،
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَدَّعُونَ} سورة فصلت:
الآية(30ــ31).