موضوع: قامت الأدلة العقلية علي صحة " كل مولود يولد علي الفطرة " السبت 27 فبراير 2010 - 13:27
وهذا أخبر به النبي من أن كل مولود يولد على الفطرة الحنيفية هو الذي تقوم الأدلة العقلية على صحته وأنه كما أخبر به الصادق المصدوق ومن خالف ذلك فقد غلط وبيان ذلك من وجوه أحدها أن الإنسان قد يحصل له من الإعتقادات والإرادات ما يكون حقا وقد يحصل له منها ما يكون باطلا إذ اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهي الحق والخبر عنها يسمى صدقا وقد تكون غير مطابقة وهي الباطل والخبر عنها يسمى كذبا والإرادات تنقسم إلى ما تكون نافعة له متضمنة لمصلحته ومرادها هو الخير والحسن وإلى ما هو ضارة له مخالفة لمصلحته ومرادها هو الشر والقبح وإذا كان الإنسان تارة يكون معتقدا للحق مريدا للخير وتارة يكون معتقدا للباطل مريدا للشر فلا يخلو أما أن تكون نسبة نفسه الباطنة إلى النوعين نسبة واحدة بحيث لا يكون فيها مرجحا لأحدهما على الآخر أو تكون نفسه مرجحة لأحد الأمرين على الآخر فإن كان الأول لزم أن لا يوجد أحد النوعين إلا بمرجح منفصل عنه فإذا قدر رجحان أحدهما ترجح هذا والآخر ترجح هذا فأما أن يتكافأ المرجحان أو يترجح أحدهما فإن تكافأ لزم أن لا يحصل واحد منهما وهو خلاف المعلوم بالضرورة فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يعتقد الحق ويصدق وأن يريد ما ينفعه وعرض عليه أن يعتقد الباطل ويكذب ويريد ما يضره مال بفطرته إلى الأولى ونفر عن الثاني فعلم أن فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة الخير وحينئذ الإقرار بوجود فاطره وخالقه ومعرفته ومحبته والإيمان به وتعظيمه والإخلاص له أما أن يكون من النوع الأول أو الثاني وكونه من الثاني معلوم الفساد بالضرورة فتعين أن يكون من الأول وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي محبته ومعرفته والإيمان به والتوسل إليه بمحابه الوجه الثاني أن عبادته وحده بما يحبه إما أن يكون أكمل للناس علما وقصدا أو الإشراك به أكمل والثاني معلوم الفساد بالضرورة فتعين الأول وهو أن يكون في الفطرة مقتضى يقتضي توحيده وتألهه وتعظيمه الوجه الثالث أن الحنيفية التي هي دين الله ولا دين له غيرها إما أن تكون مع غيرها من الأديان متماثلين أو الحنيفية أرجح أو تكون مرجوحة والأول والثالث باطلان قطعا فوجب أن يكون في الفطرة مرجح يرجح الحنيفية وامتنع أن يكون نسبتها ونسبة غيرها من الأديان إلى الفطرة سواء الوجه الرابع أنه إذا ثبت أن في الفطرة قوة تقتضي طلب معرفة الحق وإيثاره على ما سواه وأن ذلك حاصل مركوز فيها من غير تعلم الأبوين ولا غيرهما بل لو فرض أن الإنسان تربى وحده ثم عقل وميز لوجد نفسه مائلة إلى ذلك نافرة عن ضده كما يجد الصبي عند أول تمييزه يعلم أن الحادث لا بد له من محدث فهو يلتفت إذا ضرب من خلفه ليعلم أن تلك الضربة لا بد لها من ضارب فإذا شعر به بكى حتى يقتص له منه فيسكنفقد ركز في فطرته الإقرار بالصانع وهو التوحيد ومحبة القصاص وهو العدل وإذا ثبت ذلك ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته سبحانه ومحبته واجلاله وتعظيمه والخضوع له من غير تعليم ولا دعاء إلى ذلك وإن لم يكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك بل يحتاج كثير منهم إلى سبب معين للفطرة مقولها وقد بينا ان هذا السبب لا يحدث في الفطرة ما لم يكن فيها بل يعينها ويذكرها ويقويها فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين يدعون العباد إلى موجب هذه الفطرة فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة عن مقتضاها استجابت لدعوة الرسل ولا بد بما فيها من المقتضى لذلك كمن دعا جائعا أو ظمأن إلى شراب وطعام لذيذ نافع لا تبعة فيه عليه ولا يكلفه ثمنه فإنه ما لم يحصل هناك مانع فإنه يجيبه ولا بد الوجه الخامس أنا نعلم بالضرورة أن الطفل حين ولادته ليس له معرفة بهذا الأمر ولا عنده إرادة له ويعلم أنه كلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل له من معرفته بربه ومحبته ما يناسب قوة فطرته وضعفها وهذا كما يشاهد في الاطفال من محبة جلب المنافع ودفع المضار بحسب كمال التمييز وضعفه فكلاهما أمر حاصل مع النشأة على التدريج شيئا فشيئا إلى أن يصل إلى حده الذي ليس في الفطرة استعداد لأكثر منه لكن قد يتفق لكثير من الفطر موانع متنوعة تحول بينها وبين مقتضاها وموجبها الوجه السادس أنه من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلم وداع حصل لها من العلم والإرادة بحسبه ومن المعلوم أن كل نفس قابلة لمعرفة الحق وإرادة الخير ومجرد التعليم لا يوجب تلك القابليةفلولا أن في النفس قوة تقبل ذلك لم يحصل لها القبول فإن لحصوله في المحل شروط مقبولة له وذلك القبول هو كونه مهيأ له مستعدا لحصوله فيه وقد بينا أنه يمتنع أن يكون سببه ذلك وضده إلى النفس سواء الوجه السابع أنه من المعلوم مشاركة الإنسان لنوع الحيوان في الإحساس والحركة الإرادية وحبس الشعور وأن الحيوان البهيم قد يكون أقوى إحساسا وحياة وشعورا من الإنسان وليس بقابل لما الإنسان قابل له من معرفة الحق وإرادته دون غيره فلولا قوة في الفطرة والنفس الناطقة اختص بها الإنسان دون الحيوان يقبل بها أن يعرف الحق ويريد الخير لكان هو والحيوان في هذا العدم سواءوحينئذ يلزم أحد أمرين كلاهما ممتنع أما كون الإنسان فاقدا لهذه المعرفة والإرادة كغيره من الحيوانات أو تكون حاصلة لها كحصولها للإنسان فلولا أن في الفطرة والنفس الناطقة قوة تقتضي ذلك لما حصل لها ولو كان بغير قوة ومقتضى منها لا يمكن حصوله للجمادات والحيوانات لكن فاطرها وبارئها خصها بهذه القوة القابلية وفطرها عليها يوضحه الوجه الثامن أنه لو كان السبب مجرد التعليم من غير قوة قابلة لحصل ذلك في الجمادات والحيوانات لأن السبب واحد ولا قوة هناك يهيء بها هذا المحل من غيره فعلم أن حصول ذلك في محل دون محل هو لاختلاف القوابل والاستعدادات الوجه التاسعأن حصول هذه المعرفة والإرادة في العدم المحض محال فلا بد من وجود المحل وحصوله في موجود غير قابل محال بل لا بد من قبول المحل وحصوله من غير مدد من الفاعل إلى القابل فلو قطع الفاعل إمداده لذلك المحل القابل لم يوجد ذلك المقبول فلا بد من الإيجاد والإعداد فإذا استحال وجود القبول من غير إيجاد المحل استحال وجوده من غير إعداده وإمداده والخلاق العليم سبحانه هو الموجد المعد الممد الوجه العاشر أنه من المعلوم أن النفس لا توجب بنفسها لنفسها حصول العلم والإرادة بل لا بد فيها من قوة يقبل بها ذلك لا تكون هي المعطية لتلك القوة وتلك القوة لا تتوقف على أخرى والإ لزام التسلسل الممتنع والدور الممتنع وكلاهما ممتنع فها هنا ثلاثة أمور أحدها وجود قوة قابلة قابلة الثاني أن تلك القوة ليست هي المعطية لها الثالث أن تلك القوة لا تتوقف على قوة أخرى فحينئذ لزم أن يكون فاطرها وبارئها قد فطرها على تلك القوة وأعدها بها لقبول ما خلقت له وقد علم بالضرورة أن نسبة ذلك إليها وضده ليسا على السواء الوجه الحادي عشر إنا لو فرضنا توقف هذه المعرفة والمحبة على سبب خارج أليس عند حصول ذلك السبب يوجد في الفطرة ترجيح ذلك ومحبته على ضده فهذا الترجيح والمحبة والأمر مركوز في الفطرة الوجه الثاني عشر أنا لو فرضنا أنه لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج لكانت الفطرة مقتضية لإرادة المصلح وإيثاره على ما سواه وإذا كان المقتضى موجودا والمانع مفقودا وجب حصول الأثر فإنه لا يتختلف إلا لعدم مقتضيه أو لوجود مانعه فإذا كان المانع زائلا حصل الأثر بالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم الوجه الثالث عشرأن السبب الذي في الفطرة لمعرفة الله ومحبته والإخلاص له إما أن يكون مستلزما لذلك وإما أن يكون مقتضيا بدون استلزام أو يستحيل أن لا يكون له أثر البتة وعلى التقديرين يترتب أثره عليه إما وحده على التقدير الأول وإما بانضمام أمر آخر إليه على التقدير الثاني الوجه الرابع عشر أن النفس الناطقة لا تخلو عن الشعور والإرادة بل هذا الخلف ممتنع فيها فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها فلا يتصور إلا أن تكون شاعرة مريدة ولا يجوز أن يقال أنها قد تخلو في حق خالقها وفاطرها عن الشعور بوجوده وعن محبته وإرادته فلا يكون إقرارها به ومحبته من لوازم ذاتها هذا باطل قطعا فإن النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها وكونها مريدة هو من لوازم ذاتها فإنها حية وكل حي شاعر متحرك بالإرادة وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه قطعا للتسلسل في العلل الغائية فإنه محال كالتسلسل في العلل الفاعلة وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهو الله الذي لا لإله إلا هو الذي تألهه النفوس وتحبه القلوب وتعرفه الفطر وتقربه العقول وتشهد بأنه ربها ومليكها وفاطرها فلا بد لكل أحد من إله يألهه وصمد يصمد إليه والعباد مفطورون على محبة الإله الحق ومعلوم بالضرورة أنهم ليسوا مفطورين على تأله غيره فإذا إنما فطروا على تألهه وعبادته وحده فلو خلوا وفطرهم لما عبدوا غيره ولا تألهوا سواه يوضحه الوجه الخامس عشر أنه يستحيل أن تكون الفطرة خالية عن التأله والمحبة ويستحيل أن يكون فيها تأله غير الله لوجوه منها أن ذلك خلاف الواقع ومنها أن ذلك المخلوق ليس أولى أن يكون إلها لكل الخلق من المخلوق الآخر ومنها أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد بل كل طائفة تعبد ما تستحسنه ومنها أن ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل منه فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة الميت وأن كان حيا فهو أيضا مريد فله إله تألهه وحينئذ فلزم الدور الممتنع أو التسلسل الممتنع فلا بد للخلق كلهم من إله يألوهوه ولا يأله هو غيره وهذا برهان قطعي ضروري فإن قلت هذا يستلزم أنه لا بد لكل حي مخلوق من إله ولكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس هو مطلق التأله والمألوه لا إلها معينا كما تقوله طوائف الإتحادية قلت هذا يتبين بالوجه السادس عشر وهو أن المراد أما أن يراد لنوعه أو لعينه فالأول كإرادة العطشان والجائع والعاري لنوع الشراب والطعام واللباس فإنه إنما يريد النوع وحيث أراد المعين فهو القدر المشترك بين أفراده وذلك القدر المشترك كلي لا وجود له في الخارج فيستحيل أن يراد لذاته إذ المراد لذاته لا يكون إلا معينا ويستحيل أن يوجد في اثنين فإن إرادة كل واحد منهما لذاته تنافي إرادته لذاته إذ المعنى بإرادته لذاته أنه وحده هو المراد لذاته الخاصة وهذا يمنع أن يراد معه ثان لذاته وإذا عرف ذلك فلو كان القدر المشترك بين أفراد النوع أو بين الاثنين هو المراد لذاته لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مراد لذاته وكذلك ما يختص به الآخر والموجود في الخارج إنما هو الذات المختصة لا الكلي المشترك هامش تعلق الثالثة بالقدر المشترك لم يكن للخلف في الخارج إله ولكان إلههم أمرا ذهنيا وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهذا هو الذي يألهه طوائف أهل الوحدة والجهمية الذين أنكروا أن يكون الله تعالى لا خارج العالم ولا داخله فإن هذا إنما هو إله مفروض يفرضه الذهن كما يفرض سائر الممتنعات الخارجة وتظنه واجب الوجود وليس هو ممكن الوجود فضلا عن وجوبه وبهذا يتبين أن الجهمية وأخوانهم من القائلين بوحدة الوجود ليس لهم إله معين في الخارج يألهونه ويعبدونه بل هؤلاء ألهوا الوجود المطلق الكلي وأولئك ألهوا المعدوم الممتنع وجوده واتباع الأنبياء إلاههم الله الذي لا إله إلا هو الذي خلق الأرض والسموات العلي الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى هو الذي فطر القلوب على محبته والإقرار به وإجلاله وتعظيمه وإثبات صفات الكمال له وتنزيهه عن صفات النقائص والعيوب وعلى أنه فوق سمواته بائن من خلقه تصعد إليه أعمالهم على تعاقب الأوقات وترفع إليه أيديهم عند الرغبات يخافونه من فوقهم ويرجون رحمته تنزل إليهم من عنده فهممهم صاعدة إلى عرشه تطلب فوقه إلها عليا عظيما قد استوى على عرشه واستولى على خلقه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرض إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم والمقصود أنه إذا لم يكن في الحسيات الخارجة عن الأذهان ما هو مراد لذاته لم يكن فيها ما يستحق أن يأله أحد فضلا أن يكون فيها ما يجب أن يألهه كل أحد فتبين أنه لا بد من إله معين هو المحبوب المراد لذاته ومن الممتنع أن يكون هذا غير فاطر السموات والأرض وتبين أنه لو كان في السموات والأرض إله غيره لفسدتا وأن كل مولود يولد على محبته ومعرفته وإجلاله وتعظيمه وهذا دليل مستقل كاف فيما نحن فيه وبالله التوفيق المصدر : ك : شفاء العليل