الجواب
:
الحمد لله
"هذه مسألة عظيمة ولها
شأن خطير ، فسب الدين من أعظم الكبائر والنواقض للإسلام ، فإن سب الدين
ردّة عند جميع أهل العلم ، وهو شر من الاستهزاء ، قال الله تعالى : (قُلْ
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا
تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) التوبة/65 ، 66 .
وكانت جارية في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم تسب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقتلها سيدُها
لما لم تتب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ألا اشهدوا أن دمها هدر) .
فسب الدين يوجب الردة عن
الإسلام ، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك يوجب الردة عن الإسلام ،
ويكون صاحبه مُهْدَر الدم ، وماله لبيت المال ، لكونه مرتداً أتى بناقض من
نواقض الإسلام ، لكن إذا كان عن شدة غضب واختلال عقله فله حكم آخر .
والغضب عند أهل العلم له
ثلاث مراتب :
المرتبة الأولى :
أن يشتد غضبه حتى يفقد
عقله ، وحتى لا يبقى معه تمييز من شدة الغضب . فهذا حكمه حكم المجانين
والمعاتيه ؛ لا يترتب على كلامه حكم ، لا طلاقه ، ولا سبه ، ولا غير ذلك ،
ويكون كالمجنون لا يترتب عليه حكم .
المرتبة الثانية :
دون ذلك ، أن يشتد معه
الغضب ويغلب عليه الغضب جداً حتى يغير فكره ، وحتى لا يضبط نفسه ويستولي
عليه استيلاءً كاملاً ، حتى يصير كالمكره والمدفوع الذي لا يستطيع التخلص
مما في نفسه ، لكنه دون الأول ، فلم يَزُلْ شعوره بالكلية ، ولم يفقد عقله
بالكلية ، لكن معه شدة غضبٍ ، بأسباب المسابة والمخاصمة والنزاع بينه وبين
بعض الناس كأهله أو زوجته أو ابنه أو أميره أو غير ذلك .
فهذا اختلف فيه العلماء ؛
فمنهم من قال : حكمه حكم الصاحي وحكم العاقل ؛ فتنفذ فيه الأحكام ، فيقع
طلاقه ، ويرتد بسبّه الدين ، ويحكم بقتله وردته ، ويُفرَّق بينه وبين زوجته
. ومنهم من قال : يُلحق بالأول الذي فقد عقله ؛ لأنه أقرب إليه ، ولأن
مثله مدفوع مكره إلى النطق ، لا يستطيع التخلص من ذلك لشدة الغضب .
وهذا قول أظهر وأقرب ،
وأن حكمه حكم من فقد عقله في هذا المعنى ، أي في عدم وقوع طلاقه ، وفي عدم
ردْته ؛ لأنه يشبه فاقد الوعي بسبب شدة غضبه واستيلاء سلطان الغضب عليه حتى
لم يتمكن من التخلص من ذلك .
واحتجوا على هذا بقصة
موسى عليه الصلاة والسلام ، فإنه لما وجد قومه على عبادة العجل اشتد غضبه
عليهم ، وجاء وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه من شدة الغضب ، فلم
يؤاخذه الله لا بإلقاء الألواح ، ولا بجر أخيه هارون وهو نبي مثله ، ولو
ألقاها تهاوناً بها وهو يعقل لكان هذا عظيماً ، ولو جر إنسان النبي بلحيته
أو رأسه وآذاه لصار هذا كفراً .
لكن لما كان موسى في شدة
الغضب العظيم لله عز وجل على ما جرى من قومه سامحه الله ، ولم يؤاخذه
بإلقاء الألواح ولا بجر أخيه .
هذه من حجج الذين قالوا :
إن طلاق هذا الذي اشتد به الغضب لا يقع ، وهكذا سبه لا تقع به ردة ، وهو
قول قوي وظاهر ، وله حجج أخرى كثيرة بسطها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
والعلامة ابن القيم ، واختارا هذا القول .
وهذا القول أرجح عندي وهو
الذي أُفتي به ؛ لأن من اشتد غضبه ينغلق عليه قصده ويشبه المجنون بتصرفاته
وكلامه القبيح ، فهو أقرب إلى المجنون والمعتوه منه إلى العاقل السليم ،
وهذا قول أظهر وأقوى .
ولكن لا مانع من كونه يُؤدب بعض الأدب إذا فعل شيئاً من
أسباب الردة أو من وجوه الردة ، وذلك من باب الحيطة ، ومن باب الحذر من
التساهل بهذا الأمر ، أو وقوعه منه مرة أخرى إذا أدب بالضرب أو بالسجن أو
نحو ذلك ، وهذا قد يكون فيه مصلحة كبيرة ، لكن لا يحكم عليه بحكم المرتدين
من أجل ما أصابه من شدة الغضب التي تشبه حال الجنون ، والله المستعان .
المرتبة الثالثة :
فهو الغضب العادي ، الذي
لا يزول معه العقل ، ولا يكون معه شدة تضيِّق عليه الخناق ، وتفقده ضبط
نفسه ، بل هو دون ذلك ، غضب عادي يتكدر ويغضب ، ولكنه سليم العقل سليم
التصرف .
فهذا عند أهل العلم تقع تصرفاته ، ويقع بيعه وشراؤه
وطلاقه وغير ذلك ؛ لأن غضبه خفيف لا يغير عليه قصده ولا قلبه والله أعلم"
انتهى .
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
"فتاوى نور على الدرب"
(1/375 – 377) .