الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فبين الحين والآخر تقوم إسرائيل بالتلويح بإلغاء معاهدة السلام بينها وبين مصر مع أنها تعرف أن الشعب المصري لا تشرفه معاهدة السلام مع إسرائيل؛ إلا أنه يضغط على النظام المصري لمعرفته أن النظام لديه حسابات معقدة فيما يتعلق بالفاتورة الباهظة التي يتعين دفعها حال رجوع حالة الحرب بين مصر وإسرائيل فضلا عن حدوث الحرب فعلا.
وغني عن الذكر أن الحركة الإسلامية ككل تتمنى أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه معاهدة السلام في خبر كان لاعتبارات أهمها:
- أن الشرع لا يجيز الصلح الدائم مع الكفار الذي يعترف فيه بحقهم في إعلاء الكفر في أرض خصوصا إذا كانت أرضا إسلامية في يوم من الأيام، وإن أجاز الصلح المؤقت أو المطلق غير محدد المدة القابل للإلغاء من طرف واحد بإبلاغه الطرف الآخر بذلك قبل البدء بالحرب.
- ومنها، أن تلك المعاهدة كبلت مصر عن اتخاذ المواقف المناسبة التي تنسجم مع وزنها الإقليمي، وتتناسب مع عاطفة شعبها الدينية ومنها أحداث غزة.
ويمكن القول بأن الحركة الإسلامية وبصفة عامة تطالب أنظمتها الحاكمة بتطبيق الشريعة في الشئون الداخلية والخارجية مما يعني أن تتسم سياستها الخارجية بدرجة أعلى من الإباء أمام المخططات الغربية والصهيونية.
ولعل هذه القضية كانت هي العامل الأساسي الذي أثر على نظرة الحركة الإسلامية إلى أنظمة الحكم المدنية القائمة الآن في بلاد المسلمين؛ ذلك لأن الدولة الإسلامية التي يطالب بها الإسلاميون هي التي تسعى إلى حماية الدين وسياسة الدنيا بالدين، ومن ثمَّ تطبق الشريعة ليس في المجال القضائي فقط، ولكن في القضاء، والاقتصاد والاجتماع، والعلاقات الخارجية.
وتتباين نظرة الحركة الإسلامية لهذه الأنظمة تباينا كبيرا ونظرتنا أنه يمكن التعاون معها فيما فيه مصلحة المسلمين وإنكار ما عدا ذلك إعذارا إلى الله، ونصيحة للأمة حكاما ومحكومين، وبيان حكم درجة كل مخالفة حتى ما يبلغ منها مبلغ الكفر الأكبر مع التأكيد على أن المعين لا يكفر إلا بعد أن تقوم عليه الحجة، ويحكم بقيامها عليه أهل العلم، وهذا التعاون دليله قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) رواه البخاري.
ورغم هذا التباين؛ ولأن الأنظمة في البلاد الإسلامية هي التي تحكم بالفعل، وتملك الجيوش والعدد والعتاد، وتدير الثروة وتحدد السياسة الخارجية، وتحدد السلم والحرب إلى آخر هذه القائمة الطويلة من مهام الدول والحكومات.
فنجد أن كل الإسلاميين على اختلاف مواقفهم من الأنظمة يطالبونها باتباع سياسة "الإباء" بإزاء سياسة الغطرسة الإسرائيلية والأمريكية.
وهذه فرصة ذهبية لهذه الأنظمة لكي تحل قدرا من إشكالية علاقتها بالإسلاميين حيث يعترف الجميع بالأمر الواقع من أنها سلطة حاكمة بالفعل، وفي واقع الأمر فإن ملف السياسة الخارجية لا يقل أهمية في عرف الحركة الإسلامية عن تطبيق الشريعة في الداخل فضلاً عن التداخل الكبير بينهما.
فإن سياسة "الإباء" الخارجية سوف يترتب عليها تحسن كبير في ملفات التشريع الداخلية فيما يتعلق بالجوانب القضائية والاقتصادية والاجتماعية.
ولا شك أن الأنظمة الحاكمة قد تختلف مع الحركة الإسلامية في كثير من القضايا، إلا أن بعض القضايا قد لا يختلف عليها عاقلان فضلاً عن مسلمين.
ومنها، مثلاً اتخاذ موقف داعم ومؤيد لحركات المقاومة الإسلامية ضد إسرائيل حيث تتضافر عدة عوامل تؤدي جميعها إلى أهمية هذا الموقف.
ومن هذه المواقف التي ينبغي ألا يـُختلف عليها أن الرد الأمثل على التهديد الإسرائيلي بإلغاء معاهدة السلام هو القبول بهذا الإلغاء أو على الأقل التهديد بمثله، بل الاستباق بطرح هذا التهديد حتى وإن لم يرقَ إلى الفعل.
فلماذا إذاً كان رد فعل الأنظمة دون ما يطلبه الدعاة -بل وتطلبه الشعوب- بكثير؟
كثيراً ما تعتذر الأنظمة بأن الشعوب تحركها حماسات غير محسوبة، وأن فاتورة الإباء فاتورة باهظة لا تقدر الدول على تحملها وأن المتحمسين لها سيكونون أول اللائمين على الدول التي وضعت شعوبها في هذه المواجهات.
وقد استدل لهم بعض من أدلى بدلوه في المسألة بما همَّ به -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الأحزاب من مصالحة "غطفان" على أن يرجعوا عن المدينة على أن يعطيهم ثلث ثمر المدينة، والاستدلال بهذه القصة باطل من أساسه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما همّ برد جزء من الأعداء بمال يدفعه لهم، وخسارة المال لا يمكن أن تقارن بخسارة الدين -فضلا عن محاربته والدوران في فلك من يريد إبعاده عن حياة الأمة، والقبول بخططهم في محاربة الالتزام وإبعاد الملتزمين عن مواقع التأثير في المجتمع-، وكان هذا التصرف في غزوة واحدة، وكانت للتفرغ للعدو الأشد عداوة إلى آخر هذه الفروق، إلا أننا لو غضضنا الطرف عنها، فسنقول: إن الصمود والإباء له ثمن بلا شك، وإن الأمر في ذلك يرجع إلى الشعوب.
نحن نستوعب أن أمريكا رفعت لافتة: "من ليس معنا فهو علينا"، ونستوعب أن فاتورة "الإباء" قد تكون باهظة في كثير من الأحيان.
ولكن لماذا لا تعيد الأنظمة الكرة إلى ملعب الشعوب الذين يخرجون في مظاهرات غاضبة، ويهتفون من هنا ومن هناك، وتصارحهم بالأخطار التي تنتظرهم إن اختاروا الإباء، فإذا اختارت الشعوب الإباء ازداد الأمر مشروعية، وكانت فرصة في أن تعاد صياغة الأمم، وتحدث مشروعية جديدة حقيقية للأنظمة الحاكمة.
وإن رفضوا علم المطالبون بذلك أن مشكلتهم مع الشعوب لا مع الأنظمة، فليتوجهوا إليهم بالدعوة والبيان.
ولم لا نستفيد من التجربة التركية التي صدَّرت العالمانية إلى العالم الإسلامي كله، ولكنها استجابت لنبض الشارع، وظهر أثر ذلك في سياستها الخارجية في موضوع غزة واضحا مع أن دستورها ما زال علمانيا قحا في حين أن دستورنا ينص على أن: "الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع" بما يعني أنه أكثر إسلامية من الدستور التركي مع أن الجميع مطالب بالتطبيق الشامل والكامل للإسلام، وأنه المرجعية الوحيدة لكل جوانب حياة الأمة.
وعلى أية حال تحتاج الحركة الإسلامية إلى تربية الناس على معاني البذل والتضحية حتى تكون مطالبتها باتخاذ مواقف "الإباء" أكثر منطقية.
وعلى الحكومات التي ترى ما يصاغ من مؤامرات أن تعود إلى الإسلام؛ لأنه دينها الذي تعلنه ودين شعوبها، ولأنه مهما أبدت مرونة في مواقفها؛ فإن طمع الأعداء لا ينتهي عند حد، ولابد وأن يصل في لحظة إلى درجة لابد معها من رفض، وفي هذه الحالة الاضطرارية ستكون ثمن الفاتورة أكبر وأكبر، وربما كان الناس مع كثرة مخاطبتهم بأننا لا نستطيع دفع الفاتورة على التحمل أضعف وأضعف.
وبعد.. فهذه دعوة للتأمل أفرزتها الأحداث فهل تجد آذانا صاغية لعل الأمة أن تفيق وتسترد شيئا من مجدها الضائع والمسلوب؟؟
الموضوع : الدعاة والشعوب والحكومات... من يدفع ثمن الإباء؟ المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya