وعندها
يمكن أن تتسع جبهة المنافقين المنحازين إلى أعداء الأمة أكثر وأكثر؛
ليكونوا كهؤلاء الذين رأيناهم وسمعنا بهم أثناء أحداث غزة، وقبلها، وبعدها،
يقفون في خندق المحاربين ضد المسلمين.
سياسات التطبيع بأشكالها
وأنواعها، وبآثارها الضارة، وثمارها المرة، لم تجد من أهل العلم فتوى
جماعية، أو بحوثًا شرعية، ولم تجد أيضًا من مشاهير الدعاة وطلبة العلم
الشرعي ـ حسب اطلاعي ـ من يعد فيها دراسات مؤصلة، تتضمن نقولًا مفصلة في
حكم أنواعها وأطرافها، وما يتعلق بإجراءات فرضها وتقنينها، وتطبيع مشاعر
الأمة طلبًا للمزيد من تعميمها.
أمتنا في حاجة إلى تفصيل الأحكام
في ذلك الفعل الشنيع المسمى بالتطبيع، ليظهر للناس أثر مصادمته لأصول في
العقيدة، فضلًا عن مناقضته لمحكمات من الشريعة، بل ولمسلمات في المصالح
الدنيوية، التي أثبتـت العلاقات "الطبيعية" التي أقامتها بعض الدول مع
اليهود، تعرض تلك الدول لأخطار داهمة ما دامت تلك العلاقات قائمة.
سادسًا:
قضية "الشرعية"، التي لا يكف العلمانيون عن صرعة المطالبة باحترامها وصداع
الخضوع لأحكامها، مرة باسم "الشرعية الدستورية والقانونية"، ومرة باسم
"الشرعية الدولية والأممية"، ومرة باسم "الشرعية النظامية" لزعيم أو قائد
أو نظام محلي أو إقليمي، كل هذه "الشرعيات" تحتاج إلى إعادة نظر في
شرعيتها؛ لنبقي على الشرعي منها، ونسحب الشرعية مما لا يتوافق مع شريعتنا.
فالأصل
في الامتثال والاحترام في ديننا؛ هو حدود الحلال والحرام، وهذا لا يُعرف
ولا يُفرض إلا بوحي صادق، ودليل ناهض، وعلم صادر عن أمناء عدول، أما ما دون
ذلك من "شرعيات" مفروضة فرضًا، فلابد لأن يكون للدين فيها كلمة، ولأهل
العلم منها موقف.
وقد كان من عجيب أمر "الشرعيات" المفروضة مؤخرًا،
أن أسبغ النظام العربي الشرعية على فاقد الشرعية "محمود عباس" في مؤتمر
وزراء الخارجية العرب أثناء العدوان على غزة، مع أنه مع افتقاده للشرعية
الإسلامية بخيانته للقضية؛ أصبح فاقدًا للشرعية القانونية والدستورية
الوضعية بانتهاء مدته الرئاسية!!
ولأجل شرعيته المفروضة تلك؛ تقرر
ألا يُتعامل إلا معه، ولا يُعترف في فلسطين إلا به، سواء في التفويض
لاستمرار مفاوضات العار، أو في تولي المسئولية المالية في عمليات الإعمار،
التي يُراد من ورائها أعادة تأهيله هو أو من يأتي على شاكلته، ليظل عملاء
العلمانيين وحدهم هم المفوضين ـ عربيًّا ـ بدور "الشرعية" في كل ما يتعلق
بفلسطين وشعبها وأرضها ومقدساتها!!
ومن المفارقات الدالة على لعب
العلمانية العربية بنا، أنها سلبت "الشرعية" عن حركة حماس الإسلامية،
فاعترفت للبهائي العلماني "عباس" باستبعادها وعدم الاعتراف بها، مع أنها ـ
وفق مفاهيمهم الديمقراطية الانتقائية ـ هي الحكومة الأولى بالشرعية؛
لاختيار الشعب لها ووقوفه وراءها!!
وأقول بمناسبة "الشرعيات"
أيضًا، إلى متى يستمر سحب الشرعية من ولايتنا العلمية "أهل الحل والعقد" من
قِبَل النظام العربي كله، حتى أننا لم نسمع في مؤتمر قمة من القمم العربية
في اجتماعاتها العلنية أو السرية، أنها قد استضافت ـ ولو من باب الاستضافة
الشرفية ـ أي أعضاء أو ممثلين لأي هيئة علمية أو شرعية، للمشاركة أو
المراقبة ـ دعنا من المحاسبة ـ فيما يتعلق بالقرارات المصيرية المتخذة باسم
الأمة المحمدية!!
بل لم نسمع أن هؤلاء دعوا ـ ولو مرة ـ بعد
انتهاء القمم، إلى المشاورة ـ مجرد المشاورة ـ في شأن تفاصيل بنود تلك
العهود والعقود التي يُلزِمون الأمة كلها باحترامها والوفاء بها، مع أن أهل
القمم هؤلاء لا يكفون عن إغاظتنا بالأحضان الحارة لأعدائنا المعتدين،
وبالهمسات "التشاورية" في آذان الصم البكم الذين لا يعقلون، من أمثال
"بلير" و"بيريز" و"ساركوزي" و"بان كي مون"!!
كم تحتاج تلك
"الشرعيات" التي ترعى استمرار إذلال أمتنا تحت أقدام الطغاة، إلى من يقرب
إلى الناس فهم أبعادها التآمرية، التي تحيل الباطل حقًا، والصواب خطئًا،
والمنكر معروفًا والمعروف منكرًا.
هل هي مصادفة؟
غريب
أن تخلو مكتباتنا الإسلامية، ورفوف كلياتنا الشرعية والسياسية والقضائية
والحقوقية، إلا من أقل القليل، من الدراسات التطبيقية الموضوعة وفق قواعد
علمية، في مثل تلك النوازل الكبرى المتعلقة بالعلاقات والمعاهدات
والاتفاقيات المقامة والمعقودة باسم الأمة مع كل الأصناف من أعداء الأمة؟
فهل
حوصرنا فقهيًّا وعلميًّا بالإرهاب الفكري من العلمانيين، ومن بعض
المحسوبين على الإسلاميين، الذين جعلوا من سلاح التشهير بالتكفير، ومن
تهويلات الاتهامات بفكر الخوارج، أمضى أسلحة ضد من يتحدث عن تنزيل ثوابت
العقيدة ومحكمات الشريعة على واقعنا المأزوم؟!
إن أكثر مؤسساتنا
العلمية الرسمية أو شبه الرسمية ـ مع ما فيها من خير كثير ـ تظل تبحث
وتبحث، لتنشر وتنشر، ولو في أخطاء أو أخطار افتراضية أو وهمية؟! ومع أن
هناك صحوة علمية، قد نفع الله بها كثيرًا، وغطت كثيرًا من الأمور النظرية،
إلا أن هناك غفوة في إسقاطاتها الواقعية، ساهمت في التلبيس والتدليس على
الناس، فكيف تفهم الأمة في ظل ذلك ما يدور حولها، مما يُدار باسمها، ويُدبر
لأجيالها؟
لا أعفي نفسي من التقصير، ولكن نار غزة التي لا يزال
وميض فحمها مضيئًا تحت الرماد، أسالت المداد، فكتبت ما كتبت، وقد اقتصرت
على شيء مما يتعلق بما يحيط بقضية فلسطين، وما تفرع منها مؤخرًا في غزة،
لكن يمكنني إضافة الكثير والكثير إلى قائمة الموضوعات التي تحتاج من
الاتجاه السلفي على وجه الخصوص، بتياراته العلمية والسياسية أن ينشط في
بسطها وتقريبها، بدراسات علمية، لا تصريحات صحفية وبمعالجات محكمة، لا بخطب
مرتجلة وبمبادرات متأنية، لا بردود فعل آنية.
فهذا هو دور أهل
العلم وطلاب العلم ومحبي العلم، كلٌ بحسبه، أما أن يُترك كل ذلك دون أن
يتخصص أحد في التصدي له بحثًا أو فتوى أو تأليفًا بعلم وعدل؛ فإننا سنظل
نسلم مشكلات الأجيال القائمة إلى الأجيال القادمة، لكن بعد أن تكبر، وتتعقد
أكثر وأكثر!!
إن بحث مثل تلك القضايا ولو من باحثين عاديين لكي
يعرضوها على علماء راسخين، ليقولوا فيها كلمتهم ويصدروا بشأنها فتاواهم؛ هو
الحل الناجح ـ في رأيي ـ لوقف مسلسل الاستهتار واللعب بالنار من أولئك
العلمانيين، الذين أدمنوا العبث بمحكمات الدين، في ظل ما يشبه عقد "أمان"
أُعطي لهم، مهما خانوا العهود، وأسقطوا السدود، وبدلوا نعمة الله كفرًا!!
الموضوع : قبل أن تبرد النار .. عاجل إلى أصحاب العلم والرأي والقرار المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya