ذكر جماعة من الفاضلات
بعد الصحابيات بشرف أو علم أو تعبُّد أو كرم
1 ـ عابدة من أهل
المدينة:
عن عبد الله بن أسلم عن أبيه عن جده
قال: بينما أنا مع عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ وهو يعسّ المدينة إذ أعيا،
فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه، قومي إلى
ذلك اللبن فامذقيه بالماء.
فقالت: يا أمتاه وما علمت ما كان من عزمة أمير
المؤمنين اليوم. قالت: وما كان من عزمته يا بنيّة؟ قالت: إنه أمر منادياً، فنادى
ألا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنيّة قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك
في موضع لا يراك عمر.
فقالت الصبية لأمها: ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في
الخلاء. وعمر يسمع ذلك، فقال: يا أسلم علِّم الباب، واعرف الموضع، ثم مضى في
عشيّته، فلما أصبح، قال: يا أسلم، امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول
لها، وهل لهم من بعل.
قال: فأتيت الموضع، فنظرت، فإذا الجارية أيِّم، وإذا تلك
أمها: وإذا ليس لهم رجل، فأتيت عمر فأخبرته، فدعا ولده فجمعهم، قال: هل فيكم من
يحتاج إلى امرأة أزوِّجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه
الجارية.
فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: لا
زوجة لي، فزوجني. فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتاً، وولدت
البنت عمر بن عبد العزيز.
2 ـ ذكر زوجة شريح
القاضي:
قال الشعبي: قال لي شريح
عليكم بنساء بني تميم، فإنهن النساء. قلت: كيف؟ قال: انصرفت من جنازة يوماً، فمررت
بدور بني تميم، فإذا امرأة جالسة على وسادة، وتجاهها جارية زؤود لها ذؤابة،
فأعجبتني فقلت: من هذه؟ قالت: ابنتي، قلت: فمن؟.
قالت: هذه زينب بنت جدير إحدى
نساء بني تميم.
قلت: أفارغة أم مشغولة؟
قالت: فارغة. قلت: أفتزوجينها؟ قالت:
نعم، إن كنت كفوءاً، ولها عمّ، فاقصده. فأرسلتُ إلى مسروق وأبي بردة وغيرهما،
فوافينا عمَّها فقال: ما حاجتك؟ قلت: بنت أخيك زينب بنت جدير. فزوجني، ثم زُفّتْ
إليّ.
فلما خلا البيت قلت لها: إن من السنّة أن تصلي ركعتين، وأسأل الله تعالى
خير ليلتنا. فالتفت، فإذا هي خلفي تصلي.
ثم التفت، فإذا هي على فراشها، فمددت
يدي، فقالت: على رسلك إني امرأة غريبة، ووالله ما سرت سيراً قط أشدّ عليّ منه، وأنت
رجل غريب لا أعرف أخلاقك، فحدثني بما تُحب فآتيه، وما تكره فأنزجر عنه. فقلت: أحب
كذا، وأكره كذا. فقالت: أخبرني عن أختانك، أتحب أن يزوروك؟ قلت: ما أحب أن يملّوني،
فبتُّ بأنعم ليلة.
ثم أقمت عندها ثلاثاً، ثم رجعت إلى مجلس القضاء، فكنت لا أرى
يوماً، إلا وهو أفضل من الذي قبله، حتى إذا كان رأس الحول، دخلت منزلي فإذا عجوز
تأمر وتنهى.
فقلت: يا زينب، من هذه؟ قالت: أمي. قلت: حياك الله بالسلام. قالت:
كيف أنت وزوجتك؟ قلت: على خير. قالت: إنْ رابك ريب فالسوط. قلت: أشهد أنها ابنتك.
فكانت كل حول تأتينا فتقول هذا، ثم تنصرف، فما غضبتُ عليها إلا مرّة، كنت لها فيها
ظالماً، كنت أمام قومي، فسمعت الإقامة، وقد رأيت عقرباً، فعجلت عن قتلها، وكفأت
الإناء عليها، وقلت: لا تحركي الإناء حتى أجيء، فعجلت الإناء فضربتها العقرب، فجئت
وهي تلوي، فلو رأيتني يا شعبي وأنا أفرك إصبعها في الماء والملح، وأقرأ
عليها.
وكان لي جار لا يزال يضرب امرأته فقلت:
رأيتُ رجالاً يضربون
نسَاءَهم
فشلّتْ يميني يومَ أضربُ زينبا
يا شعبي: وددت أني قاسمتها
عيشي.
3 ـ خنساء بنت عمرو
النخعيّة:
لما اجتمع الناس بالقادسية، دعت خنساء
بنت عمرو بنيها الأربعة، فقالت: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم، وما بنت بكم
الدار، ولا أقحمتكم السنة، ولا أرداكم الطمع، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو
رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيَّرت
نسبكم، ولا وطأت حريمكم، ولا أبحت حماكم، فإذا كان غداً، فاغدوا لقتال عدوكم،
مستنصرين الله، مستبصرين.
فغدوا، وقاتلوا، وكانوا إذا جاؤوا بأعطيتهم يصبونها في
حجرها، فتقسم ذلك بينهم حفنة حفنة، فما يغادر واحد من عطائه
درهماً.
4 ـ سُكينة بنت الحسين
بن علي بن أبي طالب:
واسمها آمنة، وقيل: سكينة لقب عُرفت
به، كانت من أهل الجمال والأدب والفصاحة بمنزلة عظيمة، وكان منزلها يألف الأدباء
والشعراء، وتزوجت عبد الله بن الحسن بن علي، فقُتل بالطائف قبل أن يبني بها، ثم
تزوجها مصعب بن الزبير، ومهرها ألف ألف درهم، وحملها أخوها علي بن الحسين فأعطاه
أربعين ألف دينار، فولدت له الرباب، وكانت تلبسها اللؤلؤ، وتقول ما ألبسها إلا
لتفضحه.
5 ـ فاطمة بنت الحسين بن
علي بن أبي طالب:
تزوجها الحسن بن الحسن بن علي، وذلك
أنه خطب إلى عمه الحسين، فقال: يا ابن أخي، قد انتظرت هذا منك، انطلق معي. فخرج
معه، حتى أدخله منزله، ثم أخرج إليه ابنتيه فاطمة وسكينة فقال: اختر، فاختار فاطمة،
فزوّجه إياها، فلما حضرت الحسن الوفاة. قال لفاطمة: إنك امرأة مرغوب فيك، وكأني
بعبد الله بن عمرو بن عثمان، إذا خرج بجنازتي، قد جاء على فرس مرجّلاً جمّته لابساً
حلّته، يسير في جانب الناس، يتعرض لك، فانكحي من شئت سواه، فإني لا أدع من الدنيا
ورائي همَّاً غيرك.
فقالت له: أنت آمن من ذلك،
والجنة بالإيمان من العتق والصدقة، فوافى عبد الله بن عمرو في الحال الذي وصف، فنظر
إلى فاطمة حاسرة تضرب وجهها، فأرسل إليها أن لنا في وجهك حاجة فارفقي به، فاسترخت
يداها، وعرف ذلك منها، فلما حلت، أرسل يخطبها، وقالت: كيف بيميني؟ قال: لك مكان كل
مملوك مملوكان، ومكان كل شيء شيئان، فعوضها من يمينها، فنكحته، وولدت له محمد
الديباج، والقاسم، ورقية.
6 ـ عائشة بنت طلحة بن
عبيد الله بن عثمان التيمية:
أمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق ـــ
رضي الله عنه ـــ كانت فائقة في الحسن، فتزوجها مصعب ابن الزبير، وأمهرها خمسمائة
ألف درهم، وأهدى لها مثل ذلك، ودخل عليها يوماً، وهي نائمة، ومعه لؤلؤ قيمته عشرون
ألفاً، فأيقظها، ونثر اللؤلؤ في حجرها.
فقالت له: نومتي كانت أحب إليَّ من هذا
اللؤلؤ، وحجت، ومعها ستون بغلاً عليها الهوادج والرحائل، وقدمت في آخر عمرها على
هشام بن عبد الملك، فأمر لها بمائة ألف درهم.
7 ـ ذكر أم البنين بنت
عبد العزيز بن مروان أخت عمر:
كانت من الأجواد الكرماء، وكانت تقول:
لكل قوم نهمة في شيء، ونهمتي في الإعطاء. وكانت تعتق كل جمعة رقبة، وتحمل على فرس
في سبيل الله عز وجل، وتقول: أف للبخل لو كان قميصاً لم ألبسه، ولو كان طريقاً لم
أسلكه.
8 ـ الخيزرانة بنت
نجيح:
بربرية اشتراها المهدي وتزوجها، فولدت
له الهادي والرشيد، وكانت عليها مائتي ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ولما وُلِّيَ
محمد بن سليمان البصرة أهدى إليها مائة وصيفة بيد كل وصيفة جام من ذهب مملوء مسكاً.
فقبلت ذلك منه، وكتبت إليه: عافاك الله إن كان ما وصل إلينا منك ثمن رأينا فيك، فقد
بخستنا القيمة، وإن كان وزن ميلك إلينا فظنّنا بك فوقه. ولما ماتت شدَّ الرشيد
وسطه، وأخذ بقائمة السرير، ومشى حافياً حتى أتى مقابر قريش.
9 ـ زبيدة
بنت جعفر بن المنصور:
ولدت في زمن المنصور، وكان
يرقصها ويقول: أنت زبدة، وأنت زبيدة. فغلب عليها هذا الاسم، وتكنى أم جعفر وأمة
العزيز، وليس في بنات هاشم عباسية ولدت خليفة إلا هي، وكانت معروفة بالخير والأفضال
على العلماء والفقراء، ولها آثار كثيرة في طريق مكة والحرمين الشريفين، وساقت الماء
من أميال حتى أوصلته بين الحل والحرم، ووقفت أموالها على عمارة الحرمين، وحجت،
فبلغت نفقتها أربعة وخمسين ألف ألف.
وقالت للمأمون عند دخوله بغداد: أهنيك
بخلافة قد هنأت نفسي بها عنك قبل أن أراك، ولئن كنت قد فقدت ابناً خليفة لقد عوضت
ابناً خليفة لم ألده، وما خسر من اعتاض مثلك ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل
الله أجراً على ما أخذ، وإمتاعاً بما عوض. فقال المأمون: ما تلد النساء مثل هذه،
وماذا أبقت في هذا الكلام لبلغاء الرجال؟.
10 ـ عُلَيَّة بنت
المهدي:
أمها أم ولد، اسمها مكنونة، اشتُريت
للمهدي بمائة ألف درهم، فولدت عليّة، وكانت من أجمل النساء، وأظرفهن، وأكملهن عقلاً
وأدباً ونزاهة وصيانة وظرفاً، وكان في جبهتها سعة تشين، فاتخذت العصابة المكللة
بالجوهر، لتستر بها جبينها، وهي أول من اتخذها.
وكانت كثيرة الصلاة، ملازمة
للمحراب، وقراءة القرآن.
وكانت تتزيَّن وتقول: ما حرم الله شيئاً إلا وقد جعل
فيما أحل عوضاً منه، فبماذا يحتجّ العاصي؟ وكانت تقول: اللهم لا تغفر لي حراماً
أتيته، ولا استفزني لهو إلا ذكرت نسبي من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقصرت عنه،
ولها شعر مليح مثل قولها:
كتَمْتُ اسمَ الحبيبِ عن العبادِ
وردَّدُت
الصَّبابةَ في فؤادي
فَوا شَوقي إلى بلدٍ خليَ
لعلي باسمِ مَن أهْوَى
أُنادي
11 ـ بوران بنت الحسن بن
سهل:
تزوجها المأمون، ومضى
للبناء بها إلى معسكر الحسن، بفم الصلح، فدخل عليها، فنثرت عليها جدتها ألف درة
كانت في صينية من ذهب، وفرش له حصير من ذهب، ونثر عليه الدرّة، فقال المأمون لمن
حوله من بنات الخلفاء: شرفن أبا محمد، فأخذت كل واحدة درة، وأشعل بين يديه شمعة
عنبر وزنها مائة رطل، ونثر على القواد رِقَاع فيها أسماء ضياع، فمن وقعت بيده رقعة
أُشهد له.
يا نفسُ صبراً إنها ميتة
مجرَّعها الكاذب والصّادقُ
ظن بنات
أنَّني خُنْتُه
روحي إذاً، من جسدي، طالقُ
12 ـ بدعة جارية
عريب:
مولاة المأمون كانت مغنِّية، فبذل
إسحاق بن أيوب لمولاتها في ثمنها مائة ألف دينار، وللسفير بينهما عشرين ألفاً،
فدعتها، فأخبرتها بالحال، فلم تؤثر البيع، فأعتقتها من وقتها، فلما ماتت خلفت مالاً
كثيراً وضياعاً ما ملكها رجل قط.
13 ـ شجاع أم
المتوكل:
كانت كريمة من مسرورات النساء، حجَّت
فشيَّعها المتوكل، فلما صارت إلى الكوفة، أمرت لكل رجل من العباسيين والطالبيين
بألف درهم، ولأبناء المهاجرين بخمس مائة درهم، ولكل امرأة من الهاشميات بخمس مائة
درهم، ولكل امرأة من المهاجرين بعشرة دنانير، ثم خلفت من العين خمسة آلاف دينار،
وخمسين ألف دينار، ومن الجوهر ما قيمته ألف ألف دينار.
14 ـ شغب، أم
المقتدر:
كان يُرفع لها من ضياعها كل عام ألف
ألف دينار، وكانت تتصدق بأكثر ذلك، وتواظب على مصالح الحاج، وتبعث خزانة الشراب
والأطباء معهم، وتأمر بإصلاح الحياض، فلما قتل ولدها، وولي القاهر، عاقبها، فأخذ
منها مائة ألف وثلاثين ألف دينار.
15 ـ عابدتان مدنيتان:
بلغنا عن عبد الله ابن أخت
مسلم بن سعد أنه قال: أردت الحج فدفع إليّ خالي عشرة آلاف درهم، وقال لي: إذا قدمت
المدينة فانظر إلى أفقر أهل بيت في المدينة، فأعطهم إياها، فلما دخلت سألت عن أفقر
أهل بيت في المدينة، فأعطهم إياها، فلما دخلت سألت عن أفقر أهل بيت في المدينة،
فدُللت على أهل بيت، فطرقت الباب فأجابتني امرأة، من أنت؟ فقلت: رجل من أهل بغداد،
أودعت عشرة آلاف، وأمرت أن أسلِّمها إلى أفقر أهل بيت بالمدينة، وقد وُصفتم لي،
فخذوها، فقالت: يا عبد الله إنَّ صاحبك اشترط أفقر أهل بيت، وهؤلاء الذين بإزائنا
أفقر منَّا.
فتركتهم، وأتيت أولئك فطرقت الباب فأجابتني امرأة، فقلت لها مثل
الذي قلت لتلك المرأة، فقالت: يا عبد الله نحن وجيراننا في الفقر سواء، فاقسمها
بيننا وبينهم.
16 ـ عابدة
مكية:
قال مالك بن دينار: رأيت بمكة امرأة
من أحسن الناس عينين، وكنّ النساء يجئن فينظرن إليها، فأخذت في البكاء.
فقيل
لها: تذهب عيناك، فقال: إن كنت من أهل الجنة، فسيبدلني الله عينين أحسن من هاتين،
وإن كنت من أهل النار، فسيصيبني أشدّ من هذا. فبكت حتى ذهبت إحدى
عينيها.
17 ـ عابدة
أخرى:
قال ابن أبي رواد: كانت عندنا امرأة
بمكة تُسبِّح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة فماتت، فلما بلغت القبر اختلست من أيدي
الرجال.
18 ـ عابدة
أخرى:
قال هشام بن حسّان: خرجنا حجاجاً،
فنزلنا منزلاً، فقرأ رجل منا: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ
جُزْء مَّقْسُومٌ } (الحجر: 44) فسمعت امرأة، فقالت: أعد. فأعاد، فقالت: خلَّفت لي
في البيت سبعة أُعبُد، أشهدكم أنهم أحرار لوجه الله تعالى، لكل باب واحد
منهم.
19 ـ عابدة
أخرى:
كانت تأوي إلى سراب، فقيل لها:
كيف ترضين بهذا؟ فقالت: هذا لمن يموت كنز.
20 ـ عابدة أخرى من أهل
بغداد:
كانت جوهرة امرأة أبي عبد
الله البرائي جارية لبعض الملوك فعتقت، فخلعت الدنيا، ولزمت أبا عبد الله البرائي،
فتزوج بها، وتعبدت، فرأت في المنام خياماً مضروبة، فقالت: لمن هذه؟ فقيل: للمتهجدين
بالقرآن، فكانت بعد ذلك لا تنام، وكانت تقول لزوجها: كاروان برفت؛ أي قد سارت
القافلة.
21 ـ امرأة يوسف بن
أسباط:
قرأت على أبي الفضل بن منصور بسنده
إلى محمد بن عياش قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: استأذنتني أهلي أن تزور أباها،
فقبضت على كمها بين المغرب والعشاء، وذهبت بها حتى أديتها إليهم، وقعدت على الباب
حتى خرجت فرددتها، فما رجعت نفسها إليها سنة.
22 ـ أخت بشر
الحافي:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل:
دقّ الباب يوماً، فخرجت، فإذا امرأة تستأذن على أبي، فأذن لها، فقالت: أنا أغزل
بالليل في السراج، فربما طفىء السراج، فأغزل في ضوء القمر، فهل عليّ أن أبيّن غزل
القمر من غزل السراج؟ فقال: إن كان عندك بينهما فرق، فعليك أن تبيِّني
ذلك.
فقالت: يا أبا عبد الله، أنين المريض شكوى؟
قال: أرجو أن لا يكون شكوى
ـــ ولكنه اشتكاء إلى الله عز وجل. فخرجتْ، فقال: يا بنيّ، اتبع هذه المرأة، وانظر
أين تدخل. فتتبعتها فإذا قد دخلت بيت بشر، وإذا هي أخته، قال: فرجعت فقلت له: محال
أن تكون مثل هذه إلا أخت بشر.
وقال عبد الله بن أحمد: جاءت مُخّة، أخت بشر إلى
أبي، فقالت: إني امرأة رأس مالي دانقان، أشتري القطن فأردنه، فأبيعه بنصف درهم،
فأتقوّت بدانق من الجمعة إلى الجمعة، فمرّ أبو طاهر الطائف، ومعه مشعل فوقف يكلم
أصحاب المصالح، فاغتنمت ضوء المشعل، فغزلت طاقات، ثم غاب عني المشعل، فعلمت أن لله
في ذلك مطالبة، فخلّصني خلصك الله. فقال: تخرجين الدانقين، وتبقين بلا رأس مال حتى
يعوّضك الله تعالى خيراً منه.
23 ـ عابدة أخرى:
سألت امرأة من المتعبدات
إبراهيم الخواص، عن تغيّر وجدَتْه في قلبها، وتغيّر في أحوالها، فقال لها: تفقَّدي.
قالت: فقد تفقدت فما رأيت شيئاً. قال: أما تذكرين ليلة المشعل؟ فقالت: بلى، فقال:
هذا التغيُّر من ذلك. فبكت.
وقالت: نعم كنتُ أغزل فوق السطح فانقطع خيطي، فمر
مشعل السلطان، فغزلتُ في ضوئه خيطاً، ثم أدخلتُ ذلك الخيط في غزلي، ونسجت منه
قميصاً ولبسته، ثم قامت، فنزعت القميص، وقالت: يا إبراهيم إنْ أنا بعته وتصدقت
بثمنه يرجع قلبي إلى الصفاء؟ فقال: إن شاء الله تعالى ذلك.
24 ـ عابدة
أخرى:
بلغني أن امرأة من أهل بغداد كانت على
قدم التقوى والمحاسبة لنفسها، فلقيها رجل، فقرص كتفها، فجاءت إلى زوجها، فقالت له:
بالله عليك، أصدقني ما الذي فعلت اليوم من الذنوب؟ فقال: قرصتُ كتف امرأة، فقالت:
فقد قُرص كتفي، فقيل لها: من أين علمت؟ قالت: أنا على قدم المراقبة والاحتراس من
نفسي، فعلمت أني أوتيت من قبله.
25 ـ عابدات
كوفيات:
كانت أم حسان مجتهدة، فدخل عليها
سفيان الثوري، فلم يرَ في بيتها غير قطعة حصير خَلق، فقال لها: لو كتبت رقعة إلى
بعض بني أعمامك لغيّروا من سوء حالك، فقالت: يا سفيان: قد كنت في عيني أعظم وفي
قلبي أكبر مذ ساعتك هذه، أما إني ما أسألُ الدنيا من يملكها، فكيف أسألُ من لا
يملكها؟ يا سفيان: والله ما أحب أن يأتي عليّ وقت، وأنا متشاغلة فيه عن الله بغير
الله. فبكى سفيان.
وقالت أم سفيان الثوري له: يا بني، اطلب العلم، وأنا أكفيك
بمغزلي، يا بني، إذا كتبت عشرة أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة؟ فإن لم ترَ ذلك
فاعلم أنه لا ينفعك.
وكانت أم الحسن بن صالح تقوم ثلث الليل، وتبكي الليل
والنهار، فماتت، ومات الحسن، فرؤي في المنام، فقيل: ما فعلت الوالدة؟ فقال: بُدِّلت
بطول ذلك البكاء سرور الأبد.
أذنب غلام لامرأة، فتبعته بالسوط. فلما قربت منه،
رمت السوط، وقالت: ما تركت التقوى أحداً يشفي غيظه.
كانت عابدة لا تنام الليل
إلا اليسير، فعوتبت في ذلك، فقالت: كفى بالموت وطول الرقدة في القبور للمؤمن
رقاداً.
26 ـ عابدات
بصريات:
كانت معاذة العدوية إذا جاء النهار
تقول: هذا يومي الذي أموت فيه، فما تفطر حتى تمسي، وإذا جاء الليل قالت: هذه ليلتي
التي أموت فيها، فما تنام حتى تصبح، وإذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق حتى يمنعها
البرد من النوم، وكانت تصلي كل يوم وليلة ستمائة ركعة، وتقول: عجبت لعين تنام، وقد
عرفت طول الرقاد في ظلم القبور، ولم ترفع رأسها إلى السماء أربعين سنة، وقتل زوجها
وابنها في غزاة، فاجتمع النساء عندها، فقالت: مرحباً، من جاءت تهنيني فمرحباً، ومن
جاء لغير ذلك فلترجع.
وكانت حفصة بنت سيرين قد قرأت القرآن، وهي ابنة اثنتي عشرة
سنة، وماتت وهي بنت تسعين سنة، ومكثت في مصلاها ثلاثين سنة لا تخرج إلا لحاجة،
وكانت جاريتها تقول: أذنبت سيدتي ذنباً عظيماً، فهي الليل تبكي كله وتصلّي، وكانت
تصوم الدهر، وتقرأ القرآن في يومين، وربما طفيت سراجها، فأضاء لها البيت حتى
تصبح.
27 ـ وكانت رابعة
العدوية:
قد بلغت ثمانين سنة كأنها الشن
البالي، وكان في بيتها كراخة بواري ومشجب قصب عليه أكفانها، فإذا ذكرت الموت
ارتعدت، وكان سفيان يقول: مُرُّوا بنا إلى المؤدبة. فدخل عليها يوماً فقال: واحزناه
فقالت: قل وا قلّة حزناه لو كنت محزناً ما هنَّاك العيش، إنما أنت أيام، فإذا ذهب
يوم مضى بعضك. وكانت تصلي الليل كله، فإذا أضاء الفجر هجعت يسيراً، ثم قامت تقول:
يا نفس، كم تنامين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم
النشور.
28 ـ حبيبة
العدوية:
وكانت حبيبة العدوية تقف بالليل إلى
السحر، وتقول: قد خلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك. فإذا جاء السحر، قالت:
يا ليت شعري هل قبلت منّي ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليّ
فأعزّى.
29 ـ عفيرة العابدة:
ودخلوا على عفيرة العابدة
فقالوا: ادعي الله لنا. فقالت: لو خرس الخاطئون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر
المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال؛ وقدم ابن أخ
لها من غيبة طويلة، فبشرت به، فبكت فقيل لها: ما هذا البكاء؟ اليوم يوم فرح وسرور.
فازدادت بكاء ثم قالت: والله ما أجد للسرور في قلبي سكناً مع ذكر الآخرة، ولقد
أذكرني قدومه يوم القدوم على الله، فمن بين مسرور ومثبور.
30 ـ عبيدة
بنت أبي كلاب:
وبكت عبيدة بنت أبي كلاب أربعين سنة
حتى ذهب بصرها، وقالت: أشتهي الموت، لأني أخشى أن أجني جناية يكون فيها عطبي أيام
الآخرة.
31 ـ عمرة امرأة حبيب
العجمي:
كانت توقظه بالليل، وتقول: قم يا رجل،
فقد ذهب الليل، وبين يديك طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا،
ونحن قد بقينا.
32 ـ زجلة
العابدة:
ودخلوا على زجلة العابدة مولاة
معاوية، وكانت قد صامت حتى اسودَّت، وبكت حتى عمشت، وصلَّت حتى أقعدت، فذكروا
العفو، فقالت: علمي بنفسي قرَّح فؤادي، وكلم قلبي، والله لوددت أن الله لم
يخلقني.
33 ـ وكانت راهبة
العابدة:
كثيرة التعبّد، فلما احتضرت قالت: يا
ذخري وذخيرتي، ومن عليه اعتمادي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبري. فماتت،
وكان ابنها يتردد إلى قبرها كل جمعة، فرآها في المنام فقال: يا أماه، كيف أنت؟
قالت: يا بني، إن للموت كربة شديدة، وأنا بحمد الله لفي برزخ محمود، نفترش فيه
الريحان، ونتوسد فيه السندس والإستبرق، إلى يوم النشور، وإنِّي لأبشر بمجيئك يوم
الجمعة، فيقال لي: يا راهبة، هذا ابنك قد أقبل، مِنْ أهلِهِ زائراً لك، فأُسرّ
بذلك، ويُسر مَنْ حوْلي من الأموات.
وتزوج رباح القيس امرأةً،
فنام في أول الليل ليختبرها، فقامت ربع الليل ثم نادته. قم يا رباح فقال: أقوم،
فقامت: الربع الآخر، ثم نادته: قم يا رباح فقال أقوم، فقامت الربع الآخر وقالت: مضى
الليل، وعسكر المحسنون، وأنت نائم ليت شعري من غرّني بك يا رباح
وكانت امرأة من
الصالحات تعجن عجينها، فبلغها موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار
لنا فيه شركاء.
وجاء أخرى موت زوجها، والسراج يشتعل، فأطفأته، وقالت: هذا زيت قد
صار لنا فيه شريك.
واختار بعض الأمراء بنات حاتم الأصم فطلب ماء، فسقي، فرمى
إليها شيئاً من المال، فوافقه أصحابه، فبكت بنيَّة صغيرة لحاتم، فقالوا: ما يبكيك؟
قالت: مخلوق نظر إلينا فاستغنينا، فكيف لو نظر إلينا الخالق سبحانه
وتعالى؟
34 ـ جارية هشام بن عبد
الملك:
عن يونس قال: اشترى هشام بن عبد الملك
جارية، وخلا بها، فقالت له: يا أمير المؤمنين، ما منزلة أطمع فيها فوق منزلتي هذه،
إذ صرت للخليفة، ولكن النار ليس لها حظر، إنَّ ابنك فلاناً اشتراني، وكنت عنده، لا
أدري أذكر ليلة ونحو ذلك، وإن لا يحل لك مسّي. قال: فحسن هذا القول منها عنده،
وحظيت، وتركها، وولاها أمرها.
35 ـ امرأة بدر
المغازلي:
عن محمد بن الحسين السلمي، قال: قال
أبو محمد الحريري: كنت عند بدر المغازلي، وكانت امرأته. باعت داراً لها بثلاثين
ديناراً، فقال لها بدر: نفرّق هذه الدنانير في إخواننا ونأكل رزق يوم بيوم، فأجابته
إلى ذلك، وقالت: تزهد أنت ونرغب نحن، هذا ما لا يكون.
36 ـ ميمونة
بنت شاقولة الواعظة:
أخبرنا محمد بن ناصر، قال
أبو علي بن المهدي، قال: أخبرني أبي قال: سمعت ميمونة بنت شاقولة الواعظة تقول: هذا
قميص له اليوم سبع وأربعون سنة، ألبسه وما تخرّق، غزلته لي أمي، وصبغته بماء
السنابك، والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرَّق سريعاً، وسمعتها تقول: آذانا جار
لنا، فصليت ركعتين، وقرأتُ من فاتحة كل سورة آية حتى ختمتُ القرآن، وقلت: اللهم
اكفنا أمره. ثم نمت، ففتحت عيني، فرأيت النجوم مصطفة، فقرأت: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 137) فلما كان السحر قام ذلك
الإنسان لينزل، فزلقت قدمه، فوقع فمات.
قال: وأخبرني ابنها عبد الصمد قال: كان
في دارنا حائط له جوف، فقلت لها: امضي استدعي البنّاء. فقالت: هات رقعة والدواة.
فناولتها، فكتبت فيها شيئاً وقالت: دعه في ثقب منه ففعلت، فبقي الحائط نحواً من
عشرين سنة، فلما ماتت ذكرت ذلك القرطاس، فقمت، فأخذته لأقرأه، فوقع الحائط، وإذا في
الرقعة {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ} (فاطر: 41)
بسم الله، يا مُمْسك السماوات والأرض أمسك.
37 ـ أم عيسى بنت
إبراهيم الحربي:
كانت عالمة فاضلة تفتي في الفقه، وهي
مدفونة إلى جانب أبيها.
38 ـ أَمَة
الواحد:
سكينة بنت القاضي أبي عبد الله الحسين
بن إسماعيل المحاملي، تُكنى أَمَة الواحد، كانت عالمة فاضلة من أحفظ الناس للفقه
على مذهب الشافعي، وكانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة.
عن أبي الحسن الدارقطني
قال: أمة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل سمعت أباها، وإسماعيل الوراق، وعبد الغفّار
بن سلامة وغيرهم، وحفظت القرآن والفقه على مذهب الشافعي، والفرائض، وحسابها،
والدرر، والنجوم، وغير ذلك من العلوم، وكانت فاضلة في نفسها، كثيرة الصدقة، مسارعة
في الخيرات، حدَّثت، وكتب عنها الحديث، وتوفيت سنة سبع وسبعين
وثلاثمائة.
39 ـ أَمَة السلام بنت
القاضي أبي بكر أحمد بن كامل:
سمعت محمد بن إسماعيل
النصلاني ومحمد بن الحسين بن حميد، روى عنها الأزهري، والتنوخي. وكانت عالمة،
عاقلة، كثيرة الفضل.
قال المصنف ـــ رحمه الله تعالى ـــ: هذه نبذة من أخبار
النساء الصالحات والفاضلات، تكتفي بسماعها وفهمها المرأة العاقلة الموفقة، فإن أحبت
زيادة في أخبار النساء، نظرت كتابنا المسمى بـ«صفة الصفوة»، فإن كانت عالية الهمّة،
سمت همتها إلى فنون العلم، فإنَّ الهمّة في القلب جوهر المهر، يحرِّكه الرائض إذا
كان عربياً جيد الأصل، فتخرج ما فيه من الجوهر، وإذا لم يكن له همّة كان مثله كمثل
الكودن لا ينفعه الرائض.
الموضوع : أعيانِ النساء المتقدِّمات في الشَّرَف، والفضْلِ، والعلم المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: ابراهيم كمال توقيع العضو/ه:ابراهيم كمال |
|